زميلي الجديد جدًا
بقلم: الأستاذ/ محمود سلامة
الآن أرتكب حماقةً من حماقاتي، أكتب لك.
أكتب لك في عصرٍ لا يقرأ فيه أحد، ولا يقدر أحدٌ قيمة الكلمة، ولا يدرك أحدٌ خطورتها ومداها فائق الوصول، ودورها الهام في سلب أو جلب الحقوق، فلا تزال الكلمة أحد من شفرة الحلاقة التي أخشى أن ينسيك إياها تأخرك على جلسة أو استعجالك رزقك.
وحماقتي ليست في أنني أكتب إليك، بل أنني أكتب لك بالعربية الفصحى في غير “هريٍ” أصبح هو الشاغل الأكبر للناس والورقة الرابحة ظاهريًا.
لا تستغرب حين أقول أن الكتابة بالفصحى حماقة، فقد قلت لك ما يقول الجهلاء لأستفز غيرتك الفطرية على اللغة، فنحن في عصر “الدهلكة” و”مهرجانات” السوقة. فعندما أتحدث لأحدهم بلسانٍ عربي فصيح أجده لا يفهم معظم ما أقول، محتاجًا لترجمان ليفسر له مفرداتي.
المصيبة أن العكس هو الصحيح، فالأحمق هو المحامي الذي لا يملك من اللغة أبعد من أرنبة أنفه، الذي لا يعرف الفرق بين “الله” و”اللاة” ويظن أن عاميته لغة ذكية وكأنه يتباسط مع المحكمة مدعيًا لنفسه التفوق في الفهم، وسرعان ما يقع فريسة للازمة “النهاردا يا ريس” ويكررها أكثر من كلمات مرافعته، وينحني بكامل التقزم وهو يقول “تعلمنا في محراب عدالتكم” هذه الجملة التي هي من أشد الدلائل على فقر علمي ولغوي وانعدام تقدير للقيمة التي اكسبته المحاماة.
فالمحامي القدير هو الذي يمتلك أدوات الدفاع وعلى رأسها اللغة. وأقصد باللغة اللغة بمستوييها المنطوق وغير المنطوق. لا اقصد بغير المنطوق الكتابة، فهي منطوقة، وإنما أقصد لغة الجسد، الحركة والسكون، التعبير والتفاعل، وهي التي ستكون موضوع مقالي القادم.
أما الآن فموضوعي هو اللغة المنطوقة، والتي يجب ولزامًا على المحامي أن يتحدث بها مترافعًا، عالمًا بالنحو والصرف ضليعًا بالإعراب، بليغًا على علمٍ بالبلاغة، يعرف ماذا يقال، ومتى يقال، ولمن يقال.
فإنه لمن المحزن والمخزي أن تكون مرافعة المحامي بالعامية الصرفة، فلا يتحدث إلا بلغة الشارع، والتي بطبيعة الحال تؤثر على لغة جسده، فتكون مرافعة غير راقية. ولا أستبعد العامية تماما في مرافعة المحامي، فقد تكون لازمة في بعض المواضع التي تحتاج لرشاقة اللفظ والتخفف المناسب أو في سؤال تقريري يوجه للمحكمة للفت انتباهها أو جملة اعتراضية.
ولا أدعو إلى استخدام اللغة العربية القُحة موغلة غرابة التركيب، متقعرة اللفظ شاعرية المعاني بإفراط يصرف انتباه المحكمة عن موضوع الدفاع والتي قد لا تلتفت إلى صعوبتها بل تنفر منها.
وإنما أدعو أن تكون اللغة منضبطة، سليمة، معرِبةٌ عن القصد منها وموافقة له، فلا ينصب المرفوع، ولا يرفع المجرور، ولا يجر المنصوب، ولا يُعمد إلى تسكين الكلمات كلها هروبًا من حسن نطقها.
ويستلزم ذلك من المحامي دراسة النحو والصرف، وكثرة الاستماع للغة الصحيحة من شعراء الفصحى والقصائد المغناة، بل والأهم الاستماع لتلاوة القرآن بتركيز لأن قواعد النحو مأخوذة عنه وهو اسبق من علم النحو.
وليس الاستماع فقط، وإنما التدرب على القراءة بصوتٍ، والمزيد من التدرب حتى يتقن اللسان لغته وتمَّحي أعجميته.
فلا محاماة بلا لغة، ولا دفاع بغير مقال.
وإن فرصتك زميلي المحامي الجديد جدًا في تعلم الأداة الرئيسة أفضل ممن انعقد لسانهم ممن سبقوك بسنوات وقالت السنتهم هذا ما الفينا عليه أقدمينا، وهم الذين أهدروا الوقت في طلب النتيجة دون إتباع السبب، حتى انشغلوا بما طلبوا عما طُلِبوا له حتى أهلكهم طلب الوقت ذاته فلم يجدوا منه ما يكفي.
ليس يعني ذلك أنهم قد فاتتهم فرصة تعلم العلم، وإنما أعني بذا أن فرصتك أكبر لأنك تملك ما لا نملك نحن، وفرة الوقت قبل كثرة الانشغال.
فنصيحتي لك زميلي الجديد جدًا ألا تخجل من ان تتعلم الفصحى، لأنك دونها لن تستطيع قراءةً ولا كتابةً، ولن تستطيع دونها حديثًا ولن تفقه قولا. واجعل اللغة على رأس أولوياتك فترة تدريبك، فهي اولى من لغة أجنبية تريد بها كسب عيشك، فبدونها لن تستطيع أن تترجم سطرًا إلا بكارثة إملائية وكوارث نحوية ومهازل صرفية، ولن تبدع في مذكراتك لأن على عظمة وكبر وقوة المعنى الذي تريد أن توصله يجب ان تكون لديك الكلمة القوية التي تحمل ذلك، فلا يحمل الأتان ما يحمل الجمل. والأتان عزيزي المحامي الجديد هو الحمار، وقصدت ان اودع لقاموسك كلمة جديدة على مسامعك قديمة في اللغة.
فركز على لغتك، فبها بيانك وبه وجاهتك، واعلم أن لغتك أهم سلاح للدفاع. تكسب بها انتباه المحكمة واحترامها، واحترام الخصم وتقديره لك. وستكون صاحبتك حتى في كلامك مع عموم الناس اعتيادًا حتى تكون تاجك الذي تعرف به.
وإلى لقاء في المقال القادم إن شاء الله.