حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٤٧ لسنة ١٧ دستورية

حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٤٧ لسنة ١٧ دستورية
تاريخ النشر : ١٦ – ٠١ – ١٩٩٧

منطوق الحكم : رفض دستورية

مضمون الحكم : حكمت المحكمة برفض طلب الحكم بعدم دستورية المادة ٢٣٢ من قانون الإجراءات الجنائية الصادر بالقانون رقم ١٥٠ لسنة ١٩٥٠ وذلك فيما نصت عليه من حظر رفع الدعوى الجنائية بالطريق المباشر ضد الموظف أو المستخدم العام أو رجل الضبط عن جريمة وقعت منه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها.

الحكم

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة فى يوم السبت ٤ يناير سنة ١٩٩٧ الموافق ٢٤ شعبان سنة ١٤١٧ هـ .
برئاسة السيد المستشار الدكتور / عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: محمد ولى الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين
وحضور السيد المستشار الدكتور / حنفى علي جبالى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / حمدى أنور صابر أمين السر
أصدرت الحكم الآتى

فى القضية المقيدة بجدول
المحكمة الدستورية العليا
برقم ٤٧ لسنة ١٧ قضائية دستورية
المقامة من

السيدة / مها توفيق غنيم
ضد
١. السيد / السيد إبراهيم طه
٢. السيد / وكيل نيابة الأربعين بمدينة السويس
٣. السيد / رئيس مجلس الوزراء
الإجراءات

بتاريخ ٢٤ يوليه سنة ١٩٩٥، أودعت المدعية صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالبة الحكم بعدم دستورية المادة (٢٣٢) من قانون
الإجراءات
الجنائية الصادر بالقانون رقم ١٥٠ لسنة ١٩٥٠، وذلك فيما نصت عليه من حظر رفع الدعوى الجنائية بالطريق المباشر ضد الموظف أو المستخدم العام أو رجل الضبط عن جريمة وقعت منه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم، أصلياً: بعدم قبول الدعوى ، واحتياطياً: برفضها.
وبعد تحضير الدعوى ، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة .
حيث أن الوقائع – على مايبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل فى أن المدعية كانت قد أقامت بطريق الإدعاء المباشر، الدعوى رقم ١٤٦٥ لسنة ١٩٩٥ جنح الأربعين ضد السيد / السيد إبراهيم طه الموظف بمديرية الشئون الصحية بمحافظة السويس – المدعى عليه الأول فى الدعوى الماثلة – طالبة الحكم عليه بأقصى العقوبة المقررة بالمادة (٣٠٢) من قانون العقوبات عن جريمة القذف العلنى ، مع إلزامه بأن يؤدى لها تعويضاً مؤقتاً قدره خمسمائة جنيه وواحداً والمصروفات ومقابل أتعاب المحاماة . وبجلسة ٢ / ٧ / ١٩٩٥ دفع الحاضر عن المدعية أمام محكمة الموضوع بعدم دستورية المادة (٢٣٢) من قانون
الإجراءات
الجنائية ، وذلك فيما نصت عليه من عدم جواز تحريك الدعوى الجنائية ضد موظف أو مستخدم عام أو أحد رجال الضبط لجريمة وقعت منه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها. وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع، وقررت تأجيل نظر الدعوى إلى جلسة ٦ / ٨ / ١٩٩٥ لتقديم ما يفيد الطعن بعدم الدستورية ، فقد أقامت المدعية الدعوى الماثلة .
وحيث إن هيئة قضايا الدولة دفعت هذه الدعوى بعدم قبولها، تأسيساً على أن المدعية لم تبين أمام محكمة الموضوع النصوص الدستورية المدعى مخالفتها، ومناحى الخروج عليها. فضلاً عن أن إرجاء محكمة الموضوع الفصل فى الجنحة المرفوعة إليها بطريق الإدعاء المباشر، إلى أن تقدم المدعية ما يفيد الطعن بعدم الدستورية ، لا يدل على تصريحها لها برفع دعواها الدستورية .
