سيد الأنبياء
سيد الأنبياء
نشر بجريدة الشروق الخميس 5/11/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
كدأبه في عراضة وعمق بحثه ، ومتانة معالجته ، عرض الأستاذ العقاد في كتابه : مطلع النور : طوالع البعثة المحمدية ، عرض لنشأة كبار الأنبياء وعلاقة كل منهم بقومه ، فيتحدث عن إبراهيم خليل الرحمن ، وعن نبوة موسى ، ثم عيسى عليهم السلام أجمعين .
وقد مرَّ بنا ما كتبه عن أبى الأنبياء خليل الرحمن ، ولكنه يريد هنا أن يشير إلى أنه أيًّا كانت بدايته ، فإن الأقوال متواترة على زعامته لقومه حين هاجر بهم من جنوب العراق إلى شماله ومن شماله إلى أرض كنعان . وكانت مهمته إذن هي مهمة الزعامة المفروضة على الزعيم ، وكان عليه أن يتولى هداية قومه في شئون دنياهم وشئون دينهم ، وبخاصة حين يخشى عليهم من غضب الله ونقمته العاجلة من جرّاء المخالفة والعصيان .
فكانت نبوة إبراهيم نبوة زعيم أمين .
نبوة موسى
بعد أن ينحى الأستاذ العقاد تصورات فرويد لنبوة موسى ، يقفى بأنه ليس في سيرة موسى عليه السلام من المراجع الدينية ، ما يدل على أنه كانت له زعامة معترف بها في بنى إسرائيل ، بل فيها إنكار هذه الزعامة بالقول الصريح.
ويشير إلى ترجيح « بريستيد » ـ أحد الثقات في التاريخ المصري القديم ـ أن موسى قد تخرج من المدارس المصرية الكبرى ، واطلع على مكنونات علم الكهنة والحكماء ، وكانت له منزلة فاضلة عند ولاة الأمر لعله كان يستخدمها في الشفاعة لقومه والعلم بنيات الولاة وأوامرهم فيما يمس شئونهم ، فتعود عقلاؤهم أن يلجأوا إليه ويوسطوه ليستشفعوا به فيما ينوبهم من ظلم وسوء الحال .
ولا خلاف فيما يرى على الصورة التي تخيلها « مايكل أنجلو » للرسول العظيم ، أنه يؤخذ من أوصافه أنه كان وديعًا حليمًا جدًّا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض كما جاء في سفر العدد من العهد القديم ، وأنه كان يشكو من حبسة في لسانه كما قال هو عن نفسه في سفر الخروج .
ولم يخطر له بادئ الرأي أن يقود قومه في خروجهم من مصر ، ولم يكن على أهبة للرسالة الدينية قبل هجرته إلى صحراء سيناء ولقائه في أرض مدين للنبي العربي الذي يرجح الأكثرون ـ ويؤكد القرآن ـ أنه النبي « شعيب » .
ويضيف الأستاذ العقاد أن السنوات التي قضاها موسى عليه السلام إلى جوار نبي مدين ، كانت هي فترة الاستعداد والرياضة الروحية والتدبر الطويل فيما يمكن عمله لإخراج بنى إسرائيل من مصر وإحلالهم حيث حل على مقربة من سيناء وكنعان .
فلما عاد موسى إلى مصر ليخرج بقومه ، كان هذا الخروج حيلة مَن لا حيلة له في البقاء ، ودعاهم إليه باسم الله فأطاعوه بعد لأىي ومجاهدة .
والمؤكد أنه لا يفهم من أي حادث من حوادث الرحلة أن القوم كانوا يؤثرون الفرار حرصًا على عقيدة دينية ، بل لقد أسفوا على ما تعودوا عليه من مراسم دينية في مصر .
وقد هجر موسى مصر بعد مقتل المصري وتهديد بنى إسرائيل له ـ قبل غيرهم ـ بالإبلاغ عنه ، فضلاً عن خشيته من ولاة الأمور .
ولم يخطر له قبل تلك الهجرة أن يقنع قومه بالرحيل من الديار المصرية ، ولكنه بعد ما اختبره في الصحراء وسمعه عن نبي مدين ، طاب له مقام البادية فلم يستعظم دعوة قومه إلى مثل هذا المقام ، وتدبر الأمر وصحح العزم على التحول بهم إلى أرض كنعان ، وصرف الجهد الجهيد لإقناعهم بذلك باسم الإله الذي اختارهم للنجاة .
وأورد الأستاذ العقاد أمثلة لما كان موسى عليه السلام يحذرهم به ، من سفر التثنية بالعهد القديم .
