ذلك عيسى بن مريم قول الحق
فى دوحة الإسلام (103)
بقلم الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين رئيس اتحاد المحامين العرب
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 2/2/2022
لا يشبع المؤمن من تلاوة سورة مريم وقصة البتول فيها ، حين جاءها رسول من ربها ليهب لها غلامًا زكيًّا ، فخافت وجزعت وعاذت بالرحمن . قال تعالى :
« قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا » ( مريم 18 ـ 26 )
أتت مريمُ قومها تحمل ما رزقها اللهُ إياه ، فأساءوا الظن بها واتهموها ، وقالوا لها فيما يرويه القرآن المجيد : « يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلاّمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ » ( مريم 28 ـ 34 ) .
لاذت مريم يومئذ إلى بارئها وبارئه تستعين به ، فإذا بالملَك يناديها ألاَّ تحزن ولا تبتئس ، فهى فى رعاية المولى تبارك وتعالى ، ويمضى بنا القصص القرآنى البليغ ، فيروى كيف وقد نذرت الصوم ـ كما أُمرت ـ عن الكلام ، وكيف أشارت إلى الوليد ، فتساءلوا كيف لهم أن يكلموا من كان فى المهد صبيًّا ، فيفجأهم عليه السلام من مهده يقول لهم :
« قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا » ( مريم 30 ـ 33 ) .
هذه هى زبدة قصة المسيح عليه السلام ومولده وحديثه فى المهد بما كان وبما سوف يكون ، وجاءت الأحداث مصدقةً لما أنبأ به .. لا يختلف ميلاده عن خلق آدم الذى خلقه الله بمشيئته وبقدرته أن يقول للشىء كن فيكون .. سلامٌ على السيد المسيح عليه السلام .. يوم ولد ويوم يموت ويوم يُبعث حيًّا . قصة حياته ورسالته مليئة بالعبر والعظات ، وسبحان القائل عز وجل ـ القائل فى ختام سورة المائدة :
« لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » ( المائدة 120 ) .
كلوا واشربوا ولا تسرفوا
خلق الله تعالى لنا الطيبات ، وأباح لنا أن نأكل من طيبات ما رزقنا سبحانه وتعالى به وأن نشكر له ما أفاء به علينا ، وأن ننفق أيضًا فى المعروف من طيبات ما كسبنا ، وأن نعمل صالحًا .
قال عز وجل فى كتابه العزيز :
« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّـهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ » ( البقرة 172 ) .
وأوصانا جل شأنه بالإنفاق فى المعروف من طيبات ما كسبنا ومما أفاء به علينا ، فقال لنا :
« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ » ( البقرة 267 )
وقال تبارك وتعالى :
« كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ » ( المؤمنون 51 ) .
صدق الله العظيم .
روى البخارى بإسناده ، أن نبى البر والرحمة عليه الصلاة والسلام أوصانا فقال :
« أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكّوا العانى ( أى الأسير ) »
ولكنه عليه الصلاة والسلام جعل للأكل آدابًا ، وله غاية ، فكان مما يقول :
« نحن قوم لا نأكل حتى نجوع ، وإذا أكلنا لا نشبع » .
ليس أشر من البطنة ، فكان عليه الصلاة والسلام يحذر منها ، فهى تضر ولا تنفع ، وتمرض أعضاء الجسم ، وتصيبه بالتخمة والخمول ، وتقعده عن الحركة والسعى ، وأنه خير للآكل أن يجعل ثلثًا لطعامه وثلثًا لشرابه ، وثلثًا لنَفَسه .
عن الهادى البشير عليه الصلاة والسلام أنه قال :
« ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه . بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإذا كان فاعلاً ، فثلثٌ لطعامه ، وثلثٌ لشرابه ، وثلثٌ لنَفَسه »
يقول الله تعالى فى كتابه العزيز :
« وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ » ( الأعراف 31 )
للإسراف فى الطعام والشراب مضارٌّ كثيرة ، كشف عنها الطب الحديـث ، وبيّن وخيم عواقبها على صحة الفرد ونشاطه .. ففيه تخمة للمعدة ، وإيذاء للأعضاء ، وهبوط للفكرة ..
من مأثورات الصوفى بشر الحافى :
« إن الجوع يصفى الفؤاد ، ويميت الهوى ، ويورث العلم الدقيق »
واعتياد كثرة الطعام بلاء وامتحان ، فيها قال الصوفى يحيى بن معاذ :
« إذا ابتلى المرء بكثرة الأكل بكت عليه الملائكة رحمة له ، ومن ابتلى بحرص الأكل فقد أُحرق بنار الشهوة » .
يقول الحق جل علاه فى كتابه العزيز :
« لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا » ( الأحزاب 21 ) .
صدق الله العظيم
من آداب الطعام
عن الهادى البشير عليه الصلاة والسلام ، أنه قال :
« ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صُلبه ، فإذا كان فاعلاً ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنَفَسِهِ » ..
يدلنا هذا الحديث النبوى على أن الإسلام معنىٌّ ــ فيما عنى به ــ بالصحة ، ومن أصول دعايتها عدم الافراط فى الطعام .. فالمعدة كما هى مصدر الطاقة ، فإنها بيت الداء إذا مالئت كمًّا وكيفًا بغير سياسة مرسومة حرص الإسلام على بيان عناصرها وأسبابها .
ملء المعدة فى ذاته ؛ تخمة غير محمودة ، تعطل المعدة والجهاز الهضمى عن القيام بوظائفه ، وتؤثر على وظائف أعضاء الجسم الأخرى ، وتخل بالدورة التنفسية وبالدورة الدموية ، فضلاً عن هبوط الفكر وثقل الحركة ، هذا إذا كانت أصناف الطعام موافقة للصحة ، فإن ناهضتها فتلك معضلةً أخرى !!
يرشد الحديث النبوى إلى عدم إتخام المعدة بالطعام ، وترك الثلث للشراب ، والثلث للتنفس ، فضغط المعدة الممتلئة يؤثر سلبًا على التنفس ، واضطراب التنفس له آثار متعدية على الدورة الدموية ، والدورة المخية ، وعلى كل الوظائف الحيوية التى يمدها التنفس الصحيح بالأكسجين .. أوكسير الحياة .
توالى الطعام بنهم بلا حساب لنوعياته وكميته ، يؤدى بالتراكم إلى السمنة والترهل وإمراض الجسم وإعاقته .. بينما الطعام ليس غاية فى ذاته ، وإنما يُحسب بالغاية منه .. لذلك قال الحديث : حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ..
وفى الحديث الشريف « شِرُار أمتى الذين غُذوا بالنعيم ونبتت عليه أجسامهم » .
وفى القرآن الكريم :
« يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ » (الأعراف 31) .
هذه الوسطية مبدأ إسلامى شامل ، روعى فى كل شىء ، لتصير الأمة أمةً وسطًا ، ليكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليهم شهيدًا ..
رأى عمر بن الخطاب رجلاً يمشى ، ويحيط به أناس فى سيره ، فرفع عمر الدِّرّة عليهم .
فقال الرجل : اتق الله يا أمر المؤمنين ! ماذا صنعنا ؟
قال عمر : أما علمت أنها فتنةٌ للمتبوع ، ومذلةٌ للتابعين !
يقول القرآن المجيد بلسان رسوله عليه الصلاة والسلام :
« ففروا الى الله، إنى لكم منه نذير مبين »
فالإنسان يفر إلى الله بقراره من الكفر إلى الإيمان
ويفر إلى الله من الطاعات الى القربات
ويفر الى الله من الكون الى المكون
ويفر الى الله من النعمة إلى المنعم
ومن الخلق إلى الخالق
ومن نفسه إلى ربه
الفرار إلى الله لانهاية له
كذلك الهجرة الى الله
وهذا نهج الصالحين
ومدارك السالكين
يقول إبراهيم الخليل فيما رواه القرآن :
« فإنى مهاجر إلى ربى إنه هو العزيز الحكيم »٠
القلوب أوعية فإذا امتلأت من الحق فاضت زيادة أنوارها على الجوارح !!!
حقيقة المحبة معرفة الله تعالى بالقلوب ؛ وذكره باللسان مع الحضور والاحترام ؛ ورفع الهمة عن كل ما سواه ٠٠٠.
الصبر زاد المضطرين ؛ والرضا درجة العارفين٠٠٠٠٠٠٠.
لا يصفو قلب لعمل الآخرة إلا إذا تجرد من حب الدنيا ٠٠٠٠