حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٨٤ لسنة ١٧ دستورية

حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٨٤ لسنة ١٧ دستورية
تاريخ النشر : ٢٧ – ٠٣ – ١٩٩٧

منطوق الحكم : رفض دستورية

مضمون الحكم : حكمت المحكمة برفض طلب الحكم بعدم دستورية المادتين ٢٦ و٧٧ من القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٧ في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر، وكذلك المادتين ٦ و٢٣ من القانون رقم ١٣٦ لسنة ١٩٨١ في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.

الحكم

برياسة عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة وحضور محمد ابراهيم أبو العينين ومحمد ولى الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وعبد المجيد فياض أعضاء وحنفى على جبالى رئيس هيئة المفوضين وحمدى أنور صابر أمين السر .

– – – ١ – – –
من المقرر أن شرط المصلحة الشخصية المباشرة يتغيا أن تفصل المحكمة الدستورية العليا فى الخصومة الدستورية من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية ، وهو كذلك يقيد تدخلها فى هذه الخصومة ، فلا تفصل فى غير المسائل الدستورية التى يؤثر الحكم فيها على النزاع الموضوعى . ويتحدد مفهوم هذا الشرط باجتماع عنصرين : أولهما : أن يقيم المدعى ــ وفى حدود الصفة التى إختصم بها النص المطعون فيه ــ الدليل على أن ضرراً واقعياً ــ أوغيره ــ قد لحق به ، سواء أكان مهدداً بهذا الضرر ، أم كان قد وقع فعلاً . ويتعين دوماً أن يكون الضرر المدعى به مباشراً ، منفصلاً عن مجرد مخالفة النص المطعون فيه للدستور ، مستقلاً بالعناصر التى يقوم عليها ، ممكناً تصوره ومواجهته بالترضية القضائية ، تسوية لآثاره . ثانيهما : أن يكون هذا الضرر عائداً إلى النص المطعون فيه ، وليس ضرراً متوهماً أو منتحلاً أو مجهلاً . فإذا لم يكن هذا النص قد طبق أصلاً على من إدعى مخالفته للدستور ، أو كان من غير المخاطبين بأحكامه ، أو كان الإخلال بالحقوق التى يدعيها لا يعود إليه ، دل ذلك على إنتفاء المصلحة الشخصية المباشرة ، ذلك أن إبطال النص التشريعى فى هذه الصور جميعها لن يحقق للمدعى أية فائدة عملية يمكن أن يتغير بها مركزه القانونى بعد الفصل فى الدعوى الدستورية ، عما كان عليه قبلها .

– – – ٢ – – –
من المقرر أن شرط المصلحة الشخصية المباشرة يتغيا أن تفصل المحكمة الدستورية العليا فى الخصومة الدستورية من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية ، وهو كذلك يقيد تدخلها فى هذه الخصومة ، فلا تفصل فى غير المسائل الدستورية التى يؤثر الحكم فيها على النزاع الموضوعى . ويتحدد مفهوم هذا الشرط باجتماع عنصرين : أولهما : أن يقيم المدعى ــ وفى حدود الصفة التى إختصم بها النص المطعون فيه ــ الدليل على أن ضرراً واقعياً ــ أوغيره ــ قد لحق به ، سواء أكان مهدداً بهذا الضرر ، أم كان قد وقع فعلاً . ويتعين دوماً أن يكون الضرر المدعى به مباشراً ، منفصلاً عن مجرد مخالفة النص المطعون فيه للدستور ، مستقلاً بالعناصر التى يقوم عليها ، ممكناً تصوره ومواجهته بالترضية القضائية ، تسوية لآثاره . ثانيهما : أن يكون هذا الضرر عائداً إلى النص المطعون فيه ، وليس ضرراً متوهماً أو منتحلاً أو مجهلاً . فإذا لم يكن هذا النص قد طبق أصلاً على من إدعى مخالفته للدستور ، أو كان من غير المخاطبين بأحكامه ، أو كان الإخلال بالحقوق التى يدعيها لا يعود إليه ، دل ذلك على إنتفاء المصلحة الشخصية المباشرة ، ذلك أن إبطال النص التشريعى فى هذه الصور جميعها لن يحقق للمدعى أية فائدة عملية يمكن أن يتغير بها مركزه القانونى بعد الفصل فى الدعوى الدستورية ، عما كان عليه قبلها .

