حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٤ لسنة ١٥ دستورية
حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٤ لسنة ١٥ دستورية
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة فى يوم السبت ٦ يوليو سنة ١٩٩٦ الموافق ٢٠ صفر سنة ١٤١٧ه
برئاسة السيد المستشار الدكتور / عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين : فاروق عبد الرحيم غنيم وسامى فرج يوسف والدكتور / عبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين وعدلى محمود منصور ومحمد عبد القادر عبد الله
وحضور السيد المستشار الدكتور / حنفى على جبالى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / حمدى أنور صابر أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول
المحكمة الدستورية العليا
برقم ٤ لسنة ١٥ قضائية دستورية
المقامة من
السيد / عاطف ابراهيم على سليمان
ضد
١ – السيد / محمد عبد اللطيف أحمد خزيمه
٢ – السيد / طلعت محمد محمد شحاته
٣ – السيد / رئيس الوزراء
٤ – السيد / وزير العدل
الإجراءات
فى الرابع من فبراير سنة ١٩٩٢ أودع المدعى قلم كتاب المحكمة صحيفة الدعوى الماثلة طالباً الحكم بعدم دستورية نص الفقرتين الثانية والثالثة من المادة (٢٩) من القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٧ فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى .
وبعد تحضير الدعوى ، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم .
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة .
حيث إن الوقائع – على مايبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل فى أن المدعى عليه الأول، كان قد استأجر من المدعى عيناً فى العقار رقم ٥٦ شارع خالد بن الوليد سيدى بشر، اتخذها محلاً للبقالة ومخزناً. وإذ تنازل مستأجر هذه العين عنها إلى المدعى عليه الثانى ، مخالفاً بذلك الشرط الفاسخ الصريح الوارد بالعقدين الصادرين فى شأنهما بتاريخى ٢٤ و٢٥ / ٨ / ١٩٨٧ على التوالى ، فقد أقام المدعى دعويين، أولاهما: برقم ١٢٤٢ لسنة ١٩٩٠ مدنى كلى إسكندرية ضد المدعى عليهما الأول والثانى ، طالباً الحكم بطردهما من عين النزاع. وقد قضى فى هذه الدعوى بشطبها بعد أن تراخى المدعى عن متابعتها مما حمل المدعى عليه الثانى على تجديدها، ومطالبته المدعى بالسير فيها. فضلاً عن إقامته دعوى فرعية ضد المؤجر والمستأجر الأصلى (المدعى عليه الأول) يطلب فيها إلزام المؤجر بأن يحرر له عقد إيجار فى شأن هذه العين. ثانيهما: دعواه المقيدة برقم ٣٤١٦ لسنة ١٩٩٠ مدنى كلى إسكندرية التى أقامها ضد المدعى عليهما الأول والثانى مطالباً فى شقها المستعجل بفرض الحراسة القضائية على هذه العين، وفى الموضوع بطردهما منها.
ونظراً لارتباط هاتين الدعويين، فقد قررت محكمة الموضوع ضمهما ليصدر فيهما حكم واحد. وقد صدر حكمها هذا بجلستها المعقودة فى ١٠ / ١٢ / ١٩٩١ قاضياً برفض طلبات المدعى جميعها فى الدعويين اللتين أقامهما، وفى موضوع الدعوى الفرعية التى أقامها المدعى عليه الثانى ضد المؤجر والمدعى عليه الأول، بإلزام مؤجر العين بأن يحرر لرافعها عقد إيجار فى شأنها بالشروط ذاتها.
وإذ لم يرتض المدعى هذا الحكم، فقد طعن عليه استئنافياً تحت رقم ٩٩ لسنة ٤٨ قضائية إسكندرية ، ثم دفع أثناء نظر هذا الطعن بعدم دستورية الفقرتين الثانية والثالثة من المادة (٢٩) من القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٧ فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر. وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع، وخولته رفع الدعوى الدستورية ، فقد أقام الدعوى الماثلة . وحيث إن المادة (٢٩) من القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٧ فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، تنص على ما يأتى : فقرة أولى …..
