روب المحاماة.. رداء القيم الأدبية
بقلم:عصام الدين جاد المحامي
“الروب الأسود” رداء حر يفتخر به كل حاملي لواء المحاماة، والمتمسكون بالفكر والقانون لأداء مهمتهم في تبليغ رسالتها، حيث الحق والعدل في اسمي صورهم.
وإن رجعنا إلى تاريخ نشأة فكرة هذا الرداء، سنجد عدة روايات بعضها قريب من المنطق.
الأولى: يقال إنه في القرن السابع عشر بفرنسا، شاهد أحد القضاة من شرفته شخصًا يقتل آخر، ثم يفر القاتل الحقيقي، ويحاول أحد المارة إسعاف المجني عليه وينقله إلي المستشفى، لكن المجني عليه فارق الحياة واتُهم من حاول إنقاذه بقتله، وبالمصادفة يحاكمه ذلك القاضي الذي شاهد هذه الواقعة، وهو يعلم أنه بريء لكن القانون لا يعترف إلا بالأدلة، ويدفع تأنيب الضمير القاضي إلي الاعتراف -فيما بعد- أمام العامة بأن المحكوم عليه بريء بعد أن حكم عليه بالإعدام، فثار الرأي العام ضده واتهمه بعدم الأمانة، ثم حضر المحامي عن الشخص المظلوم الذي حُكِم عليه بالإعدام، (وفي رواية أخري أن أحد المحامين حضر أمامه)، في إحدى القضايا الأخرى، متشحًا برداء أسود، فسأله القاضي عن سر ردائه، فأجابه بأنه يُذكّره بما فعله من قبل بحكمه الذي أصدره على شخص بريء.
الثانية: تشير إلى أن اللون الأسود يرمز إلى الوقار، وهو ما يجعله وجهًا للافتخار.
وفي أثناء الثورة الفرنسية، صدر مرسوم بقانون نص في مادته العاشرة علي أن “على رجال القانون الملقبين بالمحامين عدم ارتداء لباسهم المميز الخاص بهم بعد إلغاء نقابتهم”.
ثم أعيد الحق بارتداء الروب في المادة السادسة من المرسوم الصادر في 23/12/1802 (وفقًا لدراسة نُشرت في مجلة العدل بلبنان عام ٢٠١٦).
غير أنّي أرى – وإن اختلفت مع معنى نشأته التاريخية – أن روب المحاماة صُنع واختُلق من أجل أن تتوحد المظاهر لتتوحد الكلمة والاستقلال والغاية من الاستقلال.
فمفهوم الإنابة التي نص عليها قانون المحاماة المصري، ليس مقصورًا على منح المحامين حق الحضور عن بعضهم البعض فقط، بل في مشاركة المعلومة وإيضاح التعاليم والأدوات، ويُعد هذا الرداء ذا قيمة أدبية مهمة، وإن كانت “شكلية” في استكمال الحضور، فهو لازم من لوازم رسالة المحاماة السامية.
فقد ذهبت الدراسة اللبنانية السابق الإشارة إليها، إلى أن العبرة من ارتداء الثوب الموحَّد هو تذكير مرتدية بوجوب التواضع وبواجباته المهنية بالإضافة إلى واجباته العامة، كما يُذّكر عامة الناس بأن عمل المحامي ليس مجرد عمل إداري رسمي، إنما هو ممارسة لسلطة مقدسة تقضي الفصل بين الخير والشر؛ تحقيقًا للعدالة وإرساء لقيمها الثمينة.
ومن الأعراف المستقرة التي تؤكد سمو معناه ولزوم مقتضاه، ما يُقال في شأن استعارة روب المحاماة، وأن “روب المحاماة ليس لك، حتى إن كان ملكك، فاستعارته فرض مهني وليس واجبًا شخصيًا”.
ومن وجه آخر نجد هذا اللون “مجازًا” يميز أبناء المهنة، ويوحِّد حقوق ومسئوليات العاملين في مجال المحاماة من أجل مصلحة من يدافعون عنهم حتى إن اختلف أشخاصهم وتباينت أشكالهم لأي سبب كان، فيكون رداؤهم واحدًا، وهو ما يؤصل فكرة الدفاع في لزوم توحيد استخدام الروب.
كذلك يوحِّد هذا الزي حق الانضمام وممارسة المهنة لكل من حصل على شهادة دراسة القانون وإجازة ممارسة مهمته السامية، فيساوي هذا الرداء بين أعضائه، ويعطي حق الممارسة دون أي تمييز.
فقد أشارت المبادئ الأساسية بشأن دور المحامين في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إلى دور المحامين في بنده 10: “تكفل الحكومات والرابطات المهنية للمحامين والمؤسسات التعليمية عدم خضوع أي شخص يريد دخول مهنة القانون، أو الاستمرار في ممارستها، للتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو الأصل العرقي أو الديانة أو الرأي السياسي، أو أي رأى آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الملكية أو المولد، أو الوضع الاقتصادي أو غير ذلك من الأوضاع، ويُستثنى من ذلك أن شرط كون المحامين من رعايا البلد المعنى لا يُعد تمييزًا”.
ليؤكد هذا اللون وإن اختلفت روايات أساسه التاريخي، أن غرضه الاسمي هو الحفاظ على حقوق الموكلين، فينطق الدفاع بما أخفاه هذا السواد، إظهارًا للحق وتطبيقًا للقانون، ووصولًا وتحقيقًا للعدل.
لتصبح رسالة المحاماة رسالة مقدسة توجب على ممتهنيها الالتزام بالمبادئ التي أرستها النصوص القانونية، وأيدتها القيم النقابية، وسار على نهجها رواد المهنة الأوائل وعظماء هذا العمل المقدس.