– – – ٣ – – –
إن نطاق الدعوى الدستورية ــ وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة ــ وإن تحدد أصلاً بالنصوص القانونية التى تعلق بها الدفع بعدم الدستورية المثار أمام محكمة الموضوع ، إلا أن هذا النطاق يتسع كذلك لتلك النصوص التى أضير المدعى من جراء تطبيقها عليه ــ ولو لم يتضمنها هذا الدفع ــ إذا كان فصلها عن النصوص التى إشتمل الدفع عليها متعذراَ ، وكان ضمها إليه كافلاً الأغراض التى توخاها المدعى بدعواه الدستورية ، فلا تحمل إلا على مقاصده ، ولا تتحقق مصلحته الشخصية والمباشرة بعيداً عنها . وحيث إن المدعية كانت متهمة جنائياً فى جريمة تقاضى مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار ( خلو رجل ) ، وكانت المادتان ٢٦ و ٧٧ من القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٧ فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر ، قد نظمتا هذه الجريمة ذاتها : أولاهما بحظرها تقاضى هذا الخلو ، وثانيتهما بتقريرها لجزاء جنائى على مخالفة هذا الحظر ، فإن التنظيم التشريعى لهذه الجريمة ــ وباعتبارها تمثل مبالغ تقاضها المؤجر خارج نطاق عقد الإيجار ــ يشمل على هذين الأمرين معاً . لا ينال من ذلك أن يكون الدفع المثار من المدعية أمام محكمة الموضوع ، قد إقتصر على نص المادة ٢٦ من هذا القانون ، ذلك أن الإتهام تعلق باقتضائها لخلو الرجل ، وغايتها من الطعن بعدم دستورية مواده ، ألا تلاحقها سلطة الاتهام بعقوبة هذه الجريمة المنصوص عليها فى المادة ٧٧ من هذا القانون ، ومن ثم تعتبر مادتاه ٢٦ و ٧٧ ، محددتين لنطاق دعواها الدستورية ، ومرتبطتين بالنزاع الموضوعى .

– – – ٤ – – –
إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن القيود الاستثنائية التى نظم بها المشرع العلائق الإيجارية ، لا يجوز إعتبارها حلاً دائماً ونهائياً لمشكلاتها ، فلا يتحول المشرع عنها ، بل عليه أن يعيد النظر فيها على ضوء ما ينبغى أن يقوم فى شأنها من توازن بين حقوق كل من المؤجر والمستأجر ، فلا يختل التضامن بينهما إجتماعياً ، ولا يكون صراعهما بديلاً عن التعاون بينهما ، بل تتوافق مصالحهما إقتصادياً ، وعلى تقدير أن الأصل فى عقود القانون الخاص هو إنبناؤها على علائق تتكافأ بشأنها مصالح أطرافها ، فلا يميل ميزانها فى إتجاه مناقض لطبيعتها ، إلا بقدر الضرورة التى يتعين أن تخلى مكانها ــ عند فواتها ــ لحرية التعاقد .

– – – ٥ – – –
إستصحاباً لحرية التعاقد التى تعتبر أصلاً يهيمن على عقود القانون الخاص ، وضماناً لئلا يظل شاغل العين المؤجرة باقياً فيها بعد إنتهاء مدة إجارتها ، وإلا كان غاصباً لها ، أصدر المشرع القانون رقم ٤ لسنة ١٩٩٦ ليعيد العلائق الإيجارية ــ فى الأماكن التى يشملها ــ إلى الأصل فيها ، وذلك بما نصت عليه مادته الأولى من عدم سريان أحكام القانونين رقمى ٤٩ لسنة ١٩٧٧ ، ١٣٦ لسنة ١٩٨١ المشار إليهما ، وكذلك القوانين الخاصة بإيجار الأماكن الصادرة قبلهما ، فى شأن الأماكن التى لم يسبق تأجيرها ، ولا الأماكن التى إنتهت عقود إيجارها قبل العمل بهذا القانون . أو إنتهت بعده دون أن يكون لأحد حق البقاء فيها قانوناً ، وكان هذا القانون قد ألغى كذلك بمادته الثانية كل النصوص القانونية المعمول بها قبل نفاذه ، بقدر تعارضها مع أحكامه ، فإنه بذلك يكون ناسخاً لجريمة خلو الرجل التى قررتها القوانين السابقة عليه ، وهى جريمة ظل وجودها مرتبطاً بالقوانين الاستثنائية التى أحاط بها المشرع العلائق الإيجارية ، مخالفاً فى ذلك قواعد القانون المدنى التى لا مكان فيها لجريمة إقتضاء مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار .

– – – ٦ – – –
إستصحاباً لحرية التعاقد التى تعتبر أصلاً يهيمن على عقود القانون الخاص ، وضماناً لئلا يظل شاغل العين المؤجرة باقياً فيها بعد إنتهاء مدة إجارتها ، وإلا كان غاصباً لها ، أصدر المشرع القانون رقم ٤ لسنة ١٩٩٦ ليعيد العلائق الإيجارية ــ فى الأماكن التى يشملها ــ إلى الأصل فيها ، وذلك بما نصت عليه مادته الأولى من عدم سريان أحكام القانونين رقمى ٤٩ لسنة ١٩٧٧ ، ١٣٦ لسنة ١٩٨١ المشار إليهما ، وكذلك القوانين الخاصة بإيجار الأماكن الصادرة قبلهما ، فى شأن الأماكن التى لم يسبق تأجيرها ، ولا الأماكن التى إنتهت عقود إيجارها قبل العمل بهذا القانون . أو إنتهت بعده دون أن يكون لأحد حق البقاء فيها قانوناً ، وكان هذا القانون قد ألغى كذلك بمادته الثانية كل النصوص القانونية المعمول بها قبل نفاذه ، بقدر تعارضها مع أحكامه ، فإنه بذلك يكون ناسخاً لجريمة خلو الرجل التى قررتها القوانين السابقة عليه ، وهى جريمة ظل وجودها مرتبطاً بالقوانين الاستثنائية التى أحاط بها المشرع العلائق الإيجارية ، مخالفاً فى ذلك قواعد القانون المدنى التى لا مكان فيها لجريمة إقتضاء مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار .

– – – ٧ – – –
إن إستقرار مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات فى مفاهيم الدول المتحضرة ، دعا إلى توكيده بينها . ومن ثم وجد صداه فى عديد من المواثيق الدولية ، من بينها الفقرة الأخيرة من المادة ١١ من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان ، والفقرة الأولى من المادة ١٥ من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية ، والمادة ٧ من الإتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان . وتردد هذا المبدأ كذلك فى دساتير عديدة ، يندرج تحتها ما تنص عليه المادة ٦٦ من دستور جمهورية مصر العربية من أنه لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لنفاذ القانون الذى ينص عليها ، وما تقرره كذلك المادة ١٨٧ من هذا الدستور التى تقضى بأن الأصل فى أحكام القوانين هو سريانها إعتباراً من تاريخ العمل بها ، ولا أثر لها فيما وقع قبلها إلا بنص خاص تقره أغلبية أعضاء السلطة التشريعية فى مجموعهم .

– – – ٨ – – –
إن مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ، وإن إتخذ من ضمان الحرية الشخصية بنياناً لإقراره وتوكيده ، إلا أن هذه الحرية ذاتها هى التى تقيد من محتواه ، فلا يكون إنفاذ هذا المبدأ لازماً إلا بالقدر وفى الحدود التى تكفل صونها In Favorem . ولا يجوز بالتالى إعمال نصوص عقابية يسئ تطبيقها إلى مركز قائم لمتهم ، ولا تفسيرها بما يخرجها عن معناها أو مقاصدها ، ولا مد نطاق التجريم ــ وبطريق القياس ــ إلى أفعال لم يؤثمها المشرع ، بل يتعين دوماً ــ وكلما كان مضمونها يحتمل أكثر من تفسير ــ أن يرجح القاضى من بينها ما يكون أكثر ضماناً للحرية الشخصية فى إطار علاقة منطقية La ratio Legis يقيمها بين هذه النصوص وإرادة المشرع ، سواء فى ذلك تلك التى أعلنها ، أو التى يمكن إفتراضها عقلاً .

