حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٤٤ لسنة ١٧ دستورية

حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٤٤ لسنة ١٧ دستورية
تاريخ النشر : ٠٦ – ٠٣ – ١٩٩٧

منطوق الحكم : عدم قبول دستورية

مضمون الحكم : بشأن عدم دستورية الفقرة الثانية من المادة ٢٩ من القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٧ بشأن تأجير و بيع الأماكن و تنظيم العلاقة بين المؤجر و المستأجر

الحكم

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت ٢٢ فبراير سنة ١٩٩٧ الموافق ١٤ شوال سنة ١٤١٧ هــ .
برئاسة السيد المستشار الدكتور / عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين : الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم وعبد الرحمن نصير وسامى فرج يوسف ومحمد على سيف الدين
وحضور السيد المستشار الدكتور / حنفى على جبالى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / حمدى أنور صابر أمين السر
أصدرت الحكم الآتى

فى القضية المقيدة بجدول
المحكمة الدستورية العليا
برقم ٤٤ لسنة ١٧ قضائية دستورية
المقامة من

السيدة / بهية إبراهيم عبد الله الموافي
ضد
١ – السيد / رئيس الجمهورية
٢ – السيد / رئيس الوزراء
٣ – السادة / ورثة المرحوم كمال على إبراهيم وهم: –
(أ‌) السيدة / زينب على إبراهيم
(ب‌) السيدة / سعاد على إبراهيم
(ت‌) السيدة / ليلى على إبراهيم
الإجراءات

