رشاد العقل بين سلطان الذات وقبضة الأرض ونواميس الحياة (7)
من تراب الطريق (999)
رشاد العقل بين سلطان الذات وقبضة الأرض ونواميس الحياة (7)
نشر بجريدة المال الأربعاء 16/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
ذلك لأن الأغلبية الغالبة من أحياء هذه الأرض حيوانًا ونباتًا ومن بينهم الآدميون ـــ لا تعيش إلاّ فرقًا أو زرافات، ولا تعرف الحياة المنفردة المنعزلة إلاّ نادرًا جدًّا.. والفرق تستلزم الطاعة والقيادة معًا ـــ وهاتان دائمًا نسبيتان.. فالفرد قد يترك فرقة لينضم لأخرى ـــ والقائد قد يتخلى عن القيادة هنا ليقود أخرى هناك، أو لأنه لا يصبر أو لا يطيق دوام الانفراد.. ومن هذه جاءت ضرورات الإذعان والتحمل والنظام في العمل المشترك.. محدودًا أو كبيرًا.. يقوم به آدميون أو غير آدميين.. نعرفه نحن أو لا نعرفه في هذا الزمان.. وقد نعرف بعض ما لا نعرفه أو معظمه في زمن قادم.. كذا يعيش جميع الأحياء ـ في مستقبل منتظر يتحقق أو لا يتحقق ولا يعيشون في غيره قط.. أما الماضي فأقصى ما يؤديه للحى هو دفعه إلى مستقبله المنتظر الذي بدوره سيصبح ماضيًا في يوم ما ليحل محله آت متوقع أو غير متوقع، وهنا يبرز توالى الأزمنة وتوالى الاحتمالات لحياة الأحياء.. متغيرة حتمًا ومختلفة حتمًا ومنتهية حتمًا لكي يعاد باستمرار تغييرها واختلافها وانتهاؤها المتواصل في عموم ذلك كله إلى ما لا يعلمه إلاّ الخالق جل شأنه من أمر الزمان وأمر الأجناس وأمر الأمكنة وأمر الحياة في الكون كله.
فدنيانا كلها نسبية كحياتنا وأعمارنا وأحوالنا ويقظتنا.. ووعينا ما زال إلى الآن في كف « الأنا » تسايره بعقل وعناية إن رشدت وتشتته إن تخبطت ـــ إلى أن تنتهى « الأنا » في الحالين.. والله تعالى أعلم بعد ذلك وقبله !
إننا نعثر من آن لآخر في الماضي والحاضر والقابل ـــ على ما لم نكن نعرفه من الأشياء التي نسميها عناصر أو مركبات أو ذرات ومن القوى التي نسميها كهرباء أو جاذبية أو طاقة أو قوى ـــ وهذه لم نصنعها وإنما هي موجودة في أرضنا من قبلنا، ولكن قد نصنع منها
أو بسببها ما نصنعه صغيرًا أو كبيرًا في أغراضنا التي لا حدود لها.. لكننا حتى الآن لا نعرف لماذا وجدت هذه القوة أو الطاقة أو الذرة أو العنصر أو المركب وكيف وجدت.. فنحن نستعين بها ونستحدثها في أغراضنا على قدر إمكاناتنا في زماننا فقط ـ فهل يمكن أن يتجاوز البشر هذا الحد إذا لم يعرضوا أنفسهم للفناء أو الهلاك ؟!
سيظل يستعصى على الناس إدراك كنه الحياة.. يمارسونها بلا وعى، وتغمرهم شواغلها فلا يتأملون في أسرارها إلاّ قليلاً.. سعى الإنسان ولا يزال يسعى على هذه الأرض التي قال الحكيم الخبير عنها وعن سعى الإنسان فيها.. « هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا في مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ » (الملك 15).. خلق سبحانه الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملا، ودلنا على آياته العظمى في السموات والفضاء والأفلاك.. وذكر من خصال المؤمنين العارفين أنهم : « الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ » (آل عمران191).. وفي هذه الآيات كان رسول القرآن عليه السلام يقول : « ويل لمن قرأها ولم يتفكر »، ويوصى فيقول : « تفكروا في خلق الله »، « تفكر ساعة خير من عبادة سنة ».. سبحان القائل في محكم تنزيله : « أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى » (الروم 8)… « اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ » (الرعد2).. ومع ما أوتى الإنسان من علم وما أذن له بسلطان ربه في اختراق الآفاق : « يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطَانٍ » (الرحمن 33).. وبرغم ما أتيح للإنسان من إنجازات في فضاء الكون العظيم، إلا أنه لا يزال مشدودًا إلى قبضة الأرض وسفاسف الأمور، لا يحسن الإفادة مما وصل إليه ولا ما هو متاح من خزائن الكون، ولا يتأمل سنن ونواميس الحياة.. ولو أدرك رشاد العقل لكان له في ذلك خير عظيم.