– – – ٩ – – –
إن النطاق الحقيقى لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ، إنما يتحدد على ضوء ضمانتين تكفلان الأغراض التى توخاها : أولاهما : أن تصاغ النصوص العقابية بطريقة واضحة محددة لإخفاء فيها أو غموض ، فلا تكون هذه النصوص شباكاً أو شراكاً يلقيها المشرع متصيداً باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها ، وهى بعد ضمانة جوهرية غايتها أن يكون المخاطبون بالنصوص العقابية على بينة من حقيقتها ، فلا يكون سلوكهم مجافياً لها ، بل إتساقاً معها ونزولاً عليها . ثانيتهما : ومفترضها أن المرحلة الزمنية التى تقع بين دخول القانون الجنائى حيز التنفيذ وإلغاء هذا القانون ، إنما تمثل الفترة التى كان يحيا خلالها ، فلا يطبق على أفعال أتاها جناتها قبل نفاذه ، بل يتعين أن يكون هذا القانون سابقاً عليها La loi prealable فلا يكون رجعياً ، على أن يكون مفهوماً أن القوانين الجنائية وإن كان سريانها على وقائع إكتمل تكوينها قبل نفاذها ، غير جائز أصلاً ، إلا إن إطلاق هذه القاعدة يفقدها معناها ، ذلك أن الحرية الشخصية وإن كان يهددها القانون الجنائى الأسوأ ، إلا أن هذا القانون يرعاها ويحميها إذا كان أكثر رفقاً بالمتهم ، سواء من خلال إنهاء تجريم أفعال أثمها قانون جنائى سابق ، أو عن طريق تعديل تكييفها أو بنيان بعض العناصر التى تقوم عليها ، بما يمحو عقوباتها كلية أو يجعلها أقل بأساً ، وبمراعاة أن غلو العقوبة أو هوانها إنما يتحدد على ضوء مركز المتهم فى مجال تطبيقها بالنسبة إليه . وما تقدم مؤداه ، أن إنكار الأثر الرجعى للقوانين الجزائية ، يفترض أن يكون تطبيقها فى شأن المتهم مسيئاً إليه ، فإن كانت أكثر فائدة لمركزه القانونى فى مواجهة سلطة الإتهام ، فإن رجعيتها تكون أمراً محتوماً . ومن ثم نكون أمام قاعدتين تجريان معاً وتتكاملان : أولاهما : أن مجال سريان القانون الجنائى ينحصر أصلاً فى الأفعال اللاحقة لنفاذه ، فلا يكون رجعياً كلما كان أشد وقعاً على المتهم . وثانيتهما : سريان القانون اللاحق على وقائع كان يؤثمها قانون سابق ، كلما كان القانون الجديد أكثر يسراً . وتكامل هاتين القاعدتين مؤداه ، أن ثانيتهما لا تعتبر إستثناء من أولاهما ، ولا هى قيد عليها ، بل فرع منها ونتيجة حتمية لها . وكلتاهما معاً تعتبران إمتداد لازماً لقاعدة شرعية الجرائم والعقوبات Le prolongement necessaire ، ولهما معاً القيمة الدستورية ذاتها .

– – – ١٠ – – –
إن النطاق الحقيقى لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ، إنما يتحدد على ضوء ضمانتين تكفلان الأغراض التى توخاها : أولاهما : أن تصاغ النصوص العقابية بطريقة واضحة محددة لإخفاء فيها أو غموض ، فلا تكون هذه النصوص شباكاً أو شراكاً يلقيها المشرع متصيداً باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها ، وهى بعد ضمانة جوهرية غايتها أن يكون المخاطبون بالنصوص العقابية على بينة من حقيقتها ، فلا يكون سلوكهم مجافياً لها ، بل إتساقاً معها ونزولاً عليها . ثانيتهما : ومفترضها أن المرحلة الزمنية التى تقع بين دخول القانون الجنائى حيز التنفيذ وإلغاء هذا القانون ، إنما تمثل الفترة التى كان يحيا خلالها ، فلا يطبق على أفعال أتاها جناتها قبل نفاذه ، بل يتعين أن يكون هذا القانون سابقاً عليها La loi prealable فلا يكون رجعياً ، على أن يكون مفهوماً أن القوانين الجنائية وإن كان سريانها على وقائع إكتمل تكوينها قبل نفاذها ، غير جائز أصلاً ، إلا إن إطلاق هذه القاعدة يفقدها معناها ، ذلك أن الحرية الشخصية وإن كان يهددها القانون الجنائى الأسوأ ، إلا أن هذا القانون يرعاها ويحميها إذا كان أكثر رفقاً بالمتهم ، سواء من خلال إنهاء تجريم أفعال أثمها قانون جنائى سابق ، أو عن طريق تعديل تكييفها أو بنيان بعض العناصر التى تقوم عليها ، بما يمحو عقوباتها كلية أو يجعلها أقل بأساً ، وبمراعاة أن غلو العقوبة أو هوانها إنما يتحدد على ضوء مركز المتهم فى مجال تطبيقها بالنسبة إليه . وما تقدم مؤداه ، أن إنكار الأثر الرجعى للقوانين الجزائية ، يفترض أن يكون تطبيقها فى شأن المتهم مسيئاً إليه ، فإن كانت أكثر فائدة لمركزه القانونى فى مواجهة سلطة الإتهام ، فإن رجعيتها تكون أمراً محتوماً . ومن ثم نكون أمام قاعدتين تجريان معاً وتتكاملان : أولاهما : أن مجال سريان القانون الجنائى ينحصر أصلاً فى الأفعال اللاحقة لنفاذه ، فلا يكون رجعياً كلما كان أشد وقعاً على المتهم . وثانيتهما : سريان القانون اللاحق على وقائع كان يؤثمها قانون سابق ، كلما كان القانون الجديد أكثر يسراً . وتكامل هاتين القاعدتين مؤداه ، أن ثانيتهما لا تعتبر إستثناء من أولاهما ، ولا هى قيد عليها ، بل فرع منها ونتيجة حتمية لها . وكلتاهما معاً تعتبران إمتداد لازماً لقاعدة شرعية الجرائم والعقوبات Le prolongement necessaire ، ولهما معاً القيمة الدستورية ذاتها .

– – – ١١ – – –
جرى قضاء هذه المحكمة على أن القانون الجنائى ، وإن إتفق مع غيره من القوانين فى تنظيم علائق الأفراد بمجتمعهم وفيما بين بعضهم البعض ، إلا أن هذا القانون يفارقها فى إتخاذ العقوبة أداة لتقويم الأفعال التى يأتونها أو يدعونها بما يناقض أوامره أو نواهيه . وهو بذلك يتغيا أن يحدد ــ ومن منظور إجتماعى ــ مالا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم ، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها إجتماعياً ممكناً ، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مبرراً ، إلا إذا كان مفيداً من وجهة إجتماعية ، فإذا كان مجاوزاً تلك الحدود التى لا يكون معها ضرورياً ، غدا مخالفاً للدستور . وهذا القضاء ــ وباعتباره معياراً للشرعية الدستورية للنصوص العقابية ــ مردد كذلك فيما بين الأمم المتحضرة ، ومن بينها فرنسا التى أقر مجلسها الدستورى مبدأين فى هذا الشأن . أولهما : أنه كلما نص القانون الجديد على عقوبة أقل قسوة من تلك التى قررها القديم ، تعين أن تعامل النصوص القانونية التى تتغيا الحد من آثار تطبيق القانون الجديد فى شأن الجرائم التى تم إرتكابها قبل نفاذه ، والتى لم يصدر فيها بعد حكم حائز لقوة الأمر المقضى ، باعتبارها متضمنة إخلالاً بالقاعدة التى صاغتها المادة ٨ من إعلان ١٧٨٩ فى شأن حقوق الإنسان والمواطن ، والتى لا يجوز للمشرع على ضوئها أن يقرر للأفعال التى يؤثمها ، غير عقوباتها التى تضبطها الضرورة بوضوح ، فلا تجاوز متطلباتها La loi ne doit etablir que des peines strictement et evidemment necessaires ذلك أن عدم تطبيق القانون الجديد على الجرائم التى إرتكبها جناتها فى ظل القانون القديم ، مؤداه أن ينطق القاضى بالعقوبات التى قررها هذا القانون ، والتى لم يعد لها ــ فى تقدير السلطة التشريعية التى أنشأتها ــ من ضرورة .
{ nom ٨٠ – ١٢٧ DC, ١٩ et ٢٠ janvier ١٩٨١, cons. ٧٥ , Rec . p.١٥ }
ثانيهما : أن تأثيم المشرع لأفعال بذواتها ، لا ينفصل عن عقوباتها التى يجب أن يكون فرضها مرتبطأ بمشروعيتها ، وبضرورتها ، وبامتناع رجعية النصوص العقابية التى قررتها كلما كان مضمونها أكثر قسوة ، ودون ما إخلال بحقوق الدفاع التى تقارنها . ولا تتعلق هذه الضوابط جميعها بالعقوبات التى توقعها السلطة القضائية فقط ، ولكنها تمتد لكل جزاء يتمحض عقاباً ، ولو كان المشرع قد عهد بالنطق به إلى جهة غير قضائية .
Une peine ne peut etre infiligee qu a la condition que soient respectes le principe de legalite des delits et des peines, le principe de necessite des peines, le princpe de non – retroactivite de la loi penale d incrimination plus severe ainsi que le respect du principe des droits de la defense. Ces exigences concernent non seulement les peines prononcees par les juridictions repressives mais aussi toute sanction ayant le caractere d une punition meme si le legislateur a laisse a le soin de la prononcer a une autorite de nature non judiciaire .
{ nom ٨٨ – ٢٤٨ DC, ١٧ janvier ١٩٨٩, cons. ٣٥ a ٤٢, p.١٨ }

– – – ١٢ – – –
إن قضاء هذه المحكمة فى شأن كل قانون أصلح للمتهم يصدر بعد وقوع الفعل ــ وقبل الفصل فيه نهائياً ــ مؤداه أن سريان القانون اللاحق فى شأن الأفعال التى أثمها قانون سابق ، وإن إتخذ من نص المادة ٥ من قانون العقوبات موطئاً وسنداً ، إلا أن صون الحرية الشخصية التى كفلها الدستور بنص المادة ٤١ منه ، هى التى تقيم هذه القاعدة وترسيها بما يحول بين المشرع وتعديلها أو العدول عنها . ذلك أن ما يعتبر قانوناً أصلح للمتهم ، وإن كان لا يندرج تحت القوانين التفسيرية التى تندمج أحكامها فى القانون المفسر ، وترتد إلى تاريخ نفاذه باعتبارها جزءاً منه يبلور إرادة المشرع التى قصد إليها إبتداء عند إقراره لهذا القانون ، إلا أن كل قانون جديد يمحو التجريم عن الأفعال التى أثمها القانون القديم ، إنما ينشئ للمتهم مركزاً قانونياً جديداً ، ويقوض ــ من خلال رد هذه الأفعال إلى دائرة المشروعية ــ مركزاً سابقاً . ومن ثم يحل القانون الجديد ــ وقد صار أكثر رفقاً بالمتهم وأعون على صون الحرية الشخصية التى إعتبرها الدستور حقاً طبيعياً لا يمس ــ محل القانون القديم ، فلا يتزاحمان أو يتداخلان ، بل ينحى ألحقهما أسبقهما . وغدا لازماً بالتالى ــ وفى مجال إعمال القوانين الجنائية الموضوعية les lois penales de fond الأكثر رفقاً بالمتهم ــ توكيد أن صون الحرية الشخصية من جهة ، وضرورة الدفاع عن مصالح الجماعة والتحوط لنظامها العام من جهة أخرى ، مصلحتان متوازيتان ، فلا تتهادمان . وصار أمراً مقضياً ــ وكلما صدر قانون جديد يعيد الأوضاع إلى حالها قبل التجريم ــ أن ترد لأصحابها تلك الحرية التى كان القانون القديم ينال منها ، وأن يرتد هذا القانون على عقبيه ، إعلاء للقيم التى إنحاز إليها القانون الجديد ، وعلى تقدير أن صونها لا يخل بالنظام العام باعتباره مفهوماً مرناً متطوراً على ضوء مقاييس العقل الجمعى التى لا ينفصل القانون الأصلح عنها ، بل يوافقها ويعمل على ضوئها ، فلا يكون إنفاذه منذ صدوره إلا تثبيتاً للنظام العام بما يحول دون إنفراط عقده ، بعد أن صار هذا القانون أكفل لحقوق المخاطبين بالقانون القديم وأصون لحرياتهم .

