سمات وخصائص الخطاب القانوني الرسمي والإداري قديما (أ)
[ فصول في "اللُّغتين القانونية والأصولية "(الفصل 14) ]
بقلم/ الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
[المحامي، وأستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة والقانون – الجامعة الإسلامية ]
تتعدَّد لغاتُ الخطاب القانوني بتعدد المُخاطِبين وتنوِّع جماعة المُخاطَبين ، فلِكلّ خطاب مسالكه ومواقعه ولا يُحدِثُ أثرَه ولا يبلغُ غايتَه إن أخطاها أو جاوزها، والخطابُ القانوني الرسمي هو ما يصدر عن السلطة العامة أو أصحاب الولايات الخاصة موجَّها إلى مُخاطَبيهم برسالة صريحة وضيحة حول الشئون العامة التي تَسْتطلب إخبارا وتقتضي إجماعا، وهو خطابٌ عظيمُ الأثر جليلُ الخطر.
ويمثل هذا الخطاب القانزني تلك الوثائق التي كان تصدر عن دواوين الحكم والقضاء والولايات والإمارات العامة أو الخاصة ، وقد اتسمت بجملة خصائص ميزتها عن باقي اللغات والخطابات الأخرى غيرها ، ولنتحدث هنا عن بعض أنواع تلك الخطابات الرسمية
النوع الأول : لغة دواوين الدولة ومراسلات الولايات والإمارات (الإمارات الخاصة وإمارات الاستكفاء والاستيلاء )
وهي تلك اللغة القانونية الرسمية التي يُخاطَبُ بها الرعية، وتعبر عن إرادة السلطة العامة وعن طريقة إدارتها سواء في عاصمة الخلافات وفي الولايات والإمارات على تنوعها [انظر في تعريف الدواوين والإمارات والولايات وعموم النظام الإداري د. انور حلمي : تاريخ مصر الإسلامية صص2001 وما بعدها ، ص 237 ] ، ولا ننسى هنا كُتَّاب الديوان السلطاني، والمؤلفين في ذلك من مثل القلقشندي في صبح الأعشى، والنويري في نهاية الأرب الذي نافت أجزاؤه على (33) جزءا ومن مقدمته: “وكنت ممن عدل في مباديه، عن الإلمام بناديه؛ وجعل صناعة الكتابة فننه الذى يستظلّ بوارفه، وفنّه الذى جمع له فيه بين تليده وطارفه. فعرفت جليّها، وكشفت خفيّها..» [أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدائم القرشي التيمي البكري، شهاب الدين النويري (المتوفى: 733هـ): نهاية الأرب في فنون الأدب 1، 11 ، الناشر: دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، الطبعة: الأولى، 1423 هـ عدد الأجزاء: 33 ] .
ومن أهم أبوابه وفصوله التي يمكن الاستشهاد بها في هذا السياق ويمكن للقانونيين مراجعتها للإفادة منها : “الباب التاسع- في الوزراء، وأصحاب الملك، والباب العاشر- فى قادة الجيوش، والجهاد، ومكايد الحروب؛ ووصف الوقائع، والرباط، وما قيل فى أوصاف السلاح. والباب الحادي عشر- في القضاة، والحكام. والباب الثاني عشر- في ولاية المظالم، وهى نيابة دار العدل. الباب الثالث عشر- فى نظر الحسبة، وأحكامها» [نهاية الأرب في فنون الأدب (1/ 11)]. وكذلك «الباب الرابع عشر- في ذكر الكتّاب، والبلغاء؛ والكتابة، وما تفرّع عنها من الوظائف والكتابات، وهى: كتابة الإنشاء، وكتابة الديوان، والتصرّف، وكتابة الحكم، والشروط، وكتابة النسخ، وكتابة التعليم» [ نهاية الأرب في فنون الأدب (1/ 11) ].
