حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٥٨ لسنة ١٨ دستورية

حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٥٨ لسنة ١٨ دستورية
تاريخ النشر : ١٩ – ٠٧ – ١٩٩٧

منطوق الحكم : عدم دستورية

مضمون الحكم : حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة ١٥ من القانون رقم ٦٨ لسنة ١٩٧٦ بشأن الرقابة على المعادن الثمينة وذلك فيما تضمنه من النص على عدم دمغ المعادن الثمينة والمشغولات والأصناف والأحجار التي تسري عليها مادته الأولي، إذا لم يقدم حائزها الدليل على دخولها إلي البلاد بطريق مشروع، وكذلك التحفظ عليها والتصرف فيها بمعرفة جهات الإختصاص.

الحكم

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت ٥ يوليو سنة ١٩٩٧ الموافق ٣٠ صفر ١٤١٨ ه.
برئاسة السيد المستشار الدكتور عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين ومحمد ولى الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير والدكتور
عبد المجيد فياض نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور / حنفى على جبالى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / حمدى أنور صابر أمين السر
أصدرت الحكم الآتى

فى القضية المقيدة بجدول
المحكمة الدستورية العليا
برقم ٥٨ لسنة ١٨ قضائية دستورية
المقامة من

السيد / عريان فهيم جبرا
ضد
١ – السيد / رئيس مجلس الوزراء
٢ – السيد المستشار / وزير العدل
٣ – السيد / وزير التموين
٤ – السيد / رئيس مصلحة دمغ المصوغات والموازين
الإجراءات

بتاريخ ١٢ يونيو سنة ١٩٩٦، أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة ، طالباً الحكم بعدم دستورية نص المادة (١٥) من القانون رقم ٦٨ لسنة ١٩٧٦ بشأن الرقابة على المعادن الثمينة .
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم بعدم قبول الدعوى .
وبعد تحضير الدعوى ، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة .
حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل فى أن المدعى كان قد أقام الدعوى رقم ١٦١٥ لسنة ١٩٩٦ مدنى أمام محكمة جنوب القاهرة الإبتدائية ضد المدعى عليهما الثالث والرابع، بطلب الحكم بإلزامهما بدمغ المشغولات الذهبية التى قدمها إلى مصلحة دمغ المصوغات والموازين – بالدمغة المصرية مقابل أداء الرسوم المقررة قانوناً، تأسيساً على أن هذه المصلحة امتنعت عن دمغها لعدم تقديمه الأوراق التى تثبت سداده ما هو مستحق عليها من ضرائب ورسوم جمركية . وقد دفع المدعى – أثناء نظر دعواه الموضوعية – بعدم دستورية المادة (١٥) من القانون رقم ٦٨ لسنة ١٩٧٦ بشأن الرقابة على المعادن الثمينة . وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية الدفع، فقد صرحت للمدعى برفع دعواه الدستورية ، فأقام الدعوى الماثلة .
وحيث إن القانون رقم ٦٨ لسنة ١٩٧٦ بشأن الرقابة على المعادن الثمينة – المعدل بالقانون رقم ٣٤ لسنة ١٩٧٧ والقانون ٣ لسنة ١٩٩٤ – بعد أن حدد بمادته الأولى المعادن الثمينة والمشغولات والأصناف والأحجار التى تسرى عليها أحكامه، نصت المادة (١٥) من هذا القانون على أنه إذا كانت المعادن وغيرها مما هو منصوص عليه فيه، واردة من الخارج، فلا يجوز سحبها من الجمارك أو البريد إلا إذا كانت مدموغة بدمغة أجنبية معترف بصحتها وفقاً للمادة الثانية من هذا القانون، فإذا قدمت إلى مصلحة دمغ المصوغات والموازين مباشرة ، وجب على مقدم هذه الأصناف إثبات دخولها البلاد بطريقة مشروعة ، فإذا لم يتم ذلك وجب على المصلحة قبل قيامها بفحصها وتحديد عيارها ودمغها، إبلاغ الأمر لجهات الاختصاص مع التحفظ على الأصناف المشار إليها وإثبات شخصية مقدمها لحين التصرف فيها بمعرفة الجهات المذكورة .
وقد جاء بالمذكرة الإيضاحية لهذا القانون، أنه نظراً لورود مشغولات أجنبية مع مواطنين مصريين إلى مصلحة دمغ المصوغات والموازين لفحصها ودمغها مما يثير الشبهات حول مصدرها ومما يحتمل معه ارتكاب جريمة من جرائم التهريب الجمركى لعدم ورودها من الخارج عن طريق الجمرك أو البريد، وحرصا على الصالح العام، فقد نصت المادة (١٥) من المشروع على أنه يجب على المصلحة المذكورة إبلاغ جهات الاختصاص فوراً بذلك، مع التحفظ على كل ما يقدم إليها من هذا القبيل، وإثبات شخصية مقدمها لحين التصرف فيه بمعرفة هذه الجهات.
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة – وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية – مناطها أن تتوافر علاقة منطقية بينها وبين المصلحة التى يقوم بها النزاع الموضوعى ، وذلك بأن يكون الحكم فى المسائل الدستورية لازماً للفصل فى الطلبات المرتبطة بها، والمطروحة أمام محكمة الموضوع؛ وكان جوهر الطعن الماثل ينصب حول تقديم المدعى مباشرة إلى مصلحة دمغ المصوغات والموازين، مشغولات ذهبية بقصد فحصها وتحديد عيارها ودمغها، واعتباره مهرباً إذا لم يُثْبت دخولها إلى البلاد بطريق مشروع، فإن مصلحته تنحصر فى هذا النطاق ولا تتعداها إلى غيره من أجزاء المادة (١٥) المطعون عليها.
وحيث إن ما تنعاه هيئة قضايا الدولة من انتفاء المصلحة الشخصية المباشرة للمدعى تأسيساً على أنه لم يقدم أية مصوغات إلى الجهة الإدارية المختصة لدمغها، ولم يطبق عليه النص المطعون فيه بالتالى ، مردود أولاً: بأن المصلحة فى الدعوى كما تتوافر إذا كانت لصاحبها فيها مصلحة قائمة يقرها القانون، فإن مصلحته المحتملة بشأنها تكفى لقبولها؛ وكان النص المطعون فيه يحول دون دمغ المشغولات الذهبية التى لا يقيم المدعى الدليل على دخولها البلاد بطريق مشروع بما يخرجها عملاً من دائرة التعامل، فإن توقى هذا الضرر المحدق، هو مما تقوم به مصلحته الشخصية فى الدعوى الماثلة .
ومردود ثانياً: بأن النزاع الموضوعى يدور حول امتناع الجهة الإدارية المختصة عن فحص مشغولات ذهبية وتحديد عيارها ودمغها، وطلب المدعى إلزامها بذلك. وإذ كانت محكمة الموضوع هى التى تختص دون غيرها بتحقيق هذه الواقعة التى تعلق بها الدفع بعدم الدستورية ، فإن إثارة الجدل حول صحتها أمام
المحكمة الدستورية العليا
، مما يجاوز حدود ولايتها.
وحيث إن المدعى ينعى على المادة (١٥) مخالفتها للدستور من عدة أوجه:
أولها: إحداثها لقرينة قانونية حاصلها أن عدم إثبات ذى الشأن دخول البضائع إلى البلاد بطريقة مشروعة ، يجعل منه مهربا. والقرينة التى يتضمنها النص المطعون فيه تتعلق ببضائع أجنبية يجرى التعامل فيها بعد خروجها من الدائرة الجمركية التى ترصد فى محيطها البضائع الواردة ، وتتم إجراءاتها، وتقدر ضرائبها، باعتبار أن ذلك هو الأصل فيها، وأن تهريبها لايكون إلا بدليل تقدمه الإدارة الجمركية ذاتها.
ثانيها: أن النص المطعون فيه لم يحدد ماهية الطرق غير المشروعة التى تدخل المعادن وغيرها من النفائس إلى البلاد من خلالها. و أطلق هذا النص كذلك عبارة جهات الاختصاص دون تحديد لها، واعتبر عدم إثبات دخول البضائع بطريقة مشروعة ، جريمة لم يحدد وصفها ولا أركانها، بما يناقض حكم المادة (٦٦) من الدستور.
وحيث إن مؤدى النص المطعون أن كل حائز لمشغولات ذهبية لا يقدم بشأنها ما يدل على دخولها إلى البلاد بطريق مشروع، يعتبر مشتبهاً فى ارتكابه لجريمة تهريب جمركى .
وحيث إن لكل جريمة ينشئها المشرع أركانها التى لا تقوم بكامل عناصرها إلا إذا أثبتتها سلطة الاتهام من خلال تقديمها لأدلتها والاقناع بها بما يزيل كل شك معقول حولها، ذلك أنها تعمد من خلال اتهامها لشخص بجريمة تدعيها، إلى خلق واقع جديد يناقض افتراض البراءة باعتباره تعبيراً عن الفطرة التى جبل الإنسان عليها، وصار متصلاً بها منذ ميلاده، فلا يزحزحها اتهام، ولاتنقضها إرادة أياً كان وزنها. إنما ينحيها حكم قضائى تعلق بجريمة بذاتها، وغدا باتا فى شأن نسبتها إلى فاعلها، بعد أن قام الدليل جلياً قاطعاً على توافر أركانها التى نص عليها المشرع. فإذا كان الشخص مشتبهاً فيه، فإن معاملته على ضوء هذا الاعتبار وحده بما يجرده من حقوق كفلها الدستور، لايكون جائزاً.
وحيث إن القرائن القانونية – حتى ماكان منها قاطعاً – هى التى يقيمها المشرع مقدماً ويعممها بعد أن يصوغها على ضوء ما يكون راجح الوقوع عملاً؛ وكان المشرع بتقريره لها إنما يتوخى إعفاء الخصم من التدليل على واقعة بذاتها بعد أن أحل غيرها محلها، وأقامها بديلاً عنها، ليتحول الدليل إليها، فإذا أثبتها الخصم، اعتبر ذلك إثباتاً للواقعة الأصلية بحكم القانون. فلا تكون القرائن القانونية بذلك إلا إثباتاً غير مباشر ينحصر مجال عملها أصلاً فى المسائل المدنية ، فإن تعدتها إلى غيرها، صار أمر دستوريتها محدداً على ضوء مساسها بالحرية الشخصية ، وإخلالها بمقوماتها.
وحيث إن ضمان الحق فى محاكمة من صفة على ما تنص عليه المادة (٦٧) من الدستور، يفترض ارتباطها بالوسائل القانونية السليمة – الموضوعية منها والإجرائية – باعتبارها إطاراً لها، يعارض إهدار الحق فى الحياة ، وكذلك كل تقييد للحرية عن طريق أعمال تحكمية تأتيها الدولة من خلال مباشرتها لسلطاتها. فالقيود الموضوعية التى يفرضها شرط الوسائل القانونية السليمة ، تتعلق بحدود ولاية السلطة التشريعية فى مجال إقرارتشريعاتها العقابية إذ لايجوز للمشرع أن يجرم غير الأفعال التى تربطها علاقة منطقية بتلك الأضرار الاجتماعية التى يقوم الدليل جلياً على تشخيصها وتوكيدها identifiable and ascertainable social harm .
ولا كذلك الوسائل القانونية السليمة فى جوانبها الإجرائية ، بما تفرضه من قيود على القوانين الجزائية فى شكلها ولغتها، The form and language of criminal legislation، وهى بعد قيود مؤداها: أن هذه القوانين لايجوز إقرارها إلا إذا كان مضمونها كاشفاً عن حقيقتها ونطاق تطبيقها، ومتضمناً إخطاراً كافياً فى شأن دلالتها، فلا يجوز أن يلا حق أحد عن أفعال لم يجرمها المشرع؛ ولا عن أفعال أغفل تقرير عقوباتها التى لا ينفصل التجريم عنها؛ ولا أن يجهل المشرع بالأفعال التى أثمها، فلايكون بيانها جلياً، ولا تحديدها قاطعاً أو فهمها مستقيماً، بل منبهماً خافياً. من ثم يلتبس معناها على أوساط الناس الذين لا يتميزون بعلو مداركهم ولايتسمون بإنحدارها، إنما يكونون بين ذلك قواماً، فلا يقفون من النصوص العقابية على دلالتها أو نطاق تطبيقها، بل يكون حدسهم طريقاً إلى التخبط فى شأن صحيح مضمونها ومراميها، بعد أن أهمل المشرع فى ضبطها بما يحدد مقاصده منها بصورة ينحسم بها كل جدل حول حقيقتها، مما يفقد هذه النصوص وضوحها ويقينها، وهما متطلبان فيها، فلا تقدم للمخاطبين بها إخطاراً معقولاً fair notice بما ينبغى عليهم أن يدعوه أو يأتوه من الأفعال التى نهاهم المشرع عنها أو طلبها منهم. وهو مايعنى أن يكون تطبيق تلك النصوص من قبل القائمين على تنفيذها عملاً انتقائياً، محدداً على ضوء أهوائهم ونزواتهم الشخصية ، ومبلوراً بالتإلى خياراتهم التى يتصيدون بها من يريدون، فلا تكون إلا شراكاً لا يأمن أحد معها مصيراً، وليس لأيهم بها نذيراً.
وحيث إن الاتهام الجنائى لا يناقض الحرية المنظمة ، ولايجوز الفصل فيه بعيداً عن قيم الحق والعدل الغائرة جذورها فى تلك القواعد المبدئية التى إلتزمتها الأمم المتحضرة وارتضتها سلوكاً لها، حتى فى أكثر الجرائم خطورة وأسوئها وقعاً. وهو ما يعنى أن الحرية الشخصية لا يجوز التضحية بها فى غير ضرورة ، وأن الموازين الدقيقة التى يتكافأ بها مركز سلطة الاتهام مع حقوق متهميها لايجوز الإخلال بها، وعلى الأخص ما تعلق منها بحق المتهم فى أن يكون مدركاً للتهمة المنسوبة إليه، واعياً بأبعادها، متصلاً بحقائقها، بصيراً بأدلتها، وأن يَمْثلُ بشخصه عند الفصل فيها، وأن يُعان على دفعها بمحام يدير الدفاع عنه، فلا يَقْبل من أدلتها إلا ما يكون منها جائزاً قانوناً، ولا يفرط فى تلك الوسائل القانونية الإلزامية التى يتمكن على ضوئها من استدعاء شهوده، ونقض أقوال شهود الاتهام بعد مجابهتها، فلا يستقيم بنيانها، بل يختل ترابطها.
وحيث إن اختصاص السلطة التشريعية بإقرار القواعد القانونية ابتداء، أو تفويض السلطة التنفيذية فى إصدارها فى الحدود التى بينها الدستور، لا يخول أيتهما العدوان على اختصاص عهد به الدستور إلى السلطة القضائية وقصره عليها، وإلا كان هذا افتئاتاً على ولايتها، وتقويضاً لاستقلالها.
وحيث إن الدستور يكفل للحقوق التى نص عليها فى صلبه، الحماية من جوانبها العملية لا من معطياتها النظرية ؛ وكان ذلك مؤداه: أن القواعد الجوهرية التى تدار العدالة الجنائية على ضوئها، لايجوز تطبيقها إخلا لاً بالأغراض النهائية للقوانين الجزائية ، التى ينافيها أن يدان المتهمون بغير جريرة ، أو بناء على أدلة لا تجيل محكمة الموضوع بصرها فيها، ولا تبلغ منها قوة الاقناع التى تطمئن معها إلى نسبة الجريمة لفاعلها، إذ عليها وحدها أن تقول كلمتها بشأنها. ولايجوز لجهة أياً كان وزنها، أن تفرض عليها مفهوماً محدداً لدليل بعينه، بل يتعين أن يكون مرد الأمر عندها إلى ما استخلصته هى من وقائع الدعوى ، وحصلته من أوراقها غير مقيدة بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها.
وحيث إن اختصاص السلطة التشريعية فى مجال إنشاء الجرائم وتحديد عقوباتها لا يخولها التدخل فى المجال الجنائى لفرض قرائن قانونية تنفصل عن واقعها، ولا تربطها علاقة منطقية بالنتائج التى رتبتها عليها، إذ لا يعدو ذلك منها أن يكون إحلالاً لإرادتها محل السلطة القضائية ، لتنحيها عن وظائفها الأصيلة فى تحقيق الدعوى الجنائية وتقدير أدلتها فى شأن جريمة بذاتها يدعى إرتكابها، ولا يتصور إسنادها لفاعلها إلا بعد توافر ركنيها بالشروط التى تطلبها المشرع فيهما.
وحيث إن مؤدى النص المطعون فيه – فى أجزائه التى تتعلق بها مصلحة المدعى – أن التقدم مباشرة إلى الجهة الإدارية المختصة بمشغولات ذهبية لفحصها وتحديد عيارها ودمغها، يفترض دخولها مصر عن غير طريق البريد أوالمنافذ الجمركية ، وهو مايعنى تهريبها إليها.
وحيث إن تقديم مشغولات ذهبية مباشرة إلى الجهة الإدارية المختصة من أجل دمغها، لا يفيد بالضرورة عبورها الحدود الإقليمية لجمهورية مصر العربية عن غير طريق منافذها التى ترصد فى محيطها البضائع الواردة ، وتقدر مكوسها.كذلك فإن عدم تقديم حائزها الدليل على دخولها إلى مصر بطريق مشروع، لا يفيد سبق تهريبها بنشاط أتاه، ولاعلمه بتهريبها لو أن غيره كان مسئولاً جنائياً عن التحايل على النظم الجمركية المعمول بها. إنما هى السلطة التشريعية ذاتها التى تتخذ بنفسها من احتمال الوقوع فى التهريب، سنداً لفرض قيود على حرية تداول الأموال التى تقدر تعلقها أو ارتباطها بمحل هذه الجريمة ؛ حال أن المعادن الثمينة شأنها شأن غيرها من البضائع الواردة ، تحكمها قاعدة مبدئية مفادها أن البضائع التى يتم التعامل فيها فيما وراء الحدود الخارجية للدوائر الجمركية ، يفترض مرورها عبرها، وتحصيل مكوسها أثناء وجودها فى نطاقها، ثم خروجها منها بعد استيفائها لإجراءاتها.
يؤيد ذلك أن جريمة التهريب الجمركى من الجرائم العمدية التى لايجوز افتراضها، ولا تتوافر أركانها إلا بإرادة إرتكابها. ولا تعتبر الشبهة التى تحيطها، عملاً مادياً أتاه جان؛ ولا اتهاما جنائياً تتساند فيه القرائن، بل تصوراً راجحاً أو مرجوحاً، وهى بذلك إلى الظن أدخل، وإلى التوهم أدنى ، ومن اليقين أبعد. ولا محل بالتالى لإسنادها إلى من يتعاملون فى بضائع فيما وراء الحدود الخارجية للدائرة الجمركية ، ذلك أن نقلها بعد خروجها منها، وكذلك حيازتها ممن لا يقوم الدليل على اتصالهم بتهريبها، عمل جائز قانوناً. والقول باحتمال أن يكون حائزها عندئذ مهرباً، ادعاء بلا دليل، لا ينقض افتراض البراءة ، ولا يجهض ما هو مفترض من سبق أداء مكوسها.
وحيث إن أصل البراءة مفترض فى كل متهم، فلا يجوز أن يهدم إلا بدليل جازم مستنبط من عيون الأوراق وبموازين الحق، وعن بصر وبصيرة ؛ وكان أصل البراءة يتصل بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، ولا يتعلق بطبيعة أو خطورة الجريمة موضوعها، ولا بنوع أو قدر عقوبتها؛ وكان هذا الأصل ينبسط على الدعوى الجنائية حتى خلال المراحل التى تسبقها وتؤثر فيها؛ وكان النص المطعون فيه قد أجاز فرض قيود فى شأن المعادن الثمينة مؤداها غل يد حائزيها – الذين لا يقيمون الدليل على دخولها إلى مصر بطريق مشروع – عن تداولها سواء من خلال تحفظ جهات الاختصاص عليها، أو بمنعها أصحابها من التعامل فيها؛ وكان المفترض فى هؤلاء الحائزين أنهم أسوياء استصحاباً لأصل براءتهم، شأنهم فى ذلك شأن غيرهم من المواطنين الذين يظلهم جميعاً هذا الأصل، فلايُنْقض إلا بحكم يكون باتاً، فإن هذا النص يكون بذلك متضمناً تمييزاً غير مبرر بين أولئك وهؤلاء، ومخالفاً بالتالى لنص المادة (٤٠) من الدستور.
وحيث إن الدستور – إعلاء من جهته لدور الملكية الخاصة ، وتوكيداً لإسهامها فى صون الأمن الاجتماعى – كفل حمايتها لكل فرد – وطنياً كان أم أجنبياً – ولم يجز المساس بها إلا على سبيل الاستثناء، وفى الحدود التى يقتضيها تنظيمها، باعتبارها عائدة – فى الأعم من الأحوال – إلى جهد صاحبها، بذل من أجلها الوقت والعرق والمال، وحرص بالعمل المتواصل على إنمائها، وأحاطها بما قدره ضرورياً لصونها.
وحيث إن السلطة التى يملكها المشرع فى مجال تنظيم الملكية لضبطها وفقاً لوظيفتها الاجتماعية ، حدها قواعد الدستور؛ فلا يجوز أن ينال المشرع من عناصرها؛ ولا أن يغير من طبيعتها أو يجردها من لوازمها؛ ولا أن يفصلها عن أجزائها أو يدمر أصلها؛ أو يقيد من مباشرة الحقوق التى تتفرع عنها فى غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية . ودون ذلك تفقد الملكية الخاصة ضماناتها الجوهرية التى كفلها الدستور بالمادتين (٣٢، ٣٤)، ويكون العدوان عليها غصباً وافتئاتاً على كيانها، أدخل إلى مصادرتها.
وحيث إن القيود التى فرضها النص المطعون فيه على أموال المخاطبين بأحكامه، ليس مدخلها الاتفاق، بل مصدرها نص القانون. وهى بعد لا تقتصر على حرمانهم من إدارة أموالهم بل تتعداها إلى منعهم من التعامل فيها، وفى كل ذلك تنال هذه القيود من ملكيتهم، وتقوض أهم خصائصها لتكون – فى مضمونها وأثرها – صورة من صور الحراسة يفرضها المشرع عليها – بعيداً عن صدور حكم قضائى بها – بالمخالفة لنص المادة (٣٤) من الدستور التى تتغيا أن تكون الملكية لأصحابها يباشرون عليها كل الحقوق المتفرعة عنها، لتظل أيديهم متصلة بها، لاتُغل عنها، ولاتُرَد عن حفظها وإدارتها، بل يحيط ذووها بها، وبأشكال من التعامل يقدرون ملاءمة الدخول فيها؛ وكان هذان الإجراءان – وهما التحفظ على المشغولات الذهبية إلى أن تباشر جهة الاختصاص تصرفها فيها – مترتبين على افتراض المشرع تهريبها، وينتهيان إلى غل يد مالكها عن إدارتها والتعامل فيها، فإنهما بذلك يمثلان عدواناً على الملكية الخاصة التى كفل الدستور صونها.
وحيث إنه متى كان ذلك؛ وكان النص المطعون قد نقض افتراض البراءة ؛ وأخل بحق الدفاع؛ وبالحدود التى تفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية ؛ وبالضمانة التى فرضها الدستور لصون الملكية الخاصة ، فإنه بذلك يكون مخالفاً لأحكام المواد (٣٢، ٣٤، ٤٠، ٦٧، ٦٨، ٨٦، ١٦٥) من الدستور.
فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة (١٥) من القانون رقم ٦٨ لسنة ١٩٧٦ بشأن الرقابة على المعادن الثمينة وذلك فيما تضمنه من النص على عدم دمغ المعادن الثمينة والمشغولات والأصناف والأحجار التى تسرى عليها مادته الأولى ، إذا لم يقدم حائزها الدليل على دخولها إلى البلاد بطريق مشروع، وكذلك التحفظ عليها والتصرف فيها بمعرفة جهات الاختصاص، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة .

زر الذهاب إلى الأعلى