وحيث إن هذا الدفع مردود أولاً بأن ما نصت عليه المادة (٣٠) من قانون
المحكمة الدستورية العليا
، من أن القرار الصادر عن محكمة الموضوع بإحالة مسألة دستورية بذاتها إلى هذه المحكمة للفصل فى مطابقة النصوص القانونية التى تثيرها للدستور أو خروجها عليه، وكذلك صحيفة الدعوى الدستورية التى يرفعها إليها خصم للفصل فى بطلان النصوص القانونية المطعون عليها أو صحتها، يتعين أن يتضمنا بيان النصوص القانونية المدعى مخالفتها للدستور ومواقع بطلانها، إنما تغيا ألا يكون هذا القرار أو تلك الصحيفة منطويين على التجهيل بالمسائل الدستورية التى تدعى هذه المحكمة للفصل فيها، ضماناً لتحديدها تحديداً كافياً يبلور مضمونها ونطاقها، فلا تثير – بما هيتها أو مداها – خفاء يحول دون إعداد ذوى الشأن جميعاً – ومن بينهم الحكومة – لدفاعهم بأوجهه المختلفة خلال المواعيد التى حددتها المادة (٣٧) من قانون
المحكمة الدستورية العليا
، بل يكون بيانها لازماً لمباشرة هيئة المفوضين – بعد انقضاء هذه المواعيد – لمهامها فى شأن تحضير جوانبها، ثم إبدائها رأياً محايداً فيها يكشف عن حكم الدستور والقانون بشأنها. ومردود ثانياً بأن كل شكلية – ولو كانت جوهرية فرضها المشرع لمصلحة عامة حتى ينتظم التداعى وفقاً لحكمها – لا يجوز فصلها عن دواعيها، وإلا كان القول بها إغراقاً فى التقيد بضوابطها، وإنحرافاً عن مقاصدها. ومردود ثالثاً بأن التجهيل بالمسائل الدستورية يفترض أن يكون بيانها قد غمض فعلاً بما يحول عقلاً دون تجليتها، فإذا كان إعمال النظر فى شأنها – ومن خلال الرباط المنطقى للوقائع المؤدية إليها – يفصح عن حقيقتها، وما قصد إليه الطاعن حقاً من إثارتها، فإن القول بمخالفة نص المادة (٣٠) المشار إليها، يكون لغواً. ومردود رابعاً بأن المادة (٢٣٢) من قانون
الإجراءات
الجنائية – المطعون عليها – هى التى تحول بذاتها دون مباشرة المدعى بالحقوق المدنية للحق فى الإدعاء المباشر، فإذا عيبتها المدعية فى الدعوى الماثلة ناعية عليها مخالفتها للدستور، مع سكوتها عن تبيان مداخل بطلانها، وكان استظهارها ممكناً من خلال حمل النص المطعون فيه على صور العوار التى يرتبط منطقياً بها، وكان ثابتاً كذلك أن المضار التى ألحقها هذا النص بها تتمثل فى حرمانها من حق الإدعاء المباشر المكفول لغيرها، فإن مواقع البطلان فى ذلك النص تتحدد على أساس إهداره مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون، وإنكاره لحقها فى اللجوء لقاضيها الطبيعى ، بالمخالفة للمادتين (٤٠، ٦٨) من الدستور.
حيث إن تقدير محكمة الموضوع جدية الدفع بعدم دستورية نص قانونى لازم للفصل فى النزاع المعروض عليها، لا يتعمق المسائل الدستورية التى يثيرها هذا النزاع، ولا يعتبر فصلاً فيها بقضاء قطعى ، بل يعود الأمر فى شأنها إلى
المحكمة الدستورية العليا
لتزن وفقاً لمقاييسها جوهر المطاعن الدستورية وأبعادها، تحديداً لصحتها أو فسادها. وإذ تفصل محكمة الموضوع فى دفع مثار أمامها بعدم دستورية نص فى قانون أو لائحة ، فإن قرارها فى هذا الصدد إما أن يكون صريحاً أو مستفاداً ضمناً من عيون الأوراق. ويعتبر قراراً ضمنياً بقبول الدفع، إرجاء الفصل فى النزاع الموضوعى إلى أن تقدم المدعية ما يدل على رفع دعواها الدستورية .
وحيث إن الفقرة الأولى من المادة (٢٣٢) من قانون
الإجراءات
الجنائية تقضى بما يأتى تحال الدعوى إلى محكمة الجنح والمخالفات بناء على أمر يصدر من قاضى التحقيق أو محكمة الجنح المستأنفة منعقدة فى غرفة المشورة أو بناء على تكليف المتهم مباشرة بالحضور من قبل أحد أعضاء النيابة العامة أو من المدعى بالحقوق المدنية . وتنص فقرتها الثالثة على أنه ومع ذلك فلا يجوز للمدعى بالحقوق المدنية أن يرفع الدعوى إلى المحكمة بتكليف خصمه مباشرة بالحضور أمامها فى الحالتين الآتيتين: (أولاً) إذا صدر أمر من قاضى التحقيق أو النيابة العامة بأن لا وجه لإقامة الدعوى ولم يستأنف المدعى بالحقوق المدنية هذا الأمر فى الميعاد أو استأنفه فأيدته محكمة الجنح المستأنفة منعقدة فى غرفة المشورة . (ثانياً) إذا كانت الدعوى موجهة ضد موظف أو مستخدم عام أو أحد رجال الضبط لجريمة وقعت منه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها مالم تكن من الجرائم المشار إليها فى المادة (١٢٣) من قانون العقوبات.
وحيث إن من المقرر أن شرط المصلحة الشخصية المباشرة ، يتغيا أن تفصل
المحكمة الدستورية العليا
فى الخصومة الدستورية من جوانبها العملية ، وليس من معطياتها النظرية أو تصوراتها المجردة . وهو كذلك يقيد تدخلها فى تلك الخصومة القضائية ، ويرسم تخوم ولايتها، فلا تمتد لغير المسائل الدستورية التى يؤثر الحكم فيها على النزاع الموضوعى ، وبالقدر اللازم للفصل فيه. ومؤداه: ألا تقبل الخصومة الدستورية من غير هؤلاء الذين أضيروا من جراء سريان النص المطعون فيه عليهم، سواء أكان هذا الضرر وشيكاً يتهددهم أم كان قد وقع فعلاً.
ويتعين دوماً أن يكون هذا الضرر منفصلاً عن مجرد مخالفة النص المطعون فيه للدستور، مستقلاً بالعناصر التى يقوم عليها، ممكناً تحديده ومواجهته بالترضية القضائية لتسويته، عائداً فى مصدره إلى النص المطعون فيه، فإذا لم يكن هذا النص قد طبق أصلاً على من ادعى مخالفته للدستور، أو كان من غير المخاطبين بأحكامه، أو كان قد أفاد من مزاياه، أو كان الإخلال بالحقوق التى يدعيها لا يعود إليه، دل ذلك على انتفاء مصلحته الشخصية المباشرة ، ذلك أن إبطال النص التشريعى فى هذه الصور جميعها، لن يحقق للمدعى أية فائدة عملية يمكن أن يتغير بها مركزه القانونى بعد الفصل فى الدعوى الدستورية ، عما كان عليه قبلها.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكانت المدعية تتوخى بدعواها الموضوعية أن تلا حق موظفاً عاماً – من خلال الإدعاء المباشر – عن جريمة ارتكبها أثناء تأدية وظيفته أو بسببها، لتعويضها عن الأضرار التى أصابتها من جراء إتيانها، وكان البند (ثانياً) من الفقرة الثالثة من نص المادة (٢٣٢) من قانون
الإجراءات
الجنائية ، حائلاً بينها وبين اقتضاء الحقوق التى تطلبها فى النزاع الموضوعى ، فإن مصلحتها الشخصية فى الدعوى الدستورية ، تنحصر فى الطعن على هذا البند دون غيره.
وحيث إن المدعية تنعى فى صحيفة دعواها الدستورية ، مخالفة النص المطعون عليه للمواد (٤٠، ٦٤، ٦٥، ٦٨) من الدستور، فضلاً عن القواعد التى تضمنها الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، والعهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية كليهما، ومن بينها على الأخص الحماية القانونية المتكافئة التى كفلاها لكل إنسان دون تمييز، والحق فى أن تنظر دعواه أمام محكمة مستقلة محايدة ينشئها المشرع، نظراً علنياً ومنصفاً للفصل فى الحقوق المدنية التى يدعيها، وكذلك فيما قد يكون موجهاً إليه من اتهام جنائى ، وألا يتعرض – فوق هذا – لتدخل تعسفى فى حياته الخاصة أو لتلويث شرفه وسمعته. وفى بيان ذلك تقول المدعية أن النص المطعون فيه صادر – بطريقة تحكمية وغير مبررة – حق الناس فى ملاحقة الجناه أمام القضاء بما أضفاه من حصانة على الموظفين والمستخدمين ورجال الضبط، وهم فئة بعينها قصد أن يعطل مساءلتهم قضائياً عن الجرائم التى حددها، ودون أن يستند فى ذلك لغير صفاتهم، متذرعاً بوقوع جرائمهم هذه أثناء تأديتهم لوظائفهم أو بسببها.
وحيث إن النعى بإخلال النص المطعون فيه بحق التقاضى مردود أولاً بأن الأصل فى سلطة المشرع فى موضوع تنظيم الحقوق – ومن بينها حق التقاضى – أنها سلطة تقديريه جوهرها المفاضلة التى يجريها بين البدائل المختلفة التى تتصل بالموضوع محل التنظيم، لاختيار أنسبها لفحواه، وأحراها بتحقيق الأغراض التى يتوخاها، وأكفلها للوفاء بأكثر المصالح وزناً وليس ثمة قيد على مباشرة المشرع لسلطته هذه، إلا أن يكون الدستور قد فرض فى شأن ممارستها ضوابط محددة تعتبر تخوماً لها ينبغى إلتزامها ومردود ثانياً بأن قضاء هذه المحكمة قد جرى كذلك، على أن التنظيم التشريعى لحق التقاضى – وكلما كان منصفاً – لا يناقض وجود هذا الحق، ولا يقتحم الدائرة التى يتنفس فيها، وأن هذا التنظيم لا يتقيد بأشكال جامدة لا يريم المشرع عنها، تُفرغ قوالبها فى صورة صماء لا تبديل فيها، بل يجوز أن يغاير المشرع فيما بينها، وأن يقدر لكل حال ما يناسبها، على ضوء الأوضاع التى يباشر هذا الحق عملاً فى نطاقها، وبما لا يصل إلى حد إهداره، ليظل هذا التنظيم مرناً، فلا يكون إفراطاً يطلق الخصومة القضائية من عقالها إنحرافاً بها عن أهدافها، ولا تفريطاً مجافياً لمتطلباتها، بل بين هذين الأمرين قواماً، إلتزاماً بمقاصدها، باعتبارها شكلاً للحماية القضائية للحق فى صورتها الأكثر إعتدالاً. ومردود ثالثاً بأن ما تنص عليه المادة (٧٠) من الدستور من أن الدعوى الجنائية لا تقام إلا بأمر من جهة قضائية فيما عدا الأحوال التى يحددها القانون، يعنى أن الإدعاء المباشر ليس استصحاباً للأصل فى الدعوى الجنائية ، بل هو استثناء من قواعد تحريكها، تقديراً بأن النيابة العامة – وعلى ما تنص عليه المادة الأولى من قانون
الإجراءات
الجنائية – هى التى تختص دون غيرها برفع الدعوى الجنائية ومباشرتها، ولا ترفع من غيرها إلا فى الأحوال المبينة فى القانون. كذلك فإن تفويض الدستور السلطة التشريعية فى تحديد الأحوال التى لا تقام الدعوى الجنائية فيها بأمر من جهة قضائية ، مؤداه: جواز تضييقها لنطاق الحق فى الإدعاء المباشر، لا تتقيد فى ذلك بغير الشروط الموضوعية التى لا يناقض تطبيقها حكماً فى الدستور ومردود رابعاً بأن تخويل المدعى بالحقوق المدنية حق الإدعاء المباشر – وإن توخى مراقبتها تفاديا لإساءتها استعمال سلطتها هذه بالامتناع عن مباشرتها دون مقتض – إلا أن المشرع وازن بالنص المطعون فيه بين أمرين، أولهما الضرورة التى يقتضيها استعمال هذا الحق فى إطار الأغراض التى شرع لها، وثانيهما الأضرار التى ينبغى توقيها إذا نقض هذا الاستعمال تلك الأغراض وتنكبها، مهدداً بذلك مسئولية أداء العمل العام، فرجح ثانيهما على أولهما، تقديراً بأن الأضرار التى ترتبط بإساءة استعمال الحق فى الإدعاء المباشر، يكون دفعها لازماً، ولا يجوز أن تتقدمها مزاياه. ذلك أن الموظفين العامين – الذين حال النص المطعون فيه دون تكليفهم من قبل المدعى بالحقوق المدنية للحضور مباشرة أمام المحكمة الجنائية – لا يباشرون أعمال وظائفهم بعيداً عن مصالح المواطنين الذين يلجون أبوابهم لقضاء حوائجهم، بل يتردد موقفهم منها بين تلبيتها أومعارضتها، مما يثير غرائز النفس البشرية ونزواتها التى كثيراً ماتجنح مع سوء ظنها إلى التجريح نأياً عن موازين الحق والعدل، فلا يكون إندفاعها إلا شططاً، وضيقها بالقائمين على العمل العام إلاتسرعاً وافتراء يقترن – فى الأعم – بالتطاول عليهم حطاً من قدرهم، ونيلاً من اعتبارهم، لتهن عزائمهم فلا يثابرون على أعمالهم، بل يتراخون فيها نكولاً أو يقعدون عنها وجلاً، مما يصرفهم عن أدائها على وجهها الصحيح سيما وأن المشرع قد اختصهم بجرائم قصرها عليهم وغلظ عقوباتها حملاً لهم على القيام بواجباتهم. ولا يجوز بالتالى أن ينفرط اطمئنانهم إذا كان لكل مدع بالحقوق المدنية أن يلاحقهم جنائياً عن جرائم يُدعى ارتكابهم لها، ولو كان الدليل عليها واهياً متخاذلاً، متدثراً برداء الحق، ليقوض بذلك سكينتهم ما بقى الاتهام الجنائى مسلطاً عليهم، مبدداً جهدهم، مثبطاً هممهم، مثيراً للشبهات من حولهم. وكان على المشرع بالتالى أن يرد عنهم – بالنص المطعون فيه – غائلة عدوان أكثر احتمالاً وأدنى وقوعاً ضماناً لأن يظل الحق فى الإدعاء المباشر مقيداً بالأغراض التى شرع من أجلها، فلا ينقلب عليها. ومردود خامساً بأن إسقاط الحق فى الإدعاء المباشر فى الحدود التى بينها النص المطعون فيه، لا يتوخى حماية القائم بالعمل العام، بل صون الوظيفة العامة من معوقاتها، بما يمكن القائمين عليها من أداء خدماتهم المقصودة منها، فلا يعرقل تدفقها قيد يحول دون جريانها وانتظامها، أو يكون منافياً جوهر مقاصدها ومردود سادساً بأن الدعوى الجنائية لا يحركها الإدعاء المباشر إلا طلباً لحقوق مدنية بطبيعتها، فلا ترفعها – عند إنكاره فى جرائم بذواتها – إلا الجهة التى تختص أصلاً بإقامتها، شأن الجرائم التى يرتكبها الموظفون العامون أثناء تأدية وظائفهم أو بسببها – فى ذلك – شأن غيرها من الجرائم، وهو مايعنى أن الموظفين العامين لن يفلتوا من المسئولية الجنائية عن أفعالهم التى أثمها المشرع، بل تظل محاسبتهم عنها – إذا قام الدليل عليها – حقاً للنيابة العامة فى إطار اختصاصاتها الأصيلة .
وحيث إن مبدأ المساواة أمام القانون، ليس مبدأً تلقينياً جامداً منافياً للضرورة العملية ، ولا هو بقاعدة صماء iron rule تنبذ صور التمييز جميعها، ولا كافلاً لتلك الدقة الحسابية التى تقتضيها موازين العدل المطلق بين الأشياء. وإذا جاز للدولة أن تتخذ بنفسها ما تراه ملائماً من التدابير، لتنظيم موضوع محدد أو توقياً لشر تقدر ضرورة رده، وكان دفعها للضرر الأكبر بالضرر الأقل لازماً، إلا أن تطبيقها مبدأ المساواة لا يجوز أن يكون كاشفاً عن نزواتها، ولا منبئاً عن اعتناقها لأوضاع جائرة تثير ضغائن أو أحقاد تنفلت بها ضوابط سلوكها، ولا عدواناً معبراً عن بأس سلطانها، بل يتعين أن يكون موقفها إعتدالاً فى مجال تعاملها مع المواطنين، فلا تمايز بينهم إملاء أو عسفاً. ومن الجائز بالتالى أن تغاير السلطة التشريعية – ووفقا لمقاييس منطقية – بين مراكز لا تتحد معطياتها، أو تتباين فيما بينها فى الأسس التى تقوم عليها، على أن تكون الفوارق بينها حقيقية لا اصطناع فيها ولا تخيل real and not feigned differencies، ذلك أن ما يصون مبدأ المساواة ، ولا ينقض محتواه، هو ذلك التنظيم الذى يقيم تقسيماً تشريعياً ترتبط فيه النصوص القانونية التى يضمها، بالأغراض المشروعة التى يتوخاها. فإذا قام الدليل على انفصال هذه النصوص عن أهدافها، كان التمييز إنفلاتاً لا تبصر فيه. كذلك الأمر إذا كان اتصال الوسائل بالمقاصد واهياً، إذ يعتبر التمييز عندئذ مستنداً إلى وقائع يتعذر أن يُحْمَل عليها، فلا يكون مشروعاً دستورياً.
وحيث إن النص المطعون فيه – وعلى ماتقدم – لم يقصد إلى إفراد المتهمين بالجرائم المشار إليها فيه، بمعاملة استثنائية يختصون بها علوا على غيرهم، ولا أن يمنحهم ميزة يؤثرهم بها على سواهم من المتهمين، بل تغيا أن يظل العمل العام منتظماً وأن يكون الطريق إليه قويماً، فلا ينفذ إليه متخرصون يعطلون سيره بنيلهم من القائمين عليه إفكاً وبغياً، فإن النص المطعون فيه يكون بذلك كافلاً للأسس الموضوعية التى ينظم المشرع الحقوق فى نطاقها، بما لا إخلال فيه بمبدأ المساواة أمام القانون المنصوص عليه فى المادة (٤٠) من الدستور.
وحيث إن الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، وكذلك العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية ، وإن صح القول بإحتوائهما على عديد من الحقوق التى كفلها الدستور القائم وأن هاتين الوثيقتين تضمان فى جوهر أحكامهما تلك القيم التى إلتزمتها الدول الديموقراطية باطراد فى مجتمعاتها، والتى تظاهرها هذه المحكمة وترسيها باعتبارها تراثاً إنسانياً احتواه دستور جمهورية مصر العربية فى نطاق الحقوق والحريات الأساسية التى كفلها، وكان هذا الإعلان وذلك العهد لاينطويان على تنظيم للحق فى الإدعاء المباشر، ولايتطلبان غير المحاكمة المنصفة طريقاً للفصل فى كل اتهام جنائى ، فإن إقحامهما فى نطاق الدعوى الماثلة يكون عبثاً.
وحيث إن النص المطعون فيه لا يتعارض مع أى حكم فى الدستور من أوجه أخرى .
فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة برفض الدعوى وبمصادرة الكفالة وألزمت المدعية المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة .

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى