
دور البيئة في السلوك الإجرامي
مقال بقلم د. أشرف نجيب الدريني
هل يمكن لمكان واحد أن يغيّر سلوك الإنسان؟ وهل تستطيع البيئة أن تفرض على الفرد إطارًا سلوكيًا أقوى من تأثير ثقافته أو خلفيته أو حتى قوانين بلده؟ وهل يمكن لمشهد بسيط يبدأ بنسيان بعض الأغراض وينتهي بالعثور عليها كما هي أن يكشف عن دور عميق للثقة الاجتماعية كقوة وقائية تمنع الانحراف قبل وقوعه؟ هذه الأسئلة لم تأتِ من تنظير مجرد، بل من واقعة يومية عادية حملت في عمقها دلالة غير عادية.
كنت قد نسيت أشيائي في مكان عام، نسيانًا عفويًا كأي شخص ينشغل بالتفاصيل اليومية. المكان لم يكن مغلقًا ولا محكومًا بجماعة واحدة، بل يعبره أناس من جنسيات متعددة لا تجمعهم لغة ولا ثقافة واحدة، سوى أنهم يشتركون في فضاء اجتماعي واحد لبضع ساعات. بعد ساعة أو ساعتين عدت لأجد الأشياء كما تركتها. لم تلمس ولم تختفِ، وكأن يدًا غير مرئية حمتها. وحين سألت قيل لي إن هذا أمر طبيعي، وإن من يترك أغراضه قد يعود بعد يوم أو حتى أسبوع ليجدها كما هي. لم تكن هذه الإجابة مجرد ملاحظة عابرة، بل كانت شرارة سؤال أكبر: كيف تصنع البيئة سلوكًا مشتركًا رغم اختلاف البشر؟
في اليوم التالي لم يكن الأمر نسيانًا، بل أصبح عادة تلقائية. بدأت أترك أغراضي كما هي، وكأن هذا المكان العام قطعة من بيتي. لم أفعل ذلك بدافع ثقة شخصية في أفراد بعينهم، بل لأن المكان نفسه صنع داخلي شعورًا بأن ما يُترك فيه يبقى كما هو. شيئًا فشيئًا أدركت أن السلوك لا ينبع دائمًا من قناعة فردية، بل كثيرًا ما تفرضه البيئة بتماسكها وإيقاعها وإشاراتها الصامتة التي يلتقطها الجميع دون اتفاق.
في مكان تتعدد فيه الثقافات، كان من المتوقع أن يختلف السلوك. لكن العكس حدث: تلاشت الفوارق، واندمجت التصرفات في إيقاع واحد، وكأن الجميع خضعوا لقيمة مشتركة صارت جزءًا من هواء المكان: لا تلمس ما ليس لك. هنا ظهر سؤال آخر: هل يمكن لقيمة واحدة غير معلنة أن تصبح أقوى من كل الاختلافات الفردية؟ يبدو أن البيئة حين تتسم بالثقة تخلق نموذجًا للسلوك يسري بقوة العدوى الإيجابية، فينتقل من فرد إلى آخر حتى يصبح قاعدة عامة دون حاجة لقانون مكتوب.
هذا السلوك لم يكن مجرد التزام أخلاقي، بل كان انعكاسًا لفكرة أعمق تتعلق ببنية المجتمع نفسه؛ فالمكان لم يعلّم الناس الصواب والخطأ بالكلمات، بل صنع لهم تجربة عملية جعلت احترام ملكية الغير جزءًا من الحركة الطبيعية فيه. وهنا تتجلى الفلسفة الاجتماعية التي ترى أن الإنسان لا يتحرك كفرد مستقل، بل كمرآة تعكس طبيعة الفضاء الذي يعيش فيه. فالبيئة الجيدة تُهذّب دون أن تعظ، وتبني الوعي دون أن تفرض، وتخلق رقابة ذاتية أقوى من أي رقابة قانونية.
ولأن للسلوك بُعدًا جنائيًا لا يمكن تجاهله، يصبح هذا المشهد مثالًا واضحًا على دور البيئة في الوقاية من الجريمة. فالقانون يعاقب من يعتدي على ملكية الغير، لكنه لا يستطيع وحده أن يزرع داخل المجتمع شعورًا تلقائيًا بالاحترام. أما البيئة التي تنشر جوًا عامًا من الثقة فإنها تنزع من أصلها الدوافع الإجرامية، وتخلق مناخًا يجعل فكرة الاستيلاء على ما ليس لك فكرة غريبة على النفس، غير قابلة للتبرير. فالإنسان حين يتحرك في مكان يثق أهله ببعضهم، يشعر أن أي خروج عن هذا الاتفاق غير المكتوب يجرح شيئًا داخله قبل أن يخالف قانونًا خارجيًا.
ومع تكرار التجربة، اكتشفت أن البيئة لا تشكل سلوك الأفراد فحسب، بل توحدهم رغم اختلافهم. جنسيات متباعدة وثقافات متنوعة وجماعات لا يعرف بعضها بعضًا، ومع ذلك يسلك كل فرد السلوك نفسه لأن المكان صاغ قانونًا صامتًا صار الجميع جزءًا منه. كأن البيئة تقول لكل داخل إليها: هنا تُمارس الثقة كما تُمارس التنفس، وهنا يُحترم الغير دون أن يطلب، وهنا يصبح الصواب ليس مجرد خيار، بل إيقاعًا عامًا لا يُكسر.
اللافت أن هذه التجربة لم تجعلني أثق في المكان فقط، بل أعادت تشكيل تصوري عن العلاقة بين الإنسان والمجتمع. فهمت أن السلوك الإيجابي لا ينشأ دائمًا من وعي فردي ناضج، بل كثيرًا ما يبدأ من تماسك بيئة اجتماعية قادرة على فرض ثقافتها دون أن تلوّح بعقاب أو مكافأة. وفهمت أن الثقة الاجتماعية ليست قيمة أخلاقية فقط، بل هي درع وقائي يحمي المجتمع من الانحراف قبل أن يولد، ويجعل القانون شريكًا للبيئة لا بديلًا عنها.
وفي النهاية يعود السؤال الذي بدأ كل شيء: هل يمكن لمكان واحد أن يغيّر الإنسان؟ التجربة تجيب بوضوح نعم. البيئة القوية القادرة على بناء قيم مشتركة تستطيع أن تعيد تشكيل السلوك وأن تمنع الخطأ دون صخب. فهي لا تهذب الفرد فقط، بل تصنع منه جزءًا من منظومة أكبر. ومن هنا يصبح المكان ليس مجرد مساحة تُستخدم، بل قوة تربوية، وكيانًا اجتماعيًا، ودرعًا جنائيًا يحمي المجتمع بصمته قبل أن يفعل القانون بصوته. والله من وراء القصد.