خلاصة أزمة الرسوم
بقلم الدكتور: محمد شعبان المحامي
استطاعت الحكومة أن تمارس نوعاً من المكر والدهاء السياسي؛ فرفَعت شعار أهمية التحول الرقمي ورفع كفاءة منظومة العدالة وتطوير منظومة القضاء، وملأت الأجواء بحديثها البراق اللامع الذي سال له لعاب كل مهتم، وما فتئت تمسك عن توفير الاعتمادات المالية لتغطية تكاليف مرفق العدالة وتمويل مشاريع تطويره، حتى وجدت المحاكمُ نفسها في طريق مظلم موحش لا يوجد فيه من يأخذ بأيديها، وسرعان ما عادت إلى وزارة المالية لتطلب المدد والتدبير الإضافي للاعتمادات، فإذا بالمالية ما برح لسان حالها مستمسك بعباراته المعهودة ( اتصرفوا وهاتوا موارد!!).
ولأن الحكومة وجهها مكشوف مع الناس، بعد ما تلاشت حمرة الخجل عن وجهها، وأصبحت تتعامل بمنطق اللي (اختشوا ماتوا)، فأعطت الضوء الأخضر للسلطة القضائية نحو الطريق إلى التمويل الذاتي وفق رؤيتها الشاملة في أن (لكل شيء ثمن ومفيش حاجة ببلاش). وكان أول من حمل وٌزْر سد الفجوة التمويلية ومعالجة القصور الحكومي في التمويل، هو (القضاء العادي)؛ فبدأ خطوة خطوة يختط لنفسه طريقاً يبساً نحو تطبيق سياسة فرض الرسوم خارج نطاق الدستور والقانون، وبعد تجربتين رؤيتا أنهما ناجحتان، صارت هناك مناعة، وأَلِفَ القائمون على رأس المؤسسة القضائية فكرة تدبير التمويل خارج الحيز التشريعي عن طريق فرض رسوم جديدة أو زيادة القائمة، فقدموا -من حيث لا يدرون ولا يقصدون- هدية رفعوا بها الحرج عن الحكومة التي كانت تضج بكثرة المطالبات بتدبير الاعتمادات الإضافية وهو ما كان يضعها دوما في مهب الريح، إلا أنه وبعد هذا الدهاء السياسي الذي لجأت إليه الحكومة فقد نجحت في أن تجد من يشد أزرها في تحمل المسؤولية السياسة، دون أن يكلفها شيء، وهو ما استشعرت الحكومة تجاهه بنجاح سياسة (الحلب) و( الحاجة أم الاختراع) عوضا عن سياسة ( الشاطرة تغزل برجل حمار).
فشجَّعت الحكومةّ كسلطة دستورية السلطة القضائية كسلطة أخرى للمضي في هذا الطريق، دون أن يرف لها جفن، وراحت تحصد من وراء ذلك ما تروج به لنفسها وتسوّق به لتهيؤات نجاح سياستها في إدارة التحول الرقمي في المنظومة القضائية وتطوير المؤسسات القضائية ورفع كفاءة مرفق العدالة، دون أن تبذل في سبيل ذلك من موازنتها ما يغطي هذه البهرجة الزائفة، وما أن بلغت الحكومة مقصدها حتى وجدت السلطة القضائية نفسها في مواجهة المحامين وجمهور المتقاضين، الذين أَلهبت ظهورهَم سياطُ الرسوم الباهظة، واشتعلت منذئذ نارُ الفتنة التي لم تجد من يطفئها إلى اليوم، ووقفت الحكومة متفرجة على تناحر بات يشتعل بين جناحي العدالة، دون أن تقدم حلاً سياسياً، وهو الحل الوحيد القادر على احتواء هذه الأزمة، وما برحت الحكومة تقف على الحافة معتلية مقاعد المدرجات، تشاهد وتستمتع بالمباراة الدائرة بين الفريقين ( المحامين والقضاء)، بانتظار إعلان النتيجة وهي ( لن ينجح أحد وسقطت العدالة في مستنقع الفتنة وضلَّت طريقها)، ولا أدري ما إذا كان ذلك مقصوداً لذاته، لكسب بعض الوقت وإلهاء المجتمع عن سياساتها القاصرة عن بلوغ أدنى مراتب الرشد، أم أن الغرض الأساسي هو وضع السلطة القضائية في الحرج وفي مواجهة الشعب تخفيفا للضغط عن الحكومة، وكلا الأمرين خطير؛ فبدلاً من أن يسلقها الناس بألسنة حداد أشحة على الخير، يبادرون إلى توجيه سهام ألسنتهم المسنونة إلى السلطة القضائية لتأخذ نصيبها من النقد اللاذع، وتناست الحكومة أن انتظام ميزان الحكم في الدولة واستقراره، مرهون بالحفاظ على نقاء ثوب القضاء وحياء وجه القضاة، بما يحمل على النظر إليهما ( قضاء وقضاة) بهيبة ووقار، فيطمئن الناس إلى الأحكام، وتكفل لها الاحترام الواجب والذي يعزز من استقرار المراكز القانونية في المجتمع ويكفل التوازن العادل بين علائق أفراده.
لذا فإنني أتمنى أن تدرك السلطة القضائية هذه الحقيقة، وأن تعيد النظر في استراتيجياتها، وأن تدرك أنها ابتداء وانتهاء ضحية دهاء ومكر سياسي، وأن صيانة القضاء وتنزيهه عن الحاجة وحماية مصالح القضاة وتلبية متطلبات العدالة ومرفقها بات التزام دستوري على عاتق الحكومة وحدها؛ وضماناً للقيام بهذا الالتزام وجب على السلطة القضائية أن تعضّ بالنواجذ على استقلالها وحيدتها وتجردها، وأن تبذل في سبيل احترام الشرعية الدستورية وإعلاء سيادة القانون كل غال ونفيس، وأن تضمّ إليها المحامين، بوصفهم الجناح الثاني والقوي للعدالة، فيقوى موقف القضاء والقضاة بموقف المحامين، وتنتزع الحقوق الدستورية لنتزاعاً، لا بقوة السلاح، وإنما بقوة الكلمة وثبات الموقف وإعلاء قيمة الدفاع عن الشرعية، وهو ما لم يتوان فيه المحامون أبداً، بل هم على أتم الاستعداد للدفاع عن الشرعية والعدالة وميزانها، مهما كانت التضحيات، ولكنها الفتنة لعن الله من أيقظها.