ولا يغير من هذه الحقيقة ما يقال ـ تأييدًا أو تفنيدًا ـ عن نسبة الأسفار الخمسة الأولى بالعهد القديم إلى موسى عليه السلام ، فقد تواترت هذه التحذيرات من أنبيائهم من عهد موسى إلى مبعث عيسى عليه السلام .
وعلى ذلك فبنو إسرائيل لم يستغنوا قط عن الإقناع المتتابع للإيمان بالإله الواحد الذي دعاهم إليه موسى ، فهو لم يتحرك من مصر فرارًا بعقيدته بل كانت هذه العقيدة هي وسيلة الإقناع بحمله على النجاة بنفسه من عواقب البقاء الذي طاب له في مصر. ولم يزل يحتاج طوال الطريق إلى تجديد هذا الإقناع في كل مرحلة ويحن إلى العودة بعد كل نقلة ، وظل كذلك بعد انتهاء أيام التيه وإيوائه إلى الفرار عند أرض كنعان .
ونشأة موسى التي يقول الأستاذ العقاد إنه عرفها من مصدرها الذي لا مصدر له غيره ـ هي التي تطابق بين هذه النشأة وبين الرسالة الموسوية كما وضحت من الكتب المنسوبة إلى موسى والكتب التي نسبت إلى الأنبياء من بعده ، فخلاصة هذه النشأة أن كليم الله تربى في مصر وخرج منها خفية بعد مقتل المصري الذي صرعه موسى انتصارًا لرجل من بنى إسرائيل ، ولم يكن خاطر الخروج ببنى إسرائيل قد خطر له أو لأحد من ذوى الزعامة بين عشائر قومه ، ولكنه عاش في البرية إلى جوار الهداية النبوية في أرض مدين ، وراض نفسه على حياة النسك والاستلهام وهو يفكر في أسرته وقومه ويزور الأرض من حوله ، وتلقى الدعوة الإلهية بعد طول التدبر والرياضة فعاد إلى مصر لإقناع قومه بدعوته وإقناع السادة الحاكمين بها إن تيسر له ذلك دفعًا للخطر عن ملته وعقيدته ، ورأى لقومه مصيرًا أكرم في البادية، ورأى أن العقيدة التي دعاهم إليها كفيلة بحمايتهم من الضياع بين العشائر والملل في أرض البادية أو أرض الحضارة .
وهذا هو حكم التوفيق بين النشأة والرسالة في حياة الكليم عليه السلام .
ولن يغيب عن القارئ أن استطراد الأستاذ العقاد في شأن نبوة موسى ، بالقياس إلى إشارته الموجزة لخليل الرحمن ، إنما مرجعه أن الظروف لم تمهله للكتابة عن موسى عليه السلام ، بينما صنف كتابًا وافيًا شاملاً عن أبى الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام .
عيسى عليه السلام
اختتم عهد النبوة والرسالة فى بنى إسرائيل بظهور عيسى عليه السلام ، ونحن فيما يقول الأستاذ العقاد ـ لا نعرف غير القليل عن نشأته وطفولته ، ولا نعرف شيئًا عن أيامه من سن الثانية عشرة إلى مبعثه في الثلاثين من عمره إلى قومه بنى إسرائيل .
وبعد إيجاز ترقب بشائر الدعوة في عصر الميلاد ، أورد الأستاذ العقاد أنه لا شك أن السيد المسيح قد اتجه بدعوته إلى إسرائيل وابتغى منها الهداية ، وهو ما قال فيه بالعهد الجديد إنه بعث « لخراف بيت إسرائيل الضالة » . ولكن السيد المسيح عمم الدعوة بعد تكرارها على القوم وعنادهم ولجاجتهم في الإعراض عنها ، فاتجه بها إلى كل مستمع لها مقبل عليها .
وقال السيد المسيح إن العاملين بالخير ذرية لإبراهيم الخليل أقرب وأوفى ممن يدعون الانتساب إليه بالسلالة ، لأن هؤلاء العاملين بالخير هم أبناؤه بالروح ، وضرب لهم المثل بوليمة العرس التي لم يحضرها المدعوون إليها كما مر بنا في كتابه « حياة المسيح » .
ولم تكن رسالة السيد المسيح رسالة تشريع ، لأن الشريعة الدينية كانت في أيدى أحبار الهيكل والشريعة الدنيوية كانت في أيدى أتباع القيصر ، ولكنه عليه السلام قد جاء بالفتح المبين الذي لم يسبقه إليه سابق من المرسلين في تصحيح الشرائع بجملتها ، فقد حطم عنها قيود النصوص ونقلها إلى المقياس الصحيح مقياس الضمير ، وأن يكون أبناء النبي هم أتباعه بالروح ، وأن يكون الخير في ضمير الإنسان لا في المظاهر ، وأن من ملك ضميره ملك كل شىء .