وإن كان المقام يسمح لي بتنويه واختصاص فليكن للقلقشندي وكتابه العظيم: “صبح الأعشى في صناعة الإنشا» إذ إنه أكبر موسوعة في التاريخ العربي في فن الإنشاء والكتابة الرسمية الديوانية فيما يختص بأمور الدولة وعلاقاتها وتراتيبها الإدارية وكافة متعلقات ذلك، فهو وكتاب النويري من جملة الكتب موسوعية التي حوت من الأدب والطرائف وفنون صناعة الكلام والكتابات الديوانية الشيء الكثير، وعلى رغم تعدد أسمائها -على حد قول المحقق-إلا أن “عنوان الواحد من تلك الكتب قد يفهم منه أن مؤلفه يعالج فيه موضوعا واحدا، مثل كتاب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار»، فهو يشير إلى الجانب الجغرافي، أو كتاب «نهاية الأرب في فنون الأدب»، فهو يشير إلى الجانب الأدبي، أو كتاب «صبح الأعشى»، فهو يشير إلى فن الإنشاء على وجه التحديد… ولكن القارئ لأي كتاب من هذه الكتب يجده موسوعة ضخمة وفيه « تجمع بين الأدب والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والاجتماع والعلوم الدينية ونظم الحكم والتراجم والفنون والعلوم… وغيرها من ضروب المعرفة التي تجعل منه دائرة معارف ثمينة يفخر بها الفكر العربي وتعتز بها الحضارة العربية الإسلامية في العصور الوسطى» [ صناعة الإنشاء (1/ 4)]
وأنوه ببعض ما قد يحتاجه الباحث القانوني من كتاب صبح الأعشى على سبيل المثال في الضبط النوعي للألقاب كثيرة الاستعمال في الإنشاءات الرسمية للدولة ففيه: “المهيع الثاني في ذكر الألقاب والنعوت المستعملة عند كتّاب الزمان، وبيان معانيها، ومن يقع عليه كل واحد منها من أرباب السّيوف وغيرهم…»[ صبح الأعشى في صناعة الإنشاء (6/ 3) (وهي نوعان) النوع الأوّل (الألقاب الإسلامية، وهي صنفان) الصنف الأوّل (المذكّرة، وهي ضربان) الضرب الأوّل (الألقاب المفردة المختصة في اصطلاح الكتّاب باسم الألقاب) .
وهذه جملة منها مرتبة على حروف المعجم ليسهل استخراجها.] ومنها لقب (النّظاميّ) من ألقاب الوزراء ومن في معناهم، وهو نسبة إلى النّظام، وهو صورة الاجتماع والالتئام و(الوزيريّ) من الألقاب الخاصة بالوزراء من أرباب السيوف والأقلام [ صبح الأعشى في صناعة الإنشاء (6/ 34)]. و(حاكم الحكّام) من ألقاب قضاة القضاة و(حاكم أمور ولاة الزمان) من ألقاب أرباب السّيوف، وربما كتب به لبعض الملوك. و(حافظ الأسرار) من ألقاب كاتب السرّ [ انظر في ذلك د. محمود السقا: أضواء على فلسفة تاريخ القانون ص 76، وانظر ص52، 53] .
وانظر مبحثا أسماه بـ:» المكاتبة إلى ملوك .. الجانب الشماليّ من الروم والفرنجة على اختلاف أجناسهم « [صبح الأعشى في صناعة الإنشاء (8/ 411) وقد أورد كلمة (الكفار) هكذا صريحة ؟! وهي بحسب سياقها تعبر عن اشتهارها حينئذ، وكثيرا ما تطلق في سياق الحروب وإلا فالأصل أنهم يقولون ملوك الفرنجة وملوك كذا بأعيانهم أو ببلدانهم التي يحكمونها] . فهو يتجلى في هذه المباحث باعتباره ديوانا للكتابة من حيث موادها وطرائقها وأعلامها وكافة متعلقاتها إلى غير ذلك.