فقرة ثانية فإذا كانت العين مؤجرة لمزاولة نشاط تجارى أو صناعى أو مهنى أو حرفى ، فلا ينتهى العقد بوفاة المستأجر أو تركه العين، ويستمر لصالح ورثته وشركائه فى استعمال العين بحسب الأحوال.
فقرة ثالثة وفى جميع الأحوال يلتزم المؤجر بتحرير عقد إيجار لمن لهم الحق فى الاستمرار فى شغل العين، ويلتزم هؤلاء الشاغلون بطريق التضامن بكافة أحكام العقد.
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة – وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية – مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة فى الدعوى الموضوعية ، وذلك بأن يكون الحكم الصادر فى المسائل الدستورية ، لازماً للفصل فى الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة أمام محكمة الموضوع ؛ وكان محور النزاع الموضوعى يدور حول أمرين متعارضين، أولهما: حق المؤجر فى طرد المدعى عليهما الأول والثانى من عين النزاع – وهى محل أعد لمباشرة نشاط تجارى – بعد أن تركها أولهما – وهو مستأجرها – لثانيهما باعتباره كان شريكاً فى استعمالها. ثانيهما : حق المدعى عليه الثانى فى الاستمرار فى شغل هذه العين لاستعمالها فى ذات نشاطها السابق، مع إلزام المؤجر بأن يحرر له عنها عقد إيجار يكون فيه أصيلاً.
وحيث إن طرد المدعى عليهما الأول والثانى من العين المؤجرة ، يفترض أن يكون الامتداد القانونى لعقد إيجارها المقرر بمقتضى الفقرة الثانية من المادة (٢٩) من القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٧، مخالفاً للدستور، وهو مايعنى أن المصلحة الشخصية المباشرة للمدعى فى إنفاذ هذا الطرد، لا ترتبط إلا بنص هذه الفقرة ، ذلك أن الحكم بعدم دستوريتها يعنى تجريدها من قوة نفاذها، فلا يقوم للمدعى عليه الثانى بموجبها حق فى استمرار استعمال هذه العين فى مباشرة النشاط التجارى المتعلق بها، بل ينعدم هذا الحق وجوداً، ليكون زواله مسقطاً كذلك – وبحكم الاقتضاء العقلى – لحق المدعى عليه الثانى فى أن يلزم المؤجر بأن يحرر له عقداً جديداً فى شأنها، يكون بمقتضاه مستأجراً لها.
وحيث إن المدعى ينعى على النص المطعون فيه، مخالفته أحكام المواد (٨، ٣٤، ٤٠، ٥٧) من الدستور، ذلك أنه أخل بالحماية التى كفلها الدستور لحق الملكية ، وأهمل حقوق المؤجر فى غير ضرورة ، بأن أعرض عنها، مضحياً بها، مغلباً عليها حقوق غرباء عن العلاقة الإيجارية ، كافلاً استمرار استعما لهم للعين المؤجرة والتسلط عليها حتى بعد تخلى مستأجرها الأصلى نهائياً عنها، ليفرض على مؤجرها – وبالمخالفه لشروط عقد الإيجار – التعامل مع أشخاص لايرتضيهم بصفتهم مستأجرين لها، حال أن اعتبارهم أطرافاً فى العلاقة الإيجارية ، لم يكن ملحوظاً أصلاً عند إبرامها، بما يناقض مبدأ سلطان الإرادة ، ويهدم كذلك حرية الاختيار قوام النفس البشرية ، وأساس آدميتها.كذلك أخل النص المطعون فيه بمبدأ تكافؤ الفرص، وبالمساواة أمام القانون، حين مايز بين فئتين من المؤجرين على غير أسس موضوعية ، فبينما قضى باستمرار عقد الإيجار لصالح شركاء المستأجر الأصلى فى العين المؤجرة المتخذة مقراً لمزاولة نشاط تجارى ، دون أن يرتب لمالكها أى حق قبلهم، فإن الفقرة الأولى من المادة (٢٠) من القانون رقم ١٣٦ لسنة ١٩٨١ فى شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، تخول مالك العين المؤجرة – إذا قام مستأجرها ببيع المتجر أو المصنع الذى أنشئ بها أو التنازل عن حق الانتفاع بالوحدة السكنية أو المؤجرة لغير أغراض السكنى – الحصول على ٥٠% من ثمن البيع أو مقابل التنازل حسب الأحوال، بعد خصم قيمة المنقولات التى بالعين.
