حول « الأنا »ما بداخلها وما حولها (1)
من تراب الطريق (1036)
حول « الأنا »ما بداخلها وما حولها (1)
نشر بجريدة المال الثلاثاء 9/2/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يبدو أن الأحياء على أرضنا تختلق قيمها الذاتية.. خاصة « أنا » « الآدمي » . فالآدميون من أولهم إلى قابل لا يكفون عن اعتناق أو اختلاق القيم ومحاولة تحسينها والإضافة إليها وتعديلها وتغييرها قبل ترك الدنيا عن طريق النظر والبصر والسمع والذوق والشم واللمس.. وفوق ذلك بالجنس منذ الإحساس بندائه ودفعه إلى فقدان القدرة عليه مع الشوق إليه إلى حد الهوس أحيانًا.. كما يختلقون القيم المركبة المصطلح عليها التي تؤهلها تلك الحواس وتساعدها.. كالقوة بكافة صورها المادية والمعنوية والتميز بكفاية أو أكثر، والنفوذ أيا كانت مصادره، والقيادة بكل درجاتها ورياستها، وكاختلاق الآدمي لقيم التملك والأموال ومصادرها، وكالرتبة والأصالة أو العزوة أو القيم الجمالية والموهبة، أو الأداء أو الصوت أو الإتقان أو الإحسان أو سرعة الفهم أو حلاوة العشرة أو الأنس وحسن اللقاء والمجاملة والتأدب .
والأنا التي تعرف منذ أن وجدت هذه الظواهر الفكرية والاصطلاحية التي نسميها قيمًا وندير عليها الخير والشر واليقظة والغفلة والعقل والحمق والشجاعة والجبن والعزم والوهن.. لا تعرف هذه الأنا حتى الآن ــ إلاّ نتفًا من العالم الهائل الهائج المائج الداخلي الذي نسميه ببساطة وغفلة أعضاء جسم الإنسان بتراكيبه التي لا أول لها ولا آخر، وبالأحياء غير المرئيين الداخلة الخارجة فيه ومنه، والأجهزة المكونة لتلك الأعضاء.. وهى في صغيرها وكبيرها وأعلاها وأسفلها عوالم بأسرها . لم يعرف عقلنا عنها حتى الآن إلاّ قليل القليل.. وهى عاملة ناصبة توجه من لديها الملايين من الجنود المزودين بقوى المناعة والصد والمقاومة، لملاقاة الملايين من المعادين المنبعثين من خارج كل منا.. دون أن تتصور « أنا » أي منا وجود أولئك ومقدرتهم على التسرب والتكاثر والإضعاف والإهلاك لجسم الآدمي !
ليس معنا في الواقع المر ــ شيء نثق فيه أو منه أو عنه، ثقة أكيدة يستحيل أن تهن
أو تنفصل عنا في أي وقت أو موقف في أي زمان أو مكان.. ربما لأننا جميعًا لا نعرف بالقطع كافة تراكيب أعضـاء الجسـم من ألفه إلى يائه، فنحن مخلوقون أُتى بنا إلى دنيانا على الشاكلة التي خلق عليها كلُّ منا بعـد اكتمال تركيب أعضائه وتتويجها « بالأنا ».. هذه « الأنا » التي لا ترى أولاً وأخيرًا إلاّ دنياها هي دائمًا.. ناهيك بمن يولد أعمى أصم أبكم والعياذ بالله .
و« أنا » كل آدمي لها شارة خاصة به تلازمها من بداياتها.. لا يغيرها إلاّ بشارة أخرى تحل محلها بما يعرف « بالاسم واللقب ».. وهذه الشارة تبدو غائبة ساعة ميلاد الجنين ولا تضاف إليه إلاّ حين يعطيه أهله اسمه ولقبه في أيامه الأولى.. تبقى معه إلى أن يشتد.. فيستبقيها أو يغير أجزاء منها أو يغيرها كلها إن شاء أو اضطر.. ولا يوجد زواج أو طلاق أو ميلاد أو وفاة، ولا ملكية وتسجيلها، ولا مسكن وعنوانه، ولا جنسية أو رعوية أو إقامة عادية، ولا وظيفة أو عمل أو جندية أو رياسة أو قيادة أو حكم أو إمارة أو زعامة أو إدارة أو نقابة أو مثل ذلك ــ دون وجود الأسماء والألقاب التي تحدد صاحب « الأنا » حيًا كان أو غير حي . فلكل آدمي حىّ ــ « أنا » يعرفه الغير بها . وباستخدام هذه « الأنا » التي ينفرد بها كل آدمي عن سواه من البشر يتصل الآدميون بعضهم وينفصل بعضهم عن بعض.. إما قرابة وصداقة وتعاملاً واستذكارًا، واستشهادًا أو احتجاجًا، وإما إبعادًا أو غربة، أو نفورًا ومقتًا، أو عداءً وحربًا.. لم يتغير هذان المسلكان في عمومهما منذ أن جرينا على تعريف أجناس الآدميين بذواتهم إلى يومنا هذا !
ولذلك كان تاريخ البشرية مبنى بأسره على أسماء الملوك والأمراء والحكام والقادة والأنبياء والأولياء وعلماء الدين وعلماء اللغات والآداب والفنون.. ثم على أسماء علماء العلوم الوضعية وكتبهم وتقريراتهم وأبحاثهم واكتشافاتهم خلال القرون الأخيرة.. فالجامعات والمعاهد والمدارس والمكتبات والمراصد والمعامل والكشوف المتتابعة خلال تلك القرون بتعديلاتها وتغييراتها وانقلاباتها ــ لم تصل إلى ما وصلت إليه الآن من السعة والاقتدار والسمعة، إلاّ بأسماء السابقين والحاليين من المشتغلين بالعلوم الوضعية علمًا أو عملاً أو بحثًا أو كشفًا أو احترامًا أو ابتكارًا أو تنفيذًا .