ومنهما أورده في (3/ 611) الفصل الثاني- من الباب الثاني من المقالة الأولى في الكلام على نفس الخط؛ وفيه ثمانية أطراف 3 الطرف الأوّل- في فضيلة الخط 3 الطرف الثاني- في بيان حقيقة الخط 6 الطرف الثالث- في وضع الخط؛ وفيه جملتان 7 الجملة الأولى- في بيان المقصود من وضعه، والموازنة بينه وبين اللفظ 7 الجملة الثانية- في أصل وضعه؛ وفيه مسلكان 9 المسلك الأوّل- في وضع مطلق الحروف 9 المسلك الثاني- في وضع حروف العربية 10 الطرف الرابع- في عدد الحروف وجهة ابتدائها وكيفية ترتيبها؛ وفيه خمس جمل 20 الجملة الأولى- في مطلق الحروف في جميع اللغات 20 الجملة الثالثة- في حروف العربية 21 الجملة الثالثة- في بيان جهة ابتداءات الحروف 23 الجملة الرابعة- في كيفية ترتيب الحروف 23 الجملة الخامسة- في كيفية صور الحروف العربية؛ وتداخل أشكالها 24 الطرف الخامس- في تحسين الخط؛ وفيه جملتان 25 الجملة الأولى- في الحث على تحسين الخط 25 الجملة الثانية- في الطريق إلى تحسين الخط 27 ]
هذا بالإضافة إلى أخبار كثيرة ونصوص وفيرة تدلنا مباشرة على الأنظمة البنائية للغة الدواوين ومتعلقاتها الرسمية، وهو ما يمكن الوقوف عليه والتماسه في الأدبيات الشرعية على تنوعها وتعددها أو في الدواوين الأدبية الكبرى وأهم هذه الأدبيات وتلك الدواوين:
أولا: كتب الحسبة:
والحسبة من الوظائف “ذات الاختصاص القضائي التي فصلت عن القضاء عهد بها إلى موظفين مخصوصين ومثلها المظالم ، الحجابة” [د.أنور حلمي : تاريخ القانون في مصر الإسلامية ص228 ] ومن كتبها الشهيرة كتاب محمد بن أحمد ابن بسام المحتسب: نهاية الرتبة في طلب الحسبة [تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل، أحمد فريد المزيدي الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان الطبعة: الأولى، 1424 هـ – 2003 م، وهذا الكتاب فيه أكثر من مائة باب من أبواب التنظيم القانوني والإداري للدولة الإسلامية قديما عدد الأجزاء: 1، وفيه على سبيل المثال: “الباب الخامس عشر في السماكين والسمك: “ينبغي أن يعرف عليهم عريفاً عارفاً بمعيشتهم، ويأمره أن يعتبر عليهم، فقد يموت السمك في الماء لفرط البرد وشدته، فيقذفه الأمواج إلى الشطوط، فيأخذونه، وانظر وجيه الدين عبد الرحمن بن علي الشيباني المعروف بـ «ابن الديبع»
(866 هـ – 944 هـ / 1461 م – 1537 م)، ألف بغية الإربة في معرفة أحكام الحسبة دراسة وتحقيق، الدكتور طلال بن جميل الرفاعي، الناشر: معهد البحوث العلمية – مركز احياء التراث الاسلامي – جامعة أم القرى، مكة المكرمة – المملكة العربية السعودية ، الطبعة: الأولى، 1423 هـ – 2002 م ]
ثانيا: كتب السياسة الشرعية
ومن أبرز أدبياتها كتاب السياسة الشرعية لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ببن تيمية (المتوفى: 728هـ) [انظر قي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ) : السياسة الشرعية، نشر وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد – المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1418هـ وكتاب ا: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751) المحقق: نايف بن أحمد الحمد الناشر: دار عالم الفوائد – مكة المكرمة الطبعة: الأولى، 1428 هـ ]
ثالثا: كتب التراتيب الإدارية
وهي تلك التصانيف التي تعالج النظام الإداري في الحضارة الإسلامية، ومن أبرزها أهمها كتاب: “التراتيب الإدارية والعمالات والصناعات والمتاجر والحالة العلمية التي كانت على عهد تأسيس المدنية الإسلامية في المدينة المنورة العلمية « لمؤلفه: محمد عَبْد الحَيّ بن عبد الكبير ابن محمد الحسني الإدريسي، المعروف بعبد الحي الكتاني (المتوفى: 1382هـ [المحقق: عبد الله الخالدي الناشر: دار الأرقم – بيروت الطبعة: الثانية ، وانظر د. أنور حلمي : تاريخ القانون في مصر الإسلامية ص 201 .]
والحاصل:
أن اللغة قديما ارتبطت بالقانون ارتباطا وثيقا – ولا زالت – من خلال ارتباطها بمصادر القانون الدينية والأخلاقية والعرفية، وعلى الإجمال يمكن استخلاص ما اتسمت به هذه اللغة القانونية في تلك الفترات من حيث:
1-تميزها بأسلوبها وألفاظها وتراكيبها الخاصة، وبالفخامة وقوة الإيقاع، وقوة الصياغة وروعة النظم وجودة الحبك وخاصة في تواقيع الحكام.
2-تميزها بالأمرية والاستعلاء حيث الطلب على سبيل الكف من القديم، كما في البرديات الفرعونية وفي مجموعات بوكخوريس ومدوناته وفي غيرها [انظر في ذلك د. محمود السقا: أضواء على فلسفة تاريخ القانون ص 76، وانظر ص52، 53 ]
3-استقلال اللغة القضائية ولغة الدواوين بتمثلاتها سابقة الذكر باعتبارها صناعة وفنا له رجلاته وأعرافه ومراسيمه ، كما عبر عنها النويري في “نهاية الأرب” وبأكثر منه القلقشندي في “صبح الأعشى في صناعة الإنشا”.