وحيث إن البين من مضبطة الجلسة السابعة والسبعين لمجلس الشعب المعقودة فى ٣٠ من يوليو ١٩٧٧، إبان الفصل التشريعى الثانى لدور الانعقاد الأول، أن النص المطعون فيه لم يكن وارداً أصلاً فى مشروع الحكومة ، بل ذكر بعض الأعضاء بلجنة الإسكان والمرافق العامة والتعمير بمجلس الشعب، أن ثمة أماكن مؤجرة لمزاولة مهنة حرة لم يتعرض لها المشروع بالتنظيم، وقد يوجد شركاء يزاولون مع مستأجر العين حرفتهم أو مهنتهم، وهم يريدون أن يحصنوا أنفسهم، فلا تنقطع صلتهم بالعين المؤجرة بعد وفاة مستأجرها. واستجابة لهذا الاتجاه، عَدَّل مقررهذه اللجنة نص المادة (٣١) من المشروع، مضيفاً إليها فقرة أخيرة تنص على أنه إذا كانت العين مؤجرة لمزاولة حرفة أو مهنة ، فإن العقد لا ينتهى بوفاة المستأجر إذا بقى يزاول فيها نفس الحرفة أو المهنة زوجه أو أحد أولاده الذين تتوافر فيهم شروط المزاولة . بيد أن الصورة الأخيرة التى أفرغ فيها النص المطعون فيه، هى التى تضمنها القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٧ فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، وهى تدل بنصها على أن شركاء مستأجر العين المتخذه لمزاولة نشاط تجارى أو صناعى أو مهنى أو حرفى ، يظلون مرتبطين بها، ولو تخلى هذا المستأجر نهائياً عنها، أياً كانت مدة شركتهم أو شكلها، ودون ما ضرورة لشهر نظامها أو عقد تأسيسها وفقاً للقانون. وحيث إن مؤدى ما تقدم، أن النص المطعون فيه نص مستحدث خلت منه التشريعات المنظمة لإيجار الأماكن الصادرة قبل العمل بالقانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٧؛ وكان من المفترض – وعملاً بنص المادتين (٦٠١، ٦٠٢) من القانون المدنى – ألا يعتبر عقد الإيجار منتهياً بوفاة المستأجر أو المؤجر، وأن يكون لكل من المؤجر وورثة المستأجر – حق إنهاء العقد إذا كان الإيجار لم يعقد إلا بسبب حرفة المستأجر، أو كانت الاعتبارات الشخصية فى المستأجر هى التى دفعت المؤجر إلى التعاقد معه بحيث لا يصلح ورثته للحلول محله فى تحقيق الغرض من الإيجار ؛ وكان إعمال القواعد العامة مؤداه: أن دخول شركاء مع مستأجر العين التى يزاولون فيها نشاطاً تجارياً أو مهنياً أو حرفياً أو صناعياً، لا يعتبر تأجيراً من الباطن أو تنازلاً عن الإجارة ، بل يظل المستأجر وحده – دون هؤلاء الشركاء – طرفاً فى العلاقة الإيجارية التى ارتبط بها مع المؤجر، إلا أن النص المطعون فيه جاوز نطاق هذه القواعد، إذ اعتبر عقد الإيجار ممتداً بقوة القانون لصالح شركاء المستأجر فى العين المؤجره التى كانوا يستخدمونها لأغراض لا صلة لها بالسكنى ، ولو كان المستأجر الأصلى قد تخلى عنها، منهياً علاقته بها، وكان شركاؤه من غير ورثته. وحيث إن الدستور – إعلاء من جهته لدور الملكية الخاصة ، وتوكيداً لإسهامها فى صون الأمن الاجتماعى – كفل حمايتها لكل فرد – وطنياً كان أم أجنبياً – ولم يجز المساس بها إلا على سبيل الاستثناء، وفى الحدود التى يقتضيها تنظيمها، باعتبارها عائدة – فى الأعم من الأحوال – إلى جهد صاحبها، بذل من أجلها الوقت والعرق والمال، وحرص بالعمل المتواصل على إنمائها، وأحاطها بما قدره ضرورياً لصونها، مُعبداً بها الطريق إلى التقدم، كافلاً للتنمية أهم أدواتها، محققاً من خلالها إرادة الإقدام، هاجعاً إليها لتوفر ظروفا أفضل لحرية الاختيار والتقرير، مطمئناً فى كنفها إلى يومه وغده، مهيمناً عليها ليختص دون غيره بثمارها ومنتجاتها وملحقاتها، فلا يرده عنها معتد، ولا يناجز سلطته فى شأنها خصيم ليس بيده سند ناقل لها، ليعتصم بها من دون الأخرين، وليلتمس من الدستور وسائل حمايتها التى تُعينها على أداء دورها، وتقيها تعرض الأغيار لها سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها. ولم يعد جائزاً بالتالى أن ينال المشرع من عناصرها، ولا أن يُغير من طبيعتها أو يجردها من لوازمها، ولا أن يفصلها عن أجزائها أو يدمر أصلها، أو يقيد من مباشرة الحقوق التى تتفرع عنها فى غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية . ودون ذلك تفقد الملكية ضمانتها الجوهرية ، ويكون العدوان عليها غصباً، وافتئاتاً على كيانها أدخل إلى مصادرتها.
وحيث إن الملكية – فى إطار النظم الوضعية التى تزاوج بين الفردية وتدخل الدولة – لم تعد حقاً مطلقاً، ولا هى عصيه على التنظيم التشريعى ، وليس لها من الحماية ما يجاوز الانتفاع المشروع بعناصرها، ومن ثم ساغ تحميلها بالقيود التى تتطلبها وظيفتها الاجتماعية ، وهى وظيفة لا يتحدد نطاقها من فراغ، ولا تفرض نفسها تحكماً، بل تمليها طبيعة الأموال محل الملكية ، والأغراض التى ينبغى رصدها عليها، محددة على ضوء واقع اجتماعى معين، فى بيئه بذاتها، لها مقوماتها وتوجهاتها.
وحيث إن الحماية التى فرضها الدستور للملكية الخاصة ، تمتد إلى كل أشكالها لتقيم توازناً دقيقاً بين الحقوق المتفرعة عنها والقيود التى يجوز فرضها عليها، فلا ترهق هذه القيود تلك الحقوق لتنال من محتواها، أو تقلص دائرتها، لتغدو الملكية فى واقعها شكلاً مجرداً من المضمون، وإطاراً رمزياً لحقوق لا قيمة لها عملاً، فلا تخلص لصاحبها، ولا يعود عليه ما يرجوه منها إنصافاً، بل تثقلها تلك القيود لتنوء بها، مما يخرجها عن دورها كقاعدة للثروة القومية التى لا يجوز استنزافها من خلال فرض قيود عليها لا تقتضيها وظيفتها الاجتماعية ، وهو مايعنى أن الأموال بوجه عام، ينبغى أن توفر لها من الحماية أسبابها التى تعينها على التنمية ، لتكون من روافدها، فلا يتسلط أغيار عليها انتهازاً أو إضراراً بحقوق الأخرين، متدثرين فى ذلك بعباءة القانون، ومن خلال طرق احتيالية ينحرفون بها عن مقاصده. وأكثر ما يقع ذلك فى مجال الأعيان المؤجرة التى تمتد عقودها بقوة القانون دون ما ضرورة ، وبذات شروطها عدا المدة والأجرة ، مما يحيل الانتفاع بها إرثاً لغير من يملكونها، يتعاقبون عليها، جيلاً بعد جيل، لتؤول حقوقهم فى شأنها إلى نوع الحقوق العينيه التى تخول أصحابها سلطة مباشرة على شئ معين، وهو ما يعدل انتزاع الأعيان المؤجرة من ذويها على وجه التأبيد.
وما لذلك شرع الحق فى الملكية ، ذلك أن الأصل فى الأموال – وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية فى مبادئها الكلية وركائزها الثابتة – أن مردها إلى الله تعالى ، أنشأها وبسطها، وإليه مرجعها، مستخلفاً فيها عباده الذين عهد إليهم بعمارة الأرض، وجعلهم مسئولين عما فى أيديهم من الأموال لا يبددونها أو يستخدمونها إضراراً. يقول تعالى [وأنفقوا مما جعلناكم مستخلفين فيه]. وليس ذلك إلا نهياً عن الولوغ بها فى الباطل، وتكليفاً لولى الأمر بأن يعمل على تنظيمها بما يكفل المقاصد الشرعية التى ترتبط بها، والتى ينافيها أن يكون إنفاق الأموال عبثاً أو إسرافاً أو عدواناً أو متخذاً طرائق تناقض مصالح الجماعة ، أو تخل بحقوق للغير أولى بالاعتبار. وعلى ولى الأمر بالتالى – وصوناً للملكية من تبديد عناصرها – أن يعمل من خلال التنظيم التشريعى ، على ألا تكون نهباً لآخرين يلحقون بأصحابها ضرراً بغير حق، أو يوسعون من الدائرة التى يمتد الضرر إليها، ليكون دفع الضرر قدر الإمكان لازماً، فإذا تزاحم ضرران، كان تحمل أهونهما واجباً اتقاء لأعظمهما. وكلما كان الضرر بيناً أو فاحشاً، فإن رده يكون متعيناً، بعد أن جاوز الحدود التى يمكن أن يكون فيها مقبولاً.
وحيث إن ماتقدم مؤداه: أن لحق الملكية إطار محدد ينبغى أن تتوازن فيه المصالح ولاتتنافر، فلا يميل الميزان عن الحق تغليباً لبعضها إعناتاً، ولا يجوز بالتالى أن يطلق المشرع القيود على الملكية من عقالها، بل يتعين أن يكون للحقوق التى تتفرع عنها دائرة لا يجوز اقتحامها. وبقدر منافاة هذه القيود للحدود المنطقية التى تقتضيها الوظيفة الاجتماعية للملكية ، فإنها تنحل عدواناً على الأموال، وانتهاباً لثمارها أو منتجاتها أو ملحقاتها أو كل ذلك جميعاً، لتؤول الملكية عدماً.
ولئن كان الدستور قد نص فى المادة (٣٤) على أن الملكية الخاصة التى يصونها، هى تلك التى تتسم بنأيها عن الاستغلال وعدم إنحرافها، وبتوافقها فى طرق استخدامها مع الخير العام للشعب، إلا أن هذين الشرطين لا ينفصلان عن الوظيفة الاجتماعية للملكية ، بل يندرجان تحتها، ويعتبران من عناصرها. ويتعين بالتالى ردهما إليها لينظم القانون أداء هذه الوظيفة بما لا يجاوز متطلباتها، وهو مايعنى أن كل قيد على الملكية ينافى وظيفتها تلك، بحيث يستحيل رده إليها، أو اعتباره متعلقاً بها، إنما يكون مخالفاً للدستور، وعاطلاً بالتالى عن كل أثر.
وحيث إن النص المطعون فيه – وإن كان يندرج تحت التشريعات الاستثنائية التى تدخل بها المشرع لمواجهة الأزمة المتفاقمة الناشئة عن قلة المعروض من الأماكن المعدة للسكنى أو لغير ذلك من الأغراض – إلا أن طبيعتها الاستثنائية هذه التى درج المشرع على تنظيم العلائق الإيجارية من خلالها، على ضوء قواعد آمره لا يجوز الاتفاق على خلافها، لا تعصمها من الخضوع للدستور، ولا تخرجها من مجال الرقابة القضائية التى تباشرها هذه المحكمة فى شأن دستورية النصوص القانونية جميعها، حتى ماكان منها من قبيل التنظيم الخاص لموضوعها. وبقدر ضرورة هذا التنظيم، واتصاله بمصالح جوهرية لا يجوز التفريط فيها، تتحدد لهذه النصوص مشروعيتها الدستورية .