بتاريخ الحادى والعشرين من يونيه ١٩٩٥، أودعت المدعية صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة ، طالبة الحكم بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة (٢٩) من القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٧ فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر؛ وكذلك ما تضمنته المادة (١٨) من القانون رقم ١٣٦ لسنة ١٩٨١ فى شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى .
وبعد تحضير الدعوى ، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة .
حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل فى أن المدعية وأخريات كن قد أقمن الدعوى رقم ١٨٠١٢ لسنة ١٩٨١ إيجارات كلى جنوب القاهرة ضد المدعى عليهن الأخيرات، ابتغاء القضاء بإخلاء المحل الكائن أسفل العقار رقم ٦٢ شارع محمد فريد قسم عابدين، قولاً منهن إنه بموجب عقد إيجار مؤرخ ١ / ١ / ١٩٤٧ استأجر مورث المدعى عليهن المحل المشار إليه من مالكه السابق، وذلك لاستعماله فى حرفة النجارة التى يزاولها، وقد أحيل العقد إلى المدعية وشريكاتها بصفتهن المالكات الحاليات للعقار، وإذ توفى المستأجر فقد انتهى عقد إيجار المحل؛ ومن ثم فقد أقمن دعواهن الموضوعية بطلب إخلائه منهن.
وبجلسة ٤ / ٥ / ١٩٩٥ – المحددة لنظر الدعوى الموضوعية – دفعت المدعية بعدم دستورية المادة (٢٩) من القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٧ فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر؛ وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية الدفع، وصرحت للمدعية باتخاذ إجراءات الطعن بعدم الدستورية ، فقد أقامت الدعوى الماثلة .
وحيث إن ولاية
المحكمة الدستورية العليا
فى الدعاوى الدستورية – وعلى ما جرى به قضاؤها – لا تقوم إلا باتصالها بالدعوى اتصالاً مطابقاً للأوضاع المقررة فى قانونها، وذلك إما بإحالة الأوراق إليها من إحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائى للفصل فى المسألة الدستورية ، وإما برفعها من أحد الخصوم بمناسبة دعوى موضوعية دفع فيها الخصم بعدم دستورية نص تشريعى ، وقدرت محكمة الموضوع جدية دفعه. وهذه الأوضاع الإجرائية تتعلق بالنظام العام باعتبارها شكلاً جوهرياً فى التقاضى تغيابه المشرع مصلحة عامة ، حتى ينتظم التداعى فى المسائل الدستورية ب
الإجراءات
التى رسمها. إذ كان ذلك، وكان الثابت مما تقدم، أن المدعية قصرت دفعها بعدم الدستورية على المادة (٢٩) من القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٧ المشار إليه، فإن دعواها الدستورية لا تكون مقبولة بالنسبة إلى المادة (١٨) من القانون رقم ١٣٦ لسنة ١٩٨١ لعدم اتصالها فى هذا الشق بالمحكمة اتصالاً مطابقاً للأوضاع المقررة قانوناً.
وحيث إن المادة (٢٩) من القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٧؛ وبعد العمل بأحكام
المحكمة الدستورية العليا
الصادرة فى الطعون أرقام ٦ لسنة ٩ قضائية ، ٤ لسنة ١٥ قضائية ، ٣ لسنة ١٨ قضائية دستورية ؛ أصبحت تقرأ كما يأتى : مع عدم الإخلال بحكم المادة (٨) من هذا القانون؛ لا ينتهى عقد إيجار المسكن بوفاة المستأجر أو تركه العين، إذا بقى فيها زوجته أو أولاده أو أى من والديه الذين كانوا يقيمون معه حتى الوفاة أو الترك؛ وفيما عدا هؤلاء من أقارب المستأجر نسباً حتى الدرجة الثالثة ، يشترط لاستمرار عقد الإيجار إقامتهم فى المسكن مدة سنة على الأقل سابقة على وفاة المستأجر؛ أو مدة شغلة للمسكن أيتهما أقل.
فإذا كانت العين مؤجرة لمزاولة نشاط تجارى أو صناعى أو مهنى أو حرفى فلا ينتهى العقد بوفاة المستأجر، ويستمر لصالح ورثته.
وفى جميع الأحوال يلتزم المؤجر بتحرير عقد إيجار لمن لهم الحق فى الاستمرار فى شغل العين، ويلتزم هؤلاء الشاغلون بطريق التضامن بكافة أحكام العقد.
وحيث إن المدعية تنعى على هذا النص مخالفته أحكام المواد (٢، ٧، ٣٢، ٣٤) من الدستور، قولاً منها بمخالفته مبادئ الشريعة الإسلامية – وهى المصدر الرئيسى للتشريع – فضلاً عن إهداره حق الملكية ، وإخلاله بمبدأ التضامن الاجتماعى .
وحيث إن البين من مضابط جلسات مجلس الشعب إبان الفصل التشريعى الثانى – دور الإنعقاد الأول – بدءاً بمضبطة الجلسة الرابعة والستين، وانتهاءً بمضبطة الجلسة الخامسة والثمانين – أن نص المادة (٢٩) فقرة ثانية ، وما يرتبط به من فقرتها الثالثة ، لم يكن وارداً أصلاً لا فى المشروع المقدم من الحكومة ، ولا فى المشروع الذى ارتأته لجنة الإسكان والمرافق العامة والتعمير بالمجلس؛ وأن المناقشة الأولى للنص التى تمت بالجلسة المعقودة فى ٣٠ من يوليو سنة ١٩٧٥، قد أسفرت عن إضافة فقرة أخيرة إلى المادة (٣١) من المشروع – التى أصبحت المادة (٢٩) من القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٧ – تنص على أنه إذا كانت العين مؤجرة لمزاولة حرفة أو مهنة ، فإن العقد لا ينتهى بوفاة المستأجر إذا ما بقى يزاول فيها نفس الحرفة أو المهنة زوجته أو أحد أولاده الذين تتوافر فيه شروط المزاولة . بيد أن النص أفرغ – عند المناقشة النهائية – فى الصيغة التى صدر بها، دالاً بمنطوقه على عدم انتهاء عقد إيجار العين المؤجرة لمزاولة نشاط تجارى أو صناعى أو مهنى أو حرفى بوفاة مستأجرها، بل بقاء ذلك العقد مستمراً لصالح ورثته، مستحدثاً بذلك حكماً لم تسبق إليه التشريعات المنظمة لإيجار الأماكن الصادرة قبل العمل بالقانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٧، ونابذاً – فى الوقت ذاته – ما جرت به المادة (٦٠٢) من القانون المدنى ، التى تنص على أنه إذا مات المستأجر، جاز لورثته أو للمؤجر أن يطلبوا إنهاء عقد الإيجار – قبل انقضاء مدته – إذا كان لم يعقد إلا بسبب حرفة المستأجر أو لاعتبارات أخرى تتعلق بشخصه؛ وهو مايعنى أن موت المستأجر يعتبر وفقاً لنص المادة (٦٠٢) من القانون المدنى ، عذراً طارئاً يسوغ إنهاء الإيجار على النحو المتقدم. وليس لوارث أن يعقبه فيها، ولو كانت له حرفة المورث، بل يتعين إذا أراد الاستمرار فى مزاولتها فى المكان المؤجر، أن يكون ذلك بعقد إيجار جديد بينه وبين المؤجر.
وحيث إن النص المطعون فيه، قد جاوز نطاق هذه القواعد؛ إذ اعتبر عقد الإيجار ممتداً بقوة القانون، لصالح ورثة مستأجر العين المؤجرة لغير أغراض السكنى على إطلاقهم، ولو كانوا جميعاً لا يباشرون الحرفة أو المهنة التجارية التى قام عليها المستأجر، أو كان من يزاولها نائباً عنهم فى ممارستها.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن الرقابة على الشرعية الدستورية تتناول – بين ما تشتمل عليه – الحقوق التى كفلها الدستور، وأخل بها النص المطعون فيه؛ سواء أكان هذا الإخلال مقصودا ابتداءً؛ أم كان قد وقع عرضاً.
وحيث إن من المقرر قانوناً – وعلى ما اطرد عليه قضاء هذه المحكمة – أن حق الملكية – وباعتباره منصرفاً محلاً إلى الحقوق العينية والشخصية جميعها، وكذلك إلى حقوق الملكية الأدبية والفنية والصناعية – نافذ فى مواجهة الكافة ليختص صاحبها دون غيره بالأموال التى يملكها وتهيئة الانتفاع المفيد بها، لتعود إليه ثمارها وملحقاتها ومنتجاتها؛ وكان صون حرمتها مؤداه: ألا تزول الملكية عن ذويها بانقطاعهم عن استعمالها. ولا أن يجردها المشرع من لوازمها، أو يفصل عنها بعض الأجزاء التى تكونها، ولا أن ينال من أصلها أو يعدل من طبيعتها، أو يقيد من مباشرة الحقوق التى تتفرع عنها فى غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية ، ولا أن يتذرع بتنظيمها إلى حد هدم الشى ء محلها. ذلك أن إسقاط الملكية عن أصحابها – سواء بطريق مباشر أو غير مباشر – عدوان عليها يناقض ما هو مقرر قانوناً من أن الملكية لا تزول عن الأموال محلها، إلا إذا كسبها أغيار وفقاً للقانون.
وحيث إن السلطة التقديرية التى يملكها المشرع فى موضوع تنظيم الحقوق، لازمها أن يفاضل بين بدائل متعددة مرجحاً من بينها ما يراه أكفل لتحقيق المصالح المشروعة التى قصد إلى حمايتها. إلا أن الحدود التى يبلغها هذا التنظيم لا يجوز بحال أن ينفلت مداها إلى ما يعد أخذاً للملكية من أصحابها A taking of property. سواء من خلال العدوان عليها بما يفقدها قيمتها، أو عن طريق اقتحامها ماديا. بل أن اقتلاع المزايا التى تنتجها، أو تهميشها مؤداه: سيطرة آخرين فعلا عليها، Physical appropriation، أو تعطيل بعض جوانبها.
وحيث إن المشرع، وإن قرر فى مجال تنظيم العلائق الإيجارية ، من النصوص القانونية ما ارتآه كافلاً للتوازن بين أطرافها، إلا أن هذا التوازن لايجوز أن يكون صورياً أو منتحلاً. وكلما كان هذا التنظيم متحيفاً، بأن مال بالميزان فى اتجاه أحد أطرافها تعظيماً للحقوق التى يدعيها أو يطلبها، كان ذلك إنحرافاً عن إطارها الحق، أو نكولاً عن ضوابط ممارستها، فلا يستقيم بنيانها. ويقع ذلك بوجه خاص إذا كان تنظيم المشرع للحق فى استعمال الشئ – وهو أحد عناصر حق الملكية – مدخلاً لإفقار مالكه، وإثراء لغيره على حسابه.
وحيث إنه فضلاً عما تقدم، لا يجوز أن يحصل المستأجر من خلال الإجارة ، على حقوق لايسوغها مركزه القانونى فى مواجهة المؤجر، وإلاحض تقريرها على الانتهاز، وكان قرين الاستغلال، إذ ليس من المتصور أن يكون مغبون الأمس – وهو المستأجر – غابناً، ولا أن يكون تدخل المشرع شططاً قلباً لموازين الحق والعدل، فلا تتوافق – فى إطار العلائق الإيجارية – مصالح طرفيها اقتصادياً، بل يختل التضامن بينهما اجتماعياً، ليكون صراعهما بديلا عن التعاون بينهما.
كذلك لا يجوز أن يتحول حق المستأجر فى استعمال العين – وهو حق مصدره العقد دائماً حتى مع قيام التنظيم الخاص للعلائق الإيجارية وتحديد أبعادها بقوانين استثنائية – إلى نوع من السلطة الفعلية يسلطها المستأجر مباشرة على الشئ المؤجر، مستخلصاً منه فوائده دون تدخل من المؤجر. إذ لو جاز ذلك، لخرج هذا الحق من إطار الحقوق الشخصية ، وصار مشبهاً بالحقوق العينية ، ملتئماً مع ملامحها. وهو ما يناقض خصائص الإجارة باعتبار أن طرفيها – وطوال مدتها – على اتصال دائم مما اقتضى ضبطها تحديداً لحقوقهما وواجباتهما، فلا يتسلط أغيار عليها انتهازاً وإضراراً بحقوق مؤجرها، متدثرين فى ذلك بعباءة القانون. ولأنها –فوق هذا – لا تقع على ملكية الشئ المؤجر، بل تنصب على منفعة يدرها، مقصودة فى ذاتها، ومعلومة من خلال تعيينها، ولمدة طابعها التأقيت مهما استطال أمدها.
وحيث إن الحق فى الإجارة لصيق أصلاً بشخص المستأجر؛ ومقارن للغرض من الإجارة كلما كانت العين مؤجرة لاعتبار يتعلق بطبيعة الأعمال التى يزاولها المستأجر. ومن ثم كان ينبغى أن يعتبر هذا الحق منقضياً بوفاته، وأن يتوافر بها حق مؤجر العين فى تسلمها بعد انقطاع صلة هذا المستأجر بها، إلا أن المشرع آثر – بالنص المطعون فيه – أن ينقل منفعتها إلى ورثته جملة ، ودون قيد.
وحيث إن مؤدى النص المطعون فيه، أنه إذا كان مستأجر العين الأصلى يباشر فيها نشاطاً تجارياً أم حرفياً، فإن العقد بعد وفاته يمتد امتداداً قانونياً إلى ورثته جميعهم، سواء أكان هؤلاء يباشرون فى هذا المكان المهنة أو الحرفة ذاتها التى قام عليها مورثهم، أم كانوا يزاولون غيرها؛ يعتمدون عليها كلية فى معاشهم بوصفها مورداً رئيسياً أو وحيداً لرزقهم، أم يفيئون إليها عرضاً باعتبارها تغل دخلاً جانبياً مضافاً إلى عملهم الأصلى ؛ يعاونون أسرة مورثهم فى أعباء حياتها، أم يناهضونها ويستقلون بنشاطهم فى هذا المكان عنها؛ يعملون فيه بأنفسهم استصحاباً لمهنة أو حرفة مورثهم، أم ينيبون عنهم أغياراً فى مباشرتها بعد انفصالهم عنها، وما لذلك فرض المشرع القيود الاستثنائية على العلائق الإيجارية التى لا يتصور أن ترتبط بغير الