حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٥٩ لسنة ١٨ دستورية
حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٥٩ لسنة ١٨ دستورية
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت أول فبراير سنة ١٩٩٧الموافق٢٣ رمضان سنة ١٤١٧ه.
برئاسة السيد المستشار الدكتور عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: عبد الرحمن نصير وسامى فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين وعدلى محمود منصور ومحمد عبد القادر عبد الله. نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور / حنفى على جبالى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / حمدى أنور صابر أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول
المحكمة الدستورية العليا
برقم ٥٩ لسنة ١٨ قضائية دستورية ، بعد أن أحالت محكمة عابدين ملف القضية رقم ٣٣٨٥ لسنة ١٩٩٥ جنح عابدين
المقامة من
السيد / محمد ثروث اباظه
ضد
١ – السيد / عمرو ناصف
٢ – السيد / مصطفى بكرى
الإجراءات
فى الثانى عشر من يونيو سنة ١٩٩٦، ورد إلى قلم الكتاب ملف القضية رقم ٣٣٨٥ لسنة ١٩٩٥ جنح عابدين، بعد أن أصدرت محكمة عابدين بجلستها المعقودة فى ٢٤ إبريل سنة ١٩٩٦ حكمها بوقف نظرها لهذه الجنحة وإحالة ملفها إلى
المحكمة الدستورية العليا
للفصل فى المسألة الدستورية الخاصة بالمادة (١٩٥) عقوبات.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى .
وبعد تحضير الدعوى ، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة .
حيث إن الوقائع – حسبما يبين من حكم الإحالة وسائر الأوراق – تتحصل فى أن المدعى كان قد أقام ضد المدعى عليهما – وبصفته مدعياً بالحق المدنى – الجنحة رقم ٣٣٨٥ لسنة ١٩٩٥ عابدين، طالباً معاقبتهما بالمواد (٣٠٣، ٣٠٦، ٣٠٧) من قانون العقوبات، مع إلزامهما أن يؤديا إليه مبلغ ٥٠١ جنيه كتعويض مؤقت، وذلك إستناداً إلى أن أولهما كتب مقالاً يشكل قذفاً وسباً فى حقه نشر فى جريدة الأحرار التى يرأس ثانيهما تحريرها، وقد تضمن حكم الإحالة الصادر من محكمة عابدين، أن نص المادة (١٩٥) عقوبات، افترض المسئولية الجنائية لرئيس تحرير الجريدة – أو المحرر المسئول عن قسمها الذى حصل فيه النشر إذا لم يكن ثمة رئيس تحرير – بصفته فاعلاً أصلياً للجرائم التى ترتكب بواسطة صحيفته، وأن الإدعاء المباشر سنده نص هذه المادة ذاتها باعتبار أن المدعى عليه الثانى كان رئيس تحرير الجريدة التى نشر المقال محل المساءلة بها، وأن المادة (١٩٥) من قانون العقوبات، تثير شبهة مخالفتها للمادتين (٦٦، ٦٧) من الدستور اللتين تؤكدان شخصية العقوبة ، وتفترضان براءة المتهم، ومن ثم فقد أحالت الأوراق إلى
المحكمة الدستورية العليا
عملاً بنص المادة (٢٩ / ١) من قانونها، وذلك للفصل فى دستوريتها.
وحيث إن المادة (١٩٥) من قانون العقوبات، تنص على أنه مع عدم الإخلال بالمسئولية الجنائية لمؤلف الكتابة أو واضع الرسم أو غير ذلك من طرق التمثيل، يعاقب رئيس تحرير الجريدة أو المحرر المسئول عن قسمها الذى حصل فيه النشر إذا لم يكن ثمة رئيس تحرير، بصفته فاعلاً أصلياً للجرائم التى ترتكب بواسطة صحيفته.
ومع ذلك يعفى من المسئولية الجنائية :
١ – إذا أثبت أن النشر حصل بدون علمه، وقدم منذ بدء التحقيق كل مالديه من المعلومات والأوراق للمساعدة على معرفة المسئول عما نشر.
٢ – أو إذا أرشد أثناء التحقيق عن مرتكب الجريمة ، وقدم كل مالديه من المعلومات والأوراق لإثبات مسئوليته، وأثبت فوق ذلك أنه لو لم يقم بالنشر لعرض نفسه لخسارة وظيفته فى الجريدة أو لضرر جسيم آخر.
وحيث إن من المقرر أن شرط المصلحة الشخصية المباشرة ، يتغيا أن تفصل
المحكمة الدستورية العليا
فى الخصومة الدستورية من جوانبها العملية ،وليس من معطياتها النظرية ، وهو كذلك يقيد مباشرتها لولايتها فى شأن هذه الخصومة ، فلا تفصل فى غير المسائل الدستورية التى يؤثر الحكم فيها على النزاع الموضوعى . ويتحدد مفهوم هذا الشرط باجتماع عنصرين:
أولهما: أن يقيم المدعى – وفى حدود الصفة التى اختصم بها النص المطعون عليه، الدليل على أن ضرراً واقعياً – اقتصادياً أو غيره – قد لحق به، وسواء أكان هذا الضرر يتهدده وشيكاً، أم كان قد وقع فعلاً. ويتعين دوماً أن يكون هذا الضرر مباشراً، من فصلاً عن مجرد مخالفة النص المطعون فيه للدستور، مستقلاً بالعناصر التى يقوم عليها، ممكناً تصوره ومواجهته بالترضية القضائية تسوية لآثاره.
ثانيهما: أن يكون هذا الضرر عائداً إلى النص المطعون فيه. وليس ضرراً متوهماً أو منتحلاً أو مجهلاً، فإذا لم يكن هذا النص قد طبق أصلاً على من ادعى مخالفته للدستور، أو كان من غير المخاطبين بأحكامه، أو كان الإخلال بالحقوق التى يدعيها لا يعود إليه، دل ذلك على انتفاء المصلحة الشخصية المباشرة ، ذلك أن إبطال النص التشريعى فى هذه الصور جميعها، لن يحقق للمدعى أية فائدة عملية يمكن أن يتغير بها مركزه القانونى بعد الفصل فى الدعوى الدستورية عما كان عليه قبلها.
وحيث إنه متى كان ماتقدم، وكان الاتهام الجنائى ضد المدعى عليه الثانى يستند إلى الفقرة الأولى من المادة (١٩٥) من قانون العقوبات، باعتباره رئيس تحرير الجريدة التى نشر بها المقال الم تضمن قذفاً وسباً فى حق المدعى ، فإن الخصومة الدستورية ينحصر نطاقها فى هذه الفقرة . ولئن جاز القول بارتباطها بفقرتها الثانية ارتباطاً لايقبل التجزئة ، باعتبار أن أولاهما تقرر المسئولية الجنائية لرئيس التحرير، وأن ثانيتهما تحدد صور الإعفاء منها، إلا أن ابطال فقرتها الأولى يعتبر كافياً وحده لسقوط فقرتها الثانية التى لا يتصور تطبيقها مالم يكن تقرير مسئولية رئيس التحرير – فى الحدود التى تضمنتها الفقرة الأولى – جائزاً وفقاً لأحكام الدستور.
وحيث إن الدستور حدد لكل من السلطتين التشريعية والقضائية ولايتها، ورسم تخومها بالمادتين (٨٦، ١٦٥)، فلا يجوز لإحداهما أن تباشر مهاماً اختص بها الدستور غيرها، وإلا وقع عملها باطلاً.
وحيث إن الدستور – بما نص عليه فى المادة (٦٦) من أنه لاجريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللا حقة لصدور القانون الذى ينص عليها، قد دل على أن لكل جريمة ركناً مادياً لا قوام لها بغيره، يتمثل فى فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابى ، مؤكداً بذلك أن ما يركن إليه القانون الجنائى – فى زواجره ونواهيه – هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه ؛ إيجابياً كان هذا الفعل أم سلبياً.
ذلك أن العلائق التى ينظمها هذا القانون، محورها الأفعال ذاتها، فى علاماتها الخارجية ومظاهرها الواقعية وخصائصها المادية ، إذ هى مناط التأثيم وعلته، وهى التى يتصور إثباتها ونفيها، وهى التى يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وتديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة التى تناسبها. ولا يتصور بالتالى وفقاً لأحكام الدستور، أن توجد جريمة فى غيبة ركنها المادى ، ولا أن يقوم الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم والنتائج التى أحدثها، بعيداً عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه، بما مؤداه: أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية – وليس النوايا التى يضمرها الإنسان فى أعماق ذاته – تعتبر واقعة فى منطقة التجريم، كلما كانت تعكس سلوكاً خارجياً مؤاخذاً عليه قانوناً. فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجياً فى صورة مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة .
وحيث إن الأصل فى الجرائم العمدية جميعها، أنها تعكس تكويناً مركباً باعتبار أن قوامها تزامنا بين يد اتصل الإثم بعملها، وعقل واع خالطها، ليهيمن عليها ويكون محدداً لخطاها، متوجهاً إلى النتيجة المترتبة على نشاطها، فلايكون القصد الجنائى إلا ركناً معنوياً فى الجريمة مكملاً لركنها المادى ، ومتلائماً مع الشخصية الفردية فى ملامحها وتوجهاتها. وهذه الإرادة الواعية هى التى تتطلبها الأمم المتحضرة فى مجال التجريم بوصفها ركناً فى الجريمة ، وأصلا ثابتاً كامناً فى طبيعتها. وليس أمراً فجاً أو دخيلاً مقحماً عليها أو غريباً عن خصائصها، ذلك أن حرية الإرادة تعنى حرية الاختيار بين الخير والشر، ولكل وجهة هو موليها، لتنحل الجريمة – فى معناها الحق – إلى علاقة ما بين العقوبة التى فرضها المشرع، والإرادة التى تعتمل فيها تلك النزعة الإجرامية التى يتعين أن يكون تقويمها ورد آثارها بديلاً عن الانتقام والثأر من صاحبها. وغدا أمراً ثابتاً – وكأصل عام – ألا يجرم الفعل مالم يكن إرادياً قائماً على الاختيار الحر، ومن ثم مقصوداً.
وحيث إن المشرع وإن عمد أحياناً من خلال بعض اللوائح إلى تقرير جرائم عن أفعال لا يتصل بها قصد جنائى ، باعتبار أن الإثم ليس كامناً فيها (Mala in se (Inherently wrong ولا تدل بذاتها على ميل إلى الشر والعدوان، ولايختل بها قدر مرتكبها أو اعتباره، وإنما ضبطها المشرع تحديداً لمجراها، وأخرجها بذلك من مشروعيتها –وهى الأصل – وجعل عقوباتها متوازنة مع طبيعتها؛ وكان ما توخاه المشرع من التجريم فى هذه الأحوال، هو الحد من مخاطر بذواتها بتقليل فرص وقوعها، وإنماء القدرة على السيطرة عليها والتحوط لدرئها، فلايكون إيقاع عقوبتها معلقاً على النوايا المقصودة من الفعل، ولا على تبصر النتيجة الضارة التى أحدثها، إلا أن الجرائم العمدية ينافيها استقلال هذا القصد عنها، إذ هو من مكوناتها، فلا يقوم إلا بها.
وحيث إن ما تقدم مؤداه: أن الفارق بين عمدية الجريمة ، وما دونها، يدور أصلاً – وبوجه عام – حول النتيجة الإجرامية التى أحدثتها، فكل ما أرادها الجانى وقصد إليها، موجهاً جهده لتحقيقها، كانت الجريمة عمدية . فإن لم يقصد إلى إحداثها، بأن كان لايتوقعها، أوساء تقديره بشأنها، فلم يتحوط لدفعها ليحول دون بلوغها، فإن الجريمة تكون غير عمدية يتولى المشرع دون غيره بيان عناصر الخطأ التى تكونها، وهى عناصر لايجوز افتراضها أو انتحالها، ولانسبتها لغير من ارتكبها، ولا اعتباره مسئولاً عن نتائجها إذا انفك اتصالها بالافعال التى أتاها.
وحيث إن الأصل فى النصوص العقابية أن تصاغ فى حدود ضيقة narrowly tailored تعريفاً بالأفعال التى جرمها المشرع، وتحديداً لما هيتها، لضمان ألا يكون التجهيل بها، موطئاً للإخلال بحقوق كفلها الدستور للمواطنين، كتلك التى تتعلق بحرية عرض الآراء وضمان تدفقها من مصادرها المختلفة ، وكذلك بالحق فى تكامل الشخصية ، وأن يؤمن كل فرد ضد القبض أو الاعتقال غير المشروع. ولئن جاز القول بأن تقدير العقوبة ، وتقرير أحوال فرضها مما يندرج تحت السلطة التقديرية للمشرع فى مجال تنظيم الحقوق، إلا أن هذه السلطة حدها قواعد الدستور.
وحيث إن من المقرر كذلك أن الأصل فى الجريمة ، أن عقوبتها لا يتحمل بها إلا من أدين كمسئول عنها، وهى عقوبة يجب أن تتوازن وطأتها مع طبيعة الجريمة موضوعها، بما مؤداه: أن الشخص لا يزر غير سوء عمله، وأن جريرة الجريمة لا يؤاخذ بها إلا جناتها، ولا ينال عقابها إلا من قارفها، وأن شخصية العقوبة وتناسبها مع الجريمة محلها مرتبطان بمن يعد قانوناً مسئولاً عن إرتكابها. ومن ثم تفترض شخصية العقوبة – التى كفلها الدستور بنص المادة (٦٦) – شخصية المسئولية الجنائية ، وبما يؤكد تلازمهما. ذلك أن الشخص لايكون مسئولاً عن الجريمة ، ولا تفرض عليه عقوبتها، إلا باعتباره فاعلاً لها أو شريكاً فيها. ولئن كان ماتقدم يعبر عن العدالة الجنائية فى مفهومها الحق، ويعكس بعض صورها الأكثر تقدماً، إلا أن ذلك ليس غريباً عن العقيدة الإسلامية ، بل أكدتها قيمها العليا، إذ يقول تعالى – فى محكم آياته – قل لاتسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تفعلون فليس للإنسان إلا ما سعى ، وما الجزاء الأوفى إلا صنو عمله، وكان وليد إرادته الحرة ، متصلاً بمقاصدها.
وحيث إن تجريم أفعال تتصل بالمهام التى تقوم الصحافة عليها وفقاً للدستور – ولو بطريق غير مباشر – إنما يثير من وجهة نظر مبدئية الشبهة حول دستوريتها، ويستنهض ولاية هذه المحكمة فى مباشرتها لرقابتها القضائية التى تفصل على هداها فيما إذا كان الفعل المؤثم قانوناً فى نطاق جرائم النشر، ينال من الدائرة التى لا تتنفس حرية التعبير إلا من خلالها، فلايكون إلا محدداً لها، متضمناً عدواناً عليها ؛ أم يعتبر مجرد تنظيم لتداول هذه الآراء بما يحول دون إضرارها بمصلحة حيوية لها اعتبارها.
فقد كفل الدستور للصحافة حريتها، ولم يجز إنذارها أو وقفها أو إلغاءها بالطريق الإدارى ، بما يحول كأصل عام دون التدخل فى شئونها، أو إرهاقها بقيود ترد رسالتها على أعقابها، أو إضعافها من خلال تقليص دورها فى بناء مجتمعها وتطويره، متوخياً دوماً أن يكرس بها قيماً جوهرية ، يتصدرها أن يكون الحوار بديلاً عن القهر والتسلط، ونافذة لإطلال المواطنين على الحقائق التى لايجوز حجبها عنهم، ومدخلاً لتعميق معلوماتهم فلا يجوز طمسها أو تلوينها، بل يكون تقييمها عملاً موضوعياً محدداً لكل سلطة مضمونها الحق وفقاً للدستور، فلا تكون ممارستها إلا توكيداً لصفتها التمثيلية ، وطريقاً إلى حرية أبعد تتعدد مظاهرها وتتنوع توهجاتها. بل أن الصحافة تكفل للمواطن دوراً فاعلاً، وعلى الأخص من خلال الفرص التى تتيحها معبراً بوساطتهاعن تلك الآراء التى يؤمن بها individual self – expression ويحقق بها تكامل شخصيته self – realisation، فلايكون سلبياً منكفئاً وراء جدران مغلقة ، أو مطارداً بالفزع من بأس السلطة وعدوانيتها، بل واثقاً من قدرته على مواجهتها، فلا تكون علاقتها به إنحرافاً، بل إعتدالاً، وإلا ارتد بطشها عليها، وكان مؤذناً بأفولها.
وحيث إن الدستور – وتوكيداً لحرية الصحافة التى كفل ممارستها بكل الوسائل – أطلق قدراتها فى مجال التعبير، ليظل عطاؤها متدفقا تتصل روافده دون انقطاع، فلا تكون القيود الجائرة عليها إلا عدواناً على رسالتها يرشح لإنفراطها. ولئن كان الدستور قد أجاز فرض رقابة محدودة عليها، فذلك فى الأحوال الاستثنائية ، ولمواجهة تلك المخاطر الداهمة التى حددتها المادة (٤٨) من الدستور، ضماناً لأن تكون الرقابة عليها محددة تحديداً زمنياً وغائياً، فلا تنفلت كوابحها.
وحيث إن حق الفرد فى الحرية ينبغى أن يوازن بحق الجماعة فى الدفاع عن مصالحها الحيوية ، إنطلاقاً من إيمان الأمم المتحضرة بأن النظم العقابية جميعها تتقيد بأغراضها النهائية ، التى تكفل لكل متهم حداً أدنى من الحقوق التى لايجوز النزول عنها أو الإخلال بها، فلايكون الفصل فى الاتهام الجنائى إلا إنصافاً، وبما يحول دون إساءة استخدام العقوبة تشويها لأهدافها. ويندرج تحت هذه الحقوق افتراض البراءة باعتباره أصلاً ثابتاً يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، وليس بنوع أو قدر العقوبة المقررة لها، ولأن مؤداه: ألا تعتبر واقعة تقوم بها الجريمة ، ثابتة بغير دليل، فلا يفترضها المشرع.
وحيث إن افتراض براءة المتهم وصون الحرية الشخصية من كل عدوان عليها، أصلان كفلهما الدستور بالمادتين (٤١، ٦٧)، فلا يجوز أن تأتى السلطة التشريعية عملاً يخل بهما، وعلى الأخص بانتحالها الاختصاص المخول للسلطة القضائية فى مجال التحقق من قيام الجريمة بأركانها التى حددها المشرع، بما فى ذلك القصد الجنائى إذا كان متطلباً فيها؛ إلا أن النص المطعون فيه افترض أن الإذن بالنشر الصادر عن رئيس تحرير الجريدة ، يفيد علمه يقيناً بالمادة التى تضمنها المقال بكل تفصيلاتها، وأن محتواها يكون جريمة معاقباً عليها قصد رئيس التحرير إلى إرتكابها و تحقيق نتيجتها، مقيماً بذلك قرينة قانونية يحل فيها هذا الإذن محل القصد الجنائى ، وهو ركن فى الجريمة العمدية لا تقوم بغيره.
وحيث إنه لا ينال مما تقدم، قالة أن البند (أ) من الفقرة الثانية من النص المطعون فيه، قد أعفى رئيس التحرير من المسئولية الجنائية التى أنشأتها فى حقه فقرتها الأولى إذا أثبت أن النشر تم بدون علمه، وذلك لأمرين أولهما: أن مجرد تمام النشر دون علمه ليس كافياً وفقاً لهذا البند لإعفائه من مسئوليته الجنائية ، بل يتعين عليه فوق هذا – إذا أراد التخلص منها – أن يقدم لجهة التحقيق كل الأوراق والمعلومات التى تعينها على معرفة المسئول عما نشر، بما مؤداه: قيام مسئوليته الجنائية ، ولو لم يباشر دورا فى إحداثها. ثانيهما: أن النص المطعون فيه جعل رئيس التحرير مواجهاً بواقعة أثبتتها القرينة القانونية فى حقه دون دليل يظاهرها، ومكلفاً بنفيها خلافاً لافتراض البراءة ، وهو افتراض جرى قضاء هذه المحكمة على اقترانه بوسائل إجرائية إلزامية تعتبر من زاوية دستورية وثيقة الصلة بالحق فى الدفاع، ومن بينها أن المتهم لايكون مكلفاً بدفع اتهام جنائى إلا بعد أن تقدم النيابة العامة بنفسها ما تراه من وجهة نظرها إثباتاً للجريمة التى نسبتها إليه، لينشأ بعدئذ للمتهم الحق فى نفيها ودحضها بالوسائل التى يملكها قانوناً.
وحيث إنه فضلاً عما تقدم، فإن رئيس التحرير يظل وفقاً للبند (٢) من الفقرة الثانية من النص المطعون فيه، مسئولاً كذلك عن الجرائم التى تضمنها المقال، ولو أثبت أنه لو لم يقم بالنشر، لفقد وظيفته فى الجريدة التى يعمل بها، أو تعرض لضرر جسيم آخر،إذ عليه فوق هذا أن يرشد أثناء التحقيق عن مرتكب الجريمة ، وأن يقدم كل مالديه من الأوراق والمعلومات لإثبات مسئوليته، وهو مايعنى أنه أياً كانت الأعذار التى يقدمها رئيس تحرير الجريدة مثبتاً بها اضطراره إلى النشر، فإن مسئوليته الجنائية لاتنتفى إلا إذا أرشد عن أشخاص قد لايعرفهم هم المسئولون عن المقال أو غيره من صور التمثيل، وهو ما يناقض شخصية المسئولية الجنائية التى تفترض ألا يكون الشخص مسئولاً عن الجريمة ، ولا أن تفرض عليه عقوبتها، إلا باعتباره فاعلاً لها أو شريكاً فيها.
وحيث إن ماتقدم مؤداه: وعلى ضوء الاستثناءين المقررين بالبندين (١، ٢) من الفقرة الثانية من النص المطعون فيه – أنه سواء أكان النشر فى الجريدة قد حصل دون تدخل من رئيس تحريرها، أم كان قد إذن بالنشر اضطراراً حتى لا يفقد عمله فيها أو توقياً لضرر جسيم آخر، فإن رئيس التحرير يظل فى الحالتين مسئولاً جنائياً بمقتضى النص المطعون فيه الذى أنشا فى حقه قرينة قانونية افترض بموجبها علمه بكل ما احتواه المقال الم تضمن سباً أو قذفاً فى حق الآخرين، وهى بعد قرينة يظل حكمها قائماً، ولو كان رئيس التحرير متغيباً عند النشر، أو كان قد عهد إلى أحد محرريها بجانب من مسئوليته؛ أو كانت السلطة التى يباشرها عملاً فى الجريدة ، تؤكد أن توليه لشئونها ليس إلا إشرافاً نظرياً لا فعلياً.
وحيث إن هيئة قضايا الدولة نحت فى دفاعها إلى أن النص المطعون فيه لا يقرر مسئولية عن عمل الغير، بل يثير المسئولية الشخصية لرئيس التحرير باعتباره مشرفاً على النشر، مراقباً مجراه، عملاً بنص المادة (٥٤) من القانون رقم ٩٦ لسنة ١٩٩٦ بشأن تنظيم الصحافة ، وأن الوقائع التى تضمنها المقال والمعتبرة سباً أو قذفاً فى حق الآخرين، ماكان لها أن تتصل بالغير إلا إذا إذن رئيس التحرير بنشرها، لتكتمل بالنشر الجريمة التى نسبها النص المطعون فيه إلى رئيس التحرير، باعتبار أن ركنها المادى هو الامتناع عن مراقبة المقال، وأن ركنها المعنوى قد يكون فعلاً عمدياً أو غير عمدى .
وحيث إن ما ذهبت إليه هيئة قضايا الدولة على هذا النحو مردود، أولاً: بأن الجريمة العمدية تقتضى لتوافر القصد الجنائى بشأنها – وهو أحد أركانها – علماً من الجانى بعناصر الجريمة التى ارتكبها، فلا يقدم عليها إلا بعد تقديره لمخاطرها، وعلى ضوء الشروط التى أحاطها المشرع بها، فلا تكون نتيجتها غير التى قصد إلى إحداثها، شأن الجريمة العمدية فى ذلك، شأن الجريمة التى نسبها النص المطعون فيه لرئيس تحرير الجريدة باعتباره فاعلاً أصلياً لها. ولا يتصور بالتالى أن تتمحض هذه الجريمة عن إهمال يقوم مقام العمد، فلايكون ركن الخطأ فيها إلا إنحرافاً عما يعٌد وفقاً للقانون الجنائى سلوكاً معقولاً للشخص المعتاد. بل هى جريمة عمدية ابتداء وانتهاء لا تتوافر أركانها مالم يكن رئيس التحرير حين إذن بنشر المقال الم تضمن قذفاً وسباً، كان مدركاً أبعاده واعياً بآثاره، قاصداً إلى نتيجته.
L intention criminelle réside dans la connaissance ou la conscience chez lagent quil accomplit un acte illicite Dune facon plus compléte et plus précise, pour quil y ait intention il ne suffit pas connaitre, il fout aussi vouloir, car lintention criminelle est la volonté daccomplir un acte que lon sait defendu par la loi pénale ou de sabstenir dun acte que lon sait ordonné par la loi .
ومردود ثانياً: بأن اعتبار رئيس تحرير الجريدة فاعلاً أصلياً لجريمة عمدية ، ومسئولاً عن إرتكابها، لا يستقيم مع افتراض القصد الجنائى بشأنها، وإلا كان ذلك تشويها لخصائصها.
ومرود ثالثاً: بأن ما تتوخاه كل جريدة ، هو أن يكون اهتمام قرائها بموضوعاتها حياً من خلال تنوعها وعمقها وتعدد أبوابها وامتدادها على كامل صفحاتها مع كثرتها، وتطرقها لكل جديد فى العلوم والفنون على تباينها، فلا تكون قوة الصحافة إلا تعبيراً عن منزلتها فى إدارة الحوار العام وتطويره، لا تتقيد رسالتها فى ذلك بالحدود الإقليمية ، ولا تحول دون اتصالها بالآخرين قوة أياً كان بأسها، بل توفر صناعتها – سواء من خلال وسائل طبعها أو توزيعها – تطوراً تكنولوجياً غير مسبوق يعزز دورها، ويقارنها تسابق محموم يتوخى أن تقدم الجريدة فى كل إصداراتها، الأفضل والأكثر إثارة لقرائها، وأن تتيح لجموعهم قاعدة أعرض لمعلوماتهم ومجالاً حيوياً يعبرون فيه عن ذواتهم، وأن يكون أثرها فى وجدانهم، وصلتهم بمجتمعهم بعيداً. بل أن الصحافة بأدائها وأخبارها وتحليلاتها، إنما تقود رأياً عاماً ناضجاً، وفاعلاً يبلوره إسهامها فى تكوينه وتوجيهه. ولا يتصور فى جريدة تتعدد صفحاتها، وتتزاحم مقالاتها، وتتعدد مقاصدها، أن يكون رئيس التحرير محيطاً بها جميعاً، نافذاً إلى محتوياتها، ممحصاً بعين ثاقبة كل جزئياتها، ولا أن يزن كل عبارة تضمنتها بافتراض سوء نية من كتبها، ولا أن يقيسها وفق ضوابط قانونية قد يدق الأمر بشأنها، فلا تتحد تطبيقاتها.
ومردود رابعاً: بأن المسئولية التقصيرية وفقاً لقواعد القانون المدنى – وقوامها كل عمل غير مشروع ألحق ضرراً بالغير – هى التى يجوز افتراض الخطأ فى بعض صورها. ولا كذلك المسئولية الجنائية ، التى لا يجوز أن يكون الدليل عليها منتحلاً، ولاثبوتها مفترضاً.
ومردود خامساً: بأن رئيس التحرير وقد إذن بالنشر، لايكون قد أتى عملاً مكوناً لجريمة يكون به فاعلاً مع غيره، ذلك أن الشخص لا يعتبر فاعلاً للجريمة إلا من خلال أعمال باشرها تتصل بها وتعتبر تنفيذاً لها. ولئن جاز القول بأن العلانية فى الجريمة التى تضمنها النص المطعون فيه، لا تتم إلا من خلال الأمر بنشر المقال المتضمن قذفاً وسباً فى حق الآخرين، إلا أن مسئولية رئيس التحرير جنائياً عن تحقق هذه النتيجة ، شرطها اتجاه إرادته لإحداثها، ومدخلها علماً يقينياً بأبعاد هذا المقال.
La faute intentionnelle peut etre définie comme la volonté de commettre un acte que lon sait interdit ou, autrement dit, comme lintention de violer la loi pénale . Les infractions intentionnelles sont donc pour lesquelles la loi exige que le comportement incriminé soit commis par une personne qui sait que ce compportement est pénalment sanctioné, mais que décide neamoins de le commettre.
ولا كذلك النص المطعون فيه، إذ افترض مسئوليته جنائياً بناء على صفته كرئيس تحرير يتولى شئون الجريدة باعتباره مشرفاً عليها، فلا يكون مناطها إلا الإهمال فى إدارتها، حال أن الإهمال والعمد نقيضان لا يتلاقيان. بل أن رئيس تحرير الجريدة ، يظل دون غيره مسئولاً عما ينشر فيها، ولو تعددت أقسامها، وكان لكل منها محرر مسئول يباشر عليه سلطة فعلية .
وحيث إنه متى كان ماتقدم، فإن النص المطعون فيه يكون مخالفاً لأحكام المواد (٦٦، ٦٧، ٦٨، ١٦٥) من الدستور.
وحيث إن صور الإعفاء من المسئولية الجنائية لرئيس التحرير – التى قررتها الفقرة الثانية من المادة (١٩٥) من قانون العقوبات – لا يتصور تطبيقها إلا إذا كانت هذه المسئولية صحيحة ابتداء وفقاً لأحكام الدستور، فإن إبطال فقرتها الأولى وزوالها، يستتبع سقوط فقرتها الثانية ، فلا تقوم لها قائمة .
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة : –
أولاً: بعدم دستورية ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة (١٩٥) من قانون العقوبات، من معاقبة رئيس تحرير الجريدة – أو المحرر المسئول عن قسمها الذى حصل فيه النشر إذا لم يكن ثمة رئيس تحرير – بصفته فاعلاً أصلياً للجرائم التى ترتكب بواسطة صحيفته.
ثانياً: بسقوط فقرتها الثانية .