رشاد العقل بين سلطان الذات وقبضة الأرض ونواميس الحياة (3)
من تراب الطريق (995)
رشاد العقل بين سلطان الذات وقبضة الأرض ونواميس الحياة (3)
نشر بجريدة المال الخميس 10/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
الجنس البشرى خلال عمره حتى الآن ـ ومعظمه كان ومازال عشوائيًا غامض المعالم في معظمها ـــ غير قابل للتحديد الدقيق أو الحصر المؤدى للفهم الذي يقبله العقل ويطمئن إليه
ما استطاع.. وفي القرنين الأخيرين ألغت الصناعات الميكانيكية فارق النهار والليل، ونقلت ذلك إلى الانتقال في البر والبحر والجو ثم إلى الفضاء الواسع، وسرعان ما أطلقت تلك الصناعات سراح وبراح العلوم الوضعية بلا حدود، فاتسعت آفاقها وأعماقها ونواتجها وكشوفها بغير توقف ـ لكن دون أن تصل حتى الآن إلى أعماق الآدمي العادي ــ وقد بهرته بل سحرته لكن دون أن تغير رصيده الهائل القديم ــ من العادات والعقائد والأفكار والأغراض والأطماع والأماني، ومن الريب والشكوك والمخاوف والفخاخ والمكايد والخصومات والمحن والمصائب ــ التي قد تملأ رأس كل منا ــ بويلات دنيانا التي نخشاها رغم تمسكنا بها ونرجو الإفلات مما تخفيه عنا!!
فالصلات بين الآدمي العادي وبين العلوم الوضعية وتطبيقاتها لا حدود لها من حيث ماديات حياة الآدمي المتعلقة بجسمه وغذائه وسكنه وملبسه وقربه وبعده وتجمعه وتفرقه وكسبه وخسارته ورياضته ولهوه ومظهره وزينته ــ لكنها على كثرتها الهائلة الشاملة للغنى والفقير والمتحضر وغير المتحضر صغيرًا أو كبيرًا ـ ما زالت هامشية لم تمتد إلى أعماقنا، ومازال يركبها ويقودها بتسلط وعنف أنانية البشر وتحكمها في سلوكهم وأهدافهم القريبة والبعيدة.. تستخدم الخبث والشر انتفاعًا بنواتج تلك العلوم وتطبيقاتها التي تكاد تغطى عصرنا بأسره!
* * *
ما صاحب ما سمى بعصور الفهم والرقى والسمو للبشرية جمعاء، لم يكن ــ للأسف! ــ من أجل الخير والصدق والعطف والتعاون والتماسك والتكاتف التي كان ينتظرها الأوائل في بدايات تلك العلوم ـــ ولا كان ترقيًا وسموًا إلى غير نكسة أو رجعة.. لا ولا كان المأمول منه هذه الزيادة الهائلة في اتساع البلاء الذي زاد في سيطرة الدهاء بما لا حدود له كما في حالنا اليوم!.. قد بات هذا للأسف هو ما صرنا إليه اليوم بتأثير تلك التطبيقات التي تملأ زماننا ومكاننا معًا.. صرنا نظن أننا دهاة عارفون ماكرون خبثاء.. ونسينا تمامًا أننا بتنا كلنا بغير استثناء حمقى في النهاية.. عاقلنـا وعالمنـا.. وماكرنـا وخبيثنا!!!.. فلم تكسب البشرية في الحقيقة شيئًا كثيرًا يمكن ـــ إن استمر الحال على ما هو عليه ـــ أن ينقذنا من المصير الكئيب الذي ينتظرنا!!
ثم لم نَعُدْ منذ سنين مضت ـــ نشعر حقًا بطعم الحياة بثقة.. إذ هذه الثقة نبت لشعور بالاستقرار والأمان ـ فإحساسنا بهما قد تآكل إلى ما نحن الآن فيه من القلق أو الخوف أو بهما معًا.. يستوي في ذلك الغني والفقير والحاكم والمحكوم.. طال هذا الكثيرين من سنوات عديدة واستشرى في كل الجماعات.. كبيرة وغير كبيرة.. وربما سبب هذا ما نحن فيه اليوم في كل مكان مما ألمّ بالقادرين وغير القادرين وشوهد بوضوح في المجالس والاجتماعات والالتقاءات والمقابلات من خلوها فعلاً ـــ من غايات جلية الوضوح والفهم يتقبلها العقل العادي بغير تكلف أو تعسف!
كذلك توالت وانهالت علينا في أيامنا هذه أنواع وألوان وأحجام من تزاحم الجماعات عامة وخاصة.. لا ينقطع لديها قط عقد المؤتمرات أو الاستعداد لعقدها أو توزيع ما انتهت إليه في الداخل والخارج من أجل ما ليس له آخر أو نهاية أو زيادة حقيقية للمفيد النافع أو حذف فعلى لغير المفيد.. معظم ما نراه من سياسات أو اقتصاديات أو خدمات عامة أو أشباه ذلك ـ قد باتت خالية من المقاصد والغايات المجدية الفعالة.. يتهافت عليها الكبار والصغار ذكورًا وإناثًا وتساندها الصحف والإذاعات أو تعاندها بما لا جدوى فعلية فيه لعباد الله الحائرين التائهين المكبوتين.. وهم الآن بالملايين!!.. بينما لا تتوقف عجائب زماننا التي يلابسها بلا حدود شغف الصحافة والإذاعة المحلية والدولية غير المسبوق في الترويج بكل وسيلة للرياضة البدنية المحترفة التي تمول القنوات والفضائيات وتكسب آلاف الملايين في دنيا زماننا الذي لا تنفد عجائبه!