– – – ١٣ – – –
إن القوانين الجزائية التى نقارنها ببعض تحديداً لأصلحها للمتهم ، تفترض إتفاقها جميعاً مع الدستور ، وتزاحمها على محل واحد ، وتفاوتها فيما بينها فى عقوباتها ، فلا تغلب من صور الجزاء التى تتعامد على المحل الواحد ، إلا تلك التى تكون فى محتواها أو شرائطها أو مبلغها Le contenu, Les modalites et Le quantum des peines أقل بأساً من غيرها ، وأهون أثراً

– – – ١٤ – – –
البين من النصوص التى أثم بها المشرع جريمة خلو الرجل فى نطاق العلائق الإيجارية ــ وبقدر إتصالها بالنزاع الراهن ــ أن إتيان الأفعال التى تقوم بها هذه الجريمة ، ظل مشمولاً بالجزاء الجنائى حتى بعد العمل بالقانون رقم ١٣٦ لسنة ١٩٨١ الذى صدر منظماً بعض الأحكام الخاصة بالعلائق الإيجارية ، ذلك أن هذا القانون ، وإن نص على إلغاء العقوبات المقيدة للحرية التى فرضتها قوانين إيجار الأماكن السابقة على العمل بأحكامه ، إتساقاً مع إتجاهه إلى الحد من القيود التى أرهق بها المشرع مصالح المؤجر ، إلا أنه إستثنى من ذلك جريمة خلو الرجل ، والجرائم المنصوص عليها فى المادة ٢٣ منه ، مبقياً بذلك على عقوباتها .

– – – ١٥ – – –
إن القانون اللاحق ــ وهو القانون رقم ٤ لسنة ١٩٩٦ ــ أعاد من جديد تنظيم جريمة خلو الرجل فى شأن الأماكن التى حددتها مادته الأولى ، مقرراً سريان قواعد القانون المدنى ــ دون غيرها ــ عند تأجيرها وإستغلالها ، وملغياً كل قاعدة على خلافها ، مؤكداً بذلك إستئثار أصحابها بها ، لتخرج هذه الأماكن بذلك من نطاق التدابير الاستثنائية التى درج المشرع على فرضها فى مجال العلائق الإيجارية ، فلا يكون تأجيرها إلا وفق الشروط التى تتطابق بشأنها إرادة مؤجريها مع من يتقدمون لطلبها ، ولو كان من بينها تقاضى المؤجر لمبالغ خارج نطاق عقد الإيجار ، أيا كان وصفها أو مقدارها أو سببها . وهو ما يعنى أن الضرورة الاجتماعية التى إنطلق منها الجزاء المقرر بالقوانين السابقة فى شأن هذه الجريمة ، قد أسقطتها فلسفة جديدة تبنتها الجماعة فى واحد من أطوار تقدمها ، قوامها حرية التعاقد ، فلا يكون الجزاء الجنائى ــ وقد لابس القيود التى فرضتها هذه القوانين على تلك الحرية ــ إلا منهدماً بعد العمل بالقانون الجديد .

– – – ١٦ – – –
إن القانون اللاحق رقم ٤ لسنة ١٩٩٦ تغيا أن يعيد العلائق الإيجارية إلى الأصل فيها ، فلا تحكمها إلا حرية التعاقد التى يلازمها بالضرورة أن يكون المتعاقدان على شروطهما التى يناقضها أن يكون الاتفاق على مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار ــ وهو جائز قانوناً فى شأن الأماكن التى ينظمها القانون الجديد ــ سبباً لتجريم إقتضائها . والأفعال التى أثمها القانون السابق بالشروط التى فرضها ، هى ذاتها التى أطلق القانون الجديد الحق فيها ، فلا يكون إمتداده إليها إلا ضماناً لصون الحرية الشخصية التى منحها الدستور الرعاية الأوفى والأشمل توكيداً لقيمتها . بل إن هذا القانون ــ وباعتباره أصلح للمتهم ــ يعتبر متمتعاً بالقوة ذاتها التى كفلها الدستور لهذه الحرية ، فلا يكون القانون السابق حائلاً دون جريانها ، بل منجرفاً بها . التجريم المقرر بالقانون السابق ، إرتبط بتدابير إستثنائية قدر المشرع ضرورة إتخاذها خلال الفترة التى ظل فيها هذا القانون نافذاً . فإذا دل القانون اللاحق على إنتفاء الضرورة الاجتماعية التى لا يكون الجزاء الجنائى مبرراً مع فواتها ، فإن هذا القانون يكون أكثر ضماناً للحرية الشخصية التى كفل الدستور صونها .

– – – ١٧ – – –
تأثيم المشرع لأفعال بعينها ، قد يكون مشروطاً بوقوعها فى مكان معين ، كتجريم الأفعال التى يأتيها شخص داخل النطاق المكانى لمحمية طبيعية إضراراً بخصائصها أو بمواردها . وقد يؤثم المشرع أفعالاً بذواتها ، جاعلاً من إرتكابها فى مكان محدد ، ظرفاً مشدداً لعقوبتها ، كالسرقة فى مكان مسكون أو معد للسكنى أو ملحقاتهما أو فى محل للعبادة عدواناً على حرمتها . ولا كذلك جريمة تقاضى المؤجر لمبالغ خارج نطاق عقد الإيجار ، ذلك أن وقوعها فى الأماكن التى أخضعها هذا القانون لحكمه ، ليس شرطاً لاكتمال أركانها ، ولا ظرفاً لازماً لتغليط عقوبتها ، ولكنها تتحقق إتصالاً بواقعة تأجيرها وبمناسبتها ، ولمجرد أن المكان المؤجر لم يكن ــ عند العمل بالقانون الجديد ــ خالياً .

– – – ١٨ – – –
من غير المتصور أن يظل قائماً ، التجريم المقرر بالقانون السابق فى شأن تقاضى مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار ، إذا كانت الأماكن التى يشملها هذا القانون مؤجرة قبل نفاذ القانون الجديد ، فإذا خلا مكان منها وقت سريان هذا القانون ، تحرر المؤجر جنائياً من كل قيد يتعلق بإقتضاء المؤجر لمبالغ خارج نطاق عقد الإيجار . وليس مفهوماً أن يكون للفعل الواحد معنيان مختلفان ، ولا أن تحتفظ الجريمة التى أنشأها القانون القديم بذاتيتها ، وبوطأة عقوبتها ، بعد أن جرد القانون الجديد الفعل الذى يكونها من الآثام التى إحتضنتها . إن القانون الجديد صرح بإلغاء كل قانون يتضمن أحكاماً تناقض تلك التى أتى بها ، بما مؤداه إطراح النصوص المخالفة للقانون الجديد ــ فى شأن يتعلق بالتجريم ــ سواء تضمنها تنظيم عام أو خاص . ذلك أن القوانين لا تتنازع إلا بقدر تعارضها ، ولكنها تتوافق من خلال وسائل متعددة يتصدرها ــ فى المجال الجنائى ــ القانون الأصلح للمتهم ، فلا يكون نسيجها إلا واحداً . والجريمة التى أنشأها القانون السابق ، هى ذاتها التى هدمها القانون الجديد . و وجودها وإنعدامها متصادمان ، فلا يستقيم إجتماعهما .

– – – ١٩ – – –
إعمال الأثر الرجعى للقانون الأصلح للمتهم ، يعتبر إنحيازاً من القاضى لضمانة جوهرية للحرية الشخصية ، تبلورها السياسة العقابية الجديدة للسلطة التشريعية التى تتحدد على ضوء فهمها للحقائق المتغيرة للضرورة الاجتماعية . وهى بعد ضرورة ينبغى أن يحمل عليها كل جزاء جنائى ، وإلا فقد علة وجوده .

– – – ٢٠ – – –
إذ كانت الواقعة محل الاتهام الجنائى لم تعد معاقباً عليها ، فقد تعين الحكم بانتفاء مصلحة المدعى فى الدعوى الماثلة ، بعد أن غض المشرع بصره عن بعض التدابير الاستثنائية للعلائق الإيجارية التى إنبنى التجريم عليها ، وخرج من صلبها . وإذ كان قضاء هذه المحكمة بإعتبار القانون رقم ٤ لسنة ١٩٩٦ أصلح للمتهم ، وقد إنبنى على التطبيق المباشر للقواعد الدستورية التى تناولتها على النحو المتقدم ، فإن حكمها بإعتبار هذا القانون كذلك ، يكون متمتعاً بالحجية المطلقة التى أسبغها المشرع على أحكامها الصادرة فى المسائل الدستورية ، وملزماً بالتالى الناس كافة وكل سلطة فى الدولة ، بما فى ذلك جهات القضاء على إختلافها .

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى