رسالة النور الجديد

رسالة النور الجديد

نشر بجريدة الشروق الخميس 12/11/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

مما قدمنا سلفًا ، تنجلي المطابقة بين النشأة والرسالة النبوية عن مقاصد ثلاثة تنطوي في هذه الرسالات :

منها الرسالة التي تنطوي على تكاليف الزعامة .

ومنها الرسالة التي تقوم على منفعة أمة من الأمم لحراستها في وجهة الأمم الأخرى .

ومنها الرسالة التي ينتظرها القوم تحقيقًا لوعود متعاقبة يفسرها كل منهم على ما

يبتغيه .

ثم قامت بعد هذه الرسالات جميعًا رسالة محمد عليه الصلاة والسلام ، فلم يستغرقها مقصد من هذه المقاصد ، لا زعامة ولا منفعة أمة ولا تحقيقًا لوعود .

رسالة محمد عليه الصلاة والسلام رسالة إلهية قوامها أن الله تعالى حق وهدى ، وأن الإيمان به جل وعلا مطلوب لأنه حق وهدى ، هذا الإيمان أعلى وأقدس من كل إيمان لأنه إيمان بالحق والهدى .

لم تكن زعامة محمد على قومه مناط  تلك الرسالة ، فقد جاء بها بشر كسائر البشر ، عليه من أمانة الهداية ما على الإنسان للإنسان .. زعيمًا كان أو غير زعيم .

ولم تكن منفعة الأمة العربية مناط تلك الرسالة ، لأنها إيمان برب العالمين ، ولا فضل فيها لعربي على أعجمي ولا لقرشي على حبشي ، ولا تفاضل فيها إلاَّ  بالتقوى .

ولم تكن رسالة محمد اقتضاء لوعود ، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يعد أحدًا من العالمين بغير ما وعد الناس كافة .

نزاهة العبادة

تَعَوَّدَ بعض المهاذير من المؤرخين الغربيين أن يذكروا النعيم السماوي الموصوف في الإسلام من بين النقائض التي تقدح في العبادة النزيهة .

وما من دين خلا من مبدأ الثواب والعقاب ، وليس الإيمان بالثواب والعقاب مخلاَّ بنزاهة الدين ، وما من دين يسوى بين الصالحين والمفسدين ، أو يصادر على طموح النفوس إلى النعيم الذي ترتضيه .

والميزان الحق للعبادة النزيهة ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ هو الصفة التي يتصف بها الإله المعبود، وأنزه العبادات ـ هي العبادة التي يؤمن بها المؤمن لله الواحد الأحد جل وعلا لأنه سبحانه حق وهدى ، ولأن الإيمان به هو الحق والصواب .

سيد المرسلين بحق ـ من جاء بالرسالة المنزهة المثلى ، وهذه هي رسالة محمد عليه الصلاة والسلام بشهادة العقل حين يقابل بين القرائن والأمثال ، بلا تعصب ولا تقليد .

الوساطة

لا وساطة في الرسالة المحمدية بين العبد وربه ، وليس في فرائض الإسلام الخمس : الشهادتان ، والصلاة ، والصيام ، والزكاة ، والحج ـ ما يقوم أداؤه على وساطة بين الخالق جل شأنه والمخلوق المتعبد . فباب الخالق مفتوح للمؤمن في كل موضع وفي كل حين « وأينما تكونوا فثم وجه الله ».

وليس في أداء الصلاة ، ولا في توقيت وأداء الصوم ، ولا في أداء الزكاة والحج ،

ما يحتاج فيه المسلم إلى وساطة بينه وبين ربه .

ليس في حج بيت الله كاهن يقدم له الحاج قربانه أو يملى عليه شعائره .

ويصح للمسلم أن يؤدى زكاته بنفسه مثلما يصح له أن يسلمها لمن يجمعها ويوزعها على مستحقيها .

وليس هذا من باب المصادفات ، بل هو دين لا كهانة ولا وساطة فيه بين الإنسان

وربه .

حارب الإسلام أي سيطرة للكهانة في الهياكل أو صوامع الصحراء وخيامها وفي التوابيت ، لأن سلطان هؤلاء كان سيطرة على رقاب الناس باسم الدين ، أو لأكل أموال الناس بالباطل ، أو لاتخاذهم أربابًا من دون الله .

ليس لأحد في الإسلام فضيلة غير فضيلة العلم والموعظة الحسنة وتنبيه الغافلين ولو كانوا من ذوى السلطان . يقول تعالى : « وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » ( التوبة 122 ) ، وهذه الفريضة هي الفريضة العامة التي يندب لها من يقدر على أدائها من أهل الذكر ، وممن يقدرون على حمل أعباء الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي القرآن المجيد : « فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ » ( النحل 43 ) ، وفيه قوله عز من قائل « وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » ( آل عمران 104 )

هذا هو موقف للإنسان في الكون كله ، بين يدى الله ، بغير فاصل ولا حجاب ، وبغير وسيط ولا وساطة ، حينما يكون فثم وجه الله .

دين الإنسانية

تلمس أن الأستاذ العقاد يميز في كتابه الضافي في طوالع البعثة المحمدية بين دين التوحيد ودين الإنسانية من ناحية المقدمات والخطاب ،  فقد وُجدت أديان تدعو بعض الأمم إلى التوحيد قبل الإسلام ، وربما جاءت هذه الدعوة إلى التوحيد ـ قبل الإسلام ـ عن طريق توحيد الدولة وفرض السلطان والعبادة الواحدة تعبيرًا أو ترسيخًا لوحدة الدولة ، أو لقوة القبيلة المتمكنة ، ومثل هذا النوع من التوحيد لم يأت على سبيل المساواة أو سبيل الهداية والرشاد ، بل كان على سبيل القهر والإخضاع .

وعلى هذه السنة جرى الرومان على إخضاع اليهود حين فرضوا عليهم عبادة « الإمبراطور » في هيكلهم ووضع الشارة الرومانية على محاربيهم ، وفرضوا ما يريدون من باب الإخضاع وتحريم كل معبود في الدولة غير معبودهم .

على أن هذا التوحيد ـ على قصوره ، لم يكن يعنى دين الإنسانية الذي يريد الأستاذ العقاد أن يجلى وجوده في الإسلام . هذا الدين الذي يتجه إلى جميع الأمم ـ لا أمة واحدة ـ بدعوة واحدة على سنة المساواة بين جميع الشعوب والأجناس ، والتماس الهداية للجميع غالبًا كان أو مغلوبًا . هذه دعوة إلى دعوة توحيد العبادة ـ قامت على حقوق واحدة وهداية واحدة وإيمان واحد بإله لا إله غيره ، يتساوى الناس بين يديه ، ولا يتفاضلون بغير التقوى والصلاح .

كان الإله عند الإسرائيليين يسمى إله إسرائيل ، ويخص من أبناء إبراهيم ذرية يعقوب ابن إسحق دون سائر العبريين .

ويستخرج الأستاذ العقاد من أسفار العهد القديم عبارات الأنبياء وعبارات الشعب ، من مثل « هكذا قال الرب إله إسرائيل » ، « مبارك الرب إله إسرائيل » ، « ألست إلهنا الذي طردت سكان الأرض أمام شعبك إسرائيل وأعطيتها لنسل إبراهيم خليلك إلى الأبد » .

وقد دامت هذه العقيدة إلى عصر الميلاد ، فتهيأت العقول لعقيدة أرفع منها وأعدل وأقرب إلى المساواة بين الناس ، فكان يحيى المغتسل (المعمدان) يزعزع هذه الثقة بالخلاص لغير سبب من عمل أو إيمان ، ويخاطب القوم كلما تمادوا في اغترارهم بالنسبة إلى إبراهيم الخليل ، بأن الله قادر على أن يخلق لإبراهيم أبناء من حجارة الأرض ، فإن لم يخلصوا في إيمانهم فلا أمل لهم في الخلاص .

وتحولت الدعوة المسيحية من بنى إسرائيل إلى الأمم على الرغم من بنى إسرائيل ، حين شبههم السيد المسيح بالمدعوين الذين أقيم لهم العرس فتخلفوا عنه متعللين بالتعلات والمعاذير .

ولم تتحول الدعوة المسيحية عن بنى إسرائيل إلاّ بعد إعراضهم عنها وإصرارهم على الإعراض ، وكانت قبل ذلك مقصورة عليهم صريحة في تقديمهم على غيرهم من الأمم . وفي العهد الجديد من قول السيد المسيح « لم أرسل إلاَّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالة » . وكان تحول الدعوة عنهم إلى غيرهم اعتدادًا بأن المستجيبين للدعوة أحق بإبراهيم بالروح من أبنائه بالجسد .

زر الذهاب إلى الأعلى