وحيث إن من المقرر – وعلى ماجرى به قضاء هذه المحكمة – إن ما نص عليه الدستور فى المادة (٧) من قيام المجتمع على أساس من التضامن الاجتماعى ، يعنى وحدة الجماعة فى بنيانها، وتداخل مصالحها لا تصادمها، وإمكان التوفيق بينها ومزاوجتها ببعض عند تزاحمها، واتصال روابط أفرادها ليكون بعضهم لبعض ظهيراً، فلا يتفرقون بدداً، أو يتناحرون طمعاً أو يتنابذون بغياً. وليس لفريق من بينهم بالتالى – ولو تذرع بنص فى قانون – أن يتقدم على غيره انتهازاً، ولا أن ينال قدراً من الحقوق يعلو بها على غيره عدواناً، ولا أن يحرم من حق بهتاناً، بل يتعين أن يكون نطاق الحقوق التى يتمتعون بها، محدداً وفق أسس موضوعية ، تقيم ميزانها عدلاً وإنصافاً.
وحيث إن الأصل فى مجال العلائق الإيجارية ، هو أن يتحقق التضامن بين مؤجر العين ومستأجرها من الوجهة الاجتماعية ، وأن تتكامل مصالحهما من زاوية اقتصادية ، فلا تتآكل حقوق مؤجر العين التواء و إيثاراً لمستأجرها، ولا يَنْقَضُّ مؤجرها على حقوق غيره عاصفاً بها أو محدداً مجال تطبيقها، وإلا كان كل منهما حرباً على الآخر. ولا يجوز بالتالى أن يكون مغبون الأمس – وهو المستأجر – غابناً، ولا أن يكون تنظيم المشرع للعلائق الإيجارية فيما بين طرفيها، إجحافاً وإعناتاً لأيهما، فلا يُقسط فى الحقوق التى يكفلها لكل منهما، بل ينحاز لأحدهما افتئاتاً على الآخر، ليحل الصراع بين هذين العاقدين بديلاً عن التعاون بينهما.
وحيث إن النص المطعون فيه، يفترض لانتقال منفعة العين المؤجرة من مستأجرها الأصلى إلى شركائه فى النشاط ذاته، أن يكون هذا المستأجر قد تركها فعلاً بعد قيام هذه الشركة ، متخلياً عن الاستمرار فيها لصالح هؤلاء الشركاء، وكان ينبغى بالتالى أن يكون هذا التخلى مبرراً لقيام حق المؤجر فى طلب إخلائها بعد انقطاع اتصال هذا المستأجر بها، وعلى تقدير أن القيود الاستثنائية التى نظم بها المشرع العلائق الإيجارية إبان أزمة الإسكان، غايتها الحد من تصاعدها وغلواء تفاقمها، وهى بعد ضرورة تقدر بقدرها، ولا يجوز أن تتخطى دواعيها. إلا أن المشرع قرر نقل منفعة العين المؤجرة إلى هؤلاء الشركاء سواء بوصفهم قد أصبحوا مستأجرين أصليين لها، أم باعتبار أن الحق فى استعمال العين لمباشرة النشاط الذى كان يزاول فيها من قبل، قد امتد إليهم بحكم القانون، ليكفل لهؤلاء، مزية استثنائية يقتحم بأبعادها حق الملكية انتهاكاً لمجالاتها الحيوية التى لايجوز أن يمسها المشرع إخلالاً بها. وهى بعد مزية يتعذر أن يكون المتعاقدان الأصليان قد قصدا إلى تقريرها ابتداء، أو أنهما عبرا – صراحة أو ضمناً – عن تراضيهما عليها، ذلك أن إرادتيهما – حقيقية كانت أم مفترضة – لا يمكن أن تُحمل على اتجاهها أو إنصرافها إلى إقحام أشخاص على العلاقة الإيجارية هم غرباء عنها، ومعاملتهم كأصلاء فيها، وإن كانوا دخلاء عليها. وليس من المتصور أن يكون مؤجر العين – وهو يملكها فى الأعم من الأحوال – قد عطل مختاراً و نهائياً – الحقوق التى تتصل باستعمالها واستغلالها، سواء كان ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر.
وحيث إن ما نصت عليه الفقرة الثالثة من المادة (٢٩) من القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٧المشار إليه، من أن مؤجر العين التى كان مستأجرها الأصلى يباشر فيها نشاطاً تجارياً أو صناعياً أو حرفياً أو مهنياً، يعتبر ملتزماً قانوناً – إذا تركها مستأجرها هذا – بأن يحرر لشركائه فى ذات نشاطها عقداً جديداً تؤول إليهم أصلاً بمقتضاه الحقوق عينها التى كانت لمستأجرها الأول ؛ وكان النص المطعون فيه لا يتضمن قيداً يحول دون انتقالها من بعد – حال تخليهم عن هذه العين – إلى من يشركونهم معهم فى استعمالها، وبوصفهم كذلك مستأجرين لها، فقد غدا من المتصور اطراد اتصال أجيالهم بها لا يفارقونها، ولوبَعُدَ العهد على العقد الأول، فلا ترد لصاحبها أبداً – ولو كان فى أمس الاحتياج لها – ما ظل زمامها بيد من يتداولونها، لا يتحولون عنها. وليس ذلك إلا تعظيماً لحقوقهم يكاد أن يلحقها بالحقوق العينية التى يباشر صاحبها بموجبها – ووفقاً للقانون – سلطة مباشرة عن شئ معين، ليستخلص منه فوائده دون وساطة أحد، وهو ما يناقض خصائص الإجارة باعتبار أن من المفترض أن يكون طرفاها فى اتصال دائم طوال مدتها، مما اقتضى ضبطها تحديداً لحقوقهما وواجباتها، وهى فوق هذا تقع على منفعة الأموال المؤجرة لا على ملكيتها، ولا ترتب للمستأجر غير مجرد حقوق شخصية يباشرها قبل المدين.
وحيث إن النص المطعون فيه، ينحدر كذلك بحقوق المؤجر إلى مرتبة الحقوق محدودة الأهمية ، لتعلو عليها مصالح المستأجر التى رجحها المشرع، وجعل كفتها هى الأثقل. ومن شأن حمايتها، حرمان مؤجر العين منها حرماناً مؤبداً ترتيباً على انتقال منفعتها إلى الغير انتقالاً متتابعاً متصلاً وممتداً فى أغوار الزمن، وهو بعد انتقال لا يعتد بإرادة المؤجر فى معدنها الحقيقى ، بل يُعْتبر العقد – بعد تخلى مستأجر العين الأصلى عنها – ممتداً بقوة القانون بنفس شروطه الأصلية عدا المدة والأجرة ، وهى بعد شروط ماكان المؤجر ليقبلها فى شأن هذه العين، لو لم يفرضها المشرع ملغياً حقه فى استعمالها واستغلالها من جديد فى الأوجه التى يراها.
وحيث إن النص المطعون فيه، يفتح فوق هذا أبواباً عريضة للتحايل ينفذ الانتهاز منها، ويتعذر دفعها أو توقيها، ذلك أن مباشرة أشخاص جدد لذات النشاط الذى كان مزاولاً فى العين المؤجرة لغير أغراض السكنى ، قد لا يكون منبئاً عن قيام اتفاق فيما بين مستأجرها الأصلى وبينهم لتكوين شركة يضيفون من خلالها حصصهم إلى أموال يستغلها هذا المستأجر فعلاً فى نشاطها، متقاسمين أرباحها وخسائرها، كل بقدر نصيبه فيها بما يوحد مصالحهم فى شأنها ويكتل جهودهم من أجل صون أهدافها، بل ساتراً لعقد حقيقى يتغيا مستأجر العين الأصلى بمقتضاه – ومقابل عوض يختص به من دون المؤجر – إحلال آخرين محله فى الاستئثار بهذه العين، تسلطاً على نشاطها وانفراداً بتسييره، فلا يقوم أصلاً العقد الظاهر فى نية عاقدية ، بل تعود على هؤلاء الأغياروحدهم منافعها، ليكون القول بانضمامهم إليه فى مباشرة هذا النشاط من خلال شركتهم، منتحلاً. وحتى فى الأحوال التى يقوم الدليل فيها على أن وجود شركاء فى العين المؤجرة ليس صورياً، وإن استمرارهم فى مباشرة ذات النشاط بها بعد تخلى المستأجر الأصلى عنها، يكفل استثماراً أفضل للأموال التى رصدوها عليها، إلا أن هذا الاعتبار وحده لا يسوغ العدوان على الملكية ، ولا يجوز أن ينال من الحقوق المتفرعة عنها بما يجرد أصحابها كلية من مباشرة سلطتهم فى استعمال الشئ محلها فى الأغراض التى يطلبونها، ذلك أن تراكم الثروة لا يتأتى إلا بحمايتها والتمكين من أسبابها، وليس من بينها أن تكون حقوق الأغيار فى الانتفاع بالعين المؤجرة ، أولى من سلطان أصحابها عليها، مالم يكن ذلك لمصلحة اجتماعية جوهرية لا يجوز الإخلال بها .
ولا كذلك النص المطعون فيه الذى فرض على مؤجر العين – ودون ما ضرورة – امتداداً قانونياً لعقد إجارتها، ولو كان ذلك لخدمة ذات نشاطها، بل يتعين أن يكون العقد – وباعتباره تصرفاً قانونياً وعملاً إرادياً – بديلاً عن هذا التدخل التشريعى ، ليحدد المؤجر بمقتضاه من يدخلون إلى العين بعد تخلى مستأجرها الأصلى عنها، والشروط التى يتراضون عليها لمباشرة مهنتهم أو حرفتهم أو تجارتهم أو صناعتهم فيها، إذا لم يؤثر هو أن تعود إليه لاستعمالها واستغلالها فى الأوجه التى يراها.
وحيث إن ما تقدم مؤداه: أن النص المطعون فيه، ينحل إلى عدوان على الملكية من خلال نقض بعض عناصرها. وهو بذلك لا يندرج تحت تنظيمها، بل يقوم على إهدار كامل للحق فى استعمالها واستغلالها، مُلحقاً بالمؤجر وحده الضرر البين الفاحش، فقد أنشأ هذا النص حقوقاً مبتدأة بعيدة فى مداها منحها لشركاء المستأجر الأصلى الذين اختصهم دون مسوغ، واصطفاهم فى غير ضرورة ، بتلك المعاملة التفضيلية التى تقدم المنفعة المجلوبة على مخاطر المفاسد ودرء عواقبها، حال أن دفع المضرة أولى اتقاء لسوءاتها وشرورها، ولأن الأصل حين تتزاحم الأضرار على محل واحد، أن يكون تحمل أخفها، لازماً دفعاً لأفدحها.
وكان ينبغى – من ثم – أن يترسم النص المطعون فيه تلك الضوابط التى تتوازن من خلالها العلائق الإيجارية بما يكون كافلاً لمصالح أطرافها غير مؤد إلى تنافرها، ليُقيمها على قاعدة التضامن الاجتماعى التى أرستها المادة (٧) من الدستور، والتى تؤكد الجماعة من خلالها القيم التى تؤمن بها، وترعى استقرارها. وهى حدود ما كان يجوز أن يتخطاها المشرع، وإلا كان منافياً المقاصد الشرعية التى ينظم ولى الأمر الحقوق فى نطاقها، بما يصم الفقرة الثانية من النص المطعون فيه – فى الحدود المتقدم بيانها – بعيب مخالفة أحكام المواد (٢، ٧، ٣٢، ٣٤) من الدستور.
وحيث إن الحكم بعدم دستورية نص الفقرة الثانية – فى هذا النطاق – يعنى سقوط فقرتها الثالثة – المرتبطه بها ارتباطاً لا يقبل التجزئة – فى مجال تطبيقها بالنسبة إلى شركاء المستأجر الأصلى الذين يباشرون ذات النشاط التجارى أو الصناعى أو الحر فى أو المهنى فى العين التى تخلى عنها.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة (٢٩) من القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٧ فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، وذلك فيما نصت عليه من استمرار شركاء المستأجر الأصلى للعين التى كان يزاول فيها نشاطاً تجارياً أو صناعياً أو مهنياً أو حرفياً، فى مباشرة ذات النشاط بها بعد تخلى هذا المستأجر عنها، وبسقوط فقرتها الثالثة فى مجال تطبيقها بالنسبة إلى هؤلاء الشركاء، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنية مقابل أتعاب المحاماة .