حول « الأنا »ما بداخلها وما حولها (4)
من تراب الطريق (1039)
حول « الأنا »ما بداخلها وما حولها (4)
نشر بجريدة المال الأحد 14/2/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
الجاد منا دائمًا قليل العدد غير قليل العدة بحسب زمانه ومكانه.. وهذه القلة الجادة هي وحدها وراء تقدمنا الدائم التعرج ـــ بعرقها وجهدها وصبرها الطويل.. لا تكل ولا تمل إلى أن تختفي نهائيًا . وفي أيامنا هذه يبدو أن هذه القلة قد باتت هي الأخرى أشد ميلاً مما كانت من قبل ـــ وانحرافًا إلى الطمع والتفاتًا إلى الأنانية مغتنمة وجود كثرة هائلة غير مسبوقة ـــ على الأرض ــــ تحاول أفرادًا وجماعات الصعود ما استطاعت.. فهي تحتال وتغش وتكذب وتتجاهل وتسرق وتستأثر وتتحكم وتبالغ في ذلك كله وتقاتل وتقتل إن اقتضى الأمر.. فمتى تعتدل عددًا وخلقًا ؟! إن الأمل وليد عدم التأكيد.. وبه عاش البشر ويعيشون.. يلده الرجاء الذي يحرك سعى الآدمي وعمله، ويثير غيرته وجهده، ويهون عليه المتاعب والمشاق والنكبات.. وهو ما ندعوه تارة بالعزم والكفاح، وتارة أخرى بالمتانة والثبات والجلد.. أما ما تتشدق به عادة الكثرة الكاثرة من الأمنيات والحظوظ التي لا تأتى للآدمي ميراثًا أو وصية ــ بل صدفة ـــ فأكثره كسل وخمول وتواكل.. قد تصحبه غصة أو خيبة ليست نادرة الحدوث، لكنها لا توقف استمرار تشدق المتشدق وتمينات الحالم الذي لا يستبعد أن تنقلب الأحلام أو الأوهام إلى حقائق يفوز بها حظه !
وآليتنا المتقدمة جدًّا في نظرنا الآن قد غمرت أعيننا وعواطفنا فوق استحواذها على خيالنا ـــ فأخملت هذه الآليات داخلنا وأخمدت وجدانه.. فلم نعد نلتفت كثيرًا إلى تقدير العفة والأمانة ونظافة اليد والنفس، ولا تستطيع حضارتنا الحالية في أعتى درجات رقيها أن تزعم أنها نقية أو فاضلة أو مخلصة خالصة حتى في قادتها وزعمائها وكبار علمائها وآبائها وفنانيها.. فلماذا ؟!
لأن هؤلاء كلهم بلا استثناء نشأوا من طفولتهم حتى رجولتهم في بيئة عادية غير نقية خاصة في أيامنا هذه ومنذ أن ساد الاستغناء في العائلات عن تربية الأولاد والبنات ومراقبتهم فيها، واكتفاء الآباء والأمهات بالتعليم العالي دون أن يتعرضوا لتربية جادة مستمرة ـــ اكتفاءً ببلوغ ذلك التعلم وما سبقه من الدرجات التعليمية.. وهو تفريط خطر يستحيل أن يتلافاه أو يتداركه المدرس أو أستاذ الجامعة.. وقد باتت دور التعليم إلاّ ما ندر ـــ أسواقًا لما نسميه التفوق والجودة الدراسية وهو القليل العدد، وما نسميه بالمتوسط والعادي وهو العديد الكثير، مع تراجع دور المعلم وأثر القرابة وتزايد الخلط بأنواعه وألوانه بعيدًا كل البعد عن التربية الأسرية التي لم يعد يحفل بها أحد إلاّ نادر النادر في جموعٍ مسترخية إلى آخر ما يتصوره عقل العاقل الحائر في دنياه !.. ففي أيامنا هذه صار للفتى والفتاة من التاسعة أو العاشرة زملاء وإخوان وشركاء ومصالح وأسرار وأخبار بعيدة لا يعرفها الأبوان بل لا يتخيلان وجودها.. كما لا يهم المدرس والمدرسة والأستاذ والأستاذة الالتفات إليها على الإطلاق.. فهي فجوة عميقة منعزلة جدًّا عن الكبار المسئولين ـ معاشًا وأخلاقًا وتربية !
وهذه الفجوة واحدة من أخريات عديدة في مجتمعات اليوم.. منها استرخاء وتفكك العلاقات الزوجية خاصة في الأوساط المتحضرة عند المساواة الكاملة في حرية الآراء والحركة والاختيار والقرار.. وهذه الفجوة قد ألغت رياسة الرجل القديمة في أسرته وألغت معها حرص المرأة الشديد على بقاء نظام ونجاح اتحاد الأب والأم والأولاد من بداية الزواج إلى نهاية عمر أيهما.. فتمزقت دون اكتراث من هذا أو من هذه أسر لا حصر لها، وتمزق معها الشعور
بإيمان الأولاد ويقينهم بصلابة تماسك الوالدين التي هي دعامة العائلة البشرية !
وإذ انفلتت التربية الحسنة العاقلة ووهن مع انفلاتها تضامن الأسرة المتمثل في تماسك وتضافر الأبوين، فإنه لم يعد يوجد ـــ حقًا وصدقًا ـــ أبناء وبنات سالمون مهتدون معدون للحلول بغير تكلف وافتعال، لتكملة ما سعى إليه الوالدان ووقفا عنده ـــ بكل ما في وسعهم.. إلى وقت ليس ببعيد ـــ كان احترام ومحبة الوالدين واجبًا اجتماعيًا أخلاقيًا مع وجوبه دينيا.. ولم يكن أحد يرى أن هذا خطأ في نظر العقل . لأن تناسل البشر تتابع أمواج لا ينقطع.. يدين لاحقه لسابقه بديون بعضها معروف ومعظمها مجهول.. وهكذا كان الحال بين ذلك السابق ومن سبقه.. فقطع الاتصال نهائيًا أو تجاهل القرابة الوثيقة كليةً بين الابن ووالده أو والدته بحجة البعد البعيد أو المركز العالي للابن أو البنت أو الخصومة المريرة المستمرة ـــ إنما هو انحراف عقلي واجتماعي وأخلاقي ويجافي الدين. ولا يمكن ـ بطبيعة التغير البشرى الخارجي المستمر ـــ استعادة ما تغير وانقضى منه، وإنما يمكن إيقاظ ما لم يستيقظ بعد في أعماقنا على خارجه ليحل محل المتغير المنقضي ـــ بما يغني عنه لاستمرار الآدميين على الأرض وانتشارهم في الفضاء الواسع المتصل انتشارًا يتزايد منا في الوعى والفهم والنضج والاستفادة التي لا تنقطع أسبابها وطرقها ومنافعها لدينا ـ عقلاً وبصيرة ونموًا ورشدًا يتزايد ولا يتناقص بالكون العظيم إلى ما شاء الله .