سرف التقاضي !
سرف التقاضي !
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 29/8/2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
من الظواهر التي باتت مألوفة، الإسراف الشديد جدًا فـي التقاضي، حتى حلت القضايا لدى الكثيرين محل معظم الحلول التي يجب على الناس أن يأخذوا بها قبل اللجوء إلى القضاء باعتباره الحل الأخير إذا استحالت كل الحلول !!
أسرف كثيرون في التقاضي.. حتى في مسائل الرأي والفكر، والكتابة والتأليف، والدين والعقيدة.. حتى شاع بصورة غير مألوفة ـ رفع ما صار يسمى بدعاوى الحسبة التي ترفع بلا صفة ولا مصلحة شخصية احتساباً لله سبحانه وتعالى.. وقد أدى شيوعها والخلط في معناها وغاياتها، وإسراف البعض في رفعها والخلط في مبانيها، إلى تدخل المشرع لتنظيم رفع مثل هذه الدعاوى بما يضمن عدم إساءة استخدامها في مضرة الناس والإساءة إليهم بغير مقتضى !
على أن إسراف الناس في التقاضي لم يقتصر على دعاوى الحسبة، فأسرف كثيرون في رفع الدعاوى القضائية بشتى أنواعها، الشرعية والمدنية والتجارية والإدارية فضلا عن الجنائية.. واستسهل البعض أسلوب التقاضي بدل التفاهم أو التفاوض أو التصالح أو الحوار.. ودرج البعض على استيسار رفع دعاوى مبناها رجم عباد الله بالكفر !
ومع أن القانون يعطى حق الرد لكل من يتضرر مما عساه يمسه بطريق النشر أو غيره، إلاّ أن معظم المتضررين -عن حق أو غير حق- يسارعون إلى المقاضاة، ويفضلون البلاغات أو الدعاوى الجنائية المباشرة، ربما لأنها تحقق نوعًا من الثأر أو الكيــد أو الإساءة !.. ولم يعد أحد يكتفي بحق الرد، بل وقد يصرف النظر عنه اكتفاءً بنكاية التبليغ أو الدفع إلى ساحة القضاء الجنائي بأسلوب الادعاء المباشر !
وقَلّ إلى حد الندرة من يكتفي بحكم أول درجة، فأسرف المتقاضون في استعمال كل وسائل الطعن في الأحكام، بالاستئناف ثم بالنقض، دون أن يقبل أحدٌ الارتضاء بالحكم الصادر في أي مرحلة ما دام القانون يفتح سبيلاً لاستئنافه أو الطعن عليه !
هذا الإسراف في التقاضي، ظاهرة مرضية مردّها إلى ضيق الأفق وضيق الصدور، وإلى حالة الاشتجار التي تُنحّى المنطق ولغة العقل والتفاهم.. ثم هي تبدد طاقات الأفراد والمجموع، وتصعّد المشاكل ولا تحلها !!
سرف التقاضي جعل معظم الناس في حالة اختصام واشتجار، وساهم في تجذير العداوات، وتعكير الوئام وإفساد الصلات والعلاقات، وهذا ضيق نظر وغياب عقل.. فمن يعرف جحيم التقاضي يؤثر الحلول الرضائية الاتفاقية، بل ويؤثر الصفح والغفران.
أُثر عن رسول القرآن عليه السلام، أنه أتاه رجلان يختصمان في مواريث لهما، ولم يكن لهما من بينة إلا دعواهما.. فقال عليه الصلاة والسلام لهما «إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلىّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض» أي أقدر على عرضها والإقناع بها «فأقضى على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئًا، فإنما أقطع له قطعة من نار» !.. عندئذ بكى الرجلان، وقال كل منهمـا لصاحبه: حقي لك، فقال لهما عليه السلام.. «أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما، وتوخيا الحق، ثم استهما «أي اقترعا» ثم تحالا».. أي ينزل كل منكما لأخيه عن حقه ويجعله حلالاً له .
هذا الموقف يعبر عن قاعدة لو أدركها الناس لأراحوا واستراحوا.. مبناها أنه «لو أنصف المتقاضي لاستراح القاضي».. ففي الحديث: «من خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع».. الاقتصاد في التقاضي لا يريح القضاة فقط من عناء كثرة وتعقيد الأقضيات والمنازعات، وإنما هو يقسط وينصف المتقاضي نفسه، لأنه يوفر عليه عناء وطول ومعضلات الخصومة، ويكفيه شرور العداوات وتناميها وتجذرها، ويكفل حسن الصلات ويعمر العلاقات الإنسانية بالمودة التي تزداد بالتفاهم والتآلف والتراضي، وتشتعل بالخصومات والعداوات والأقضيات !
لو أنصف المتقاضي لاستراح هو نفسه قبل أن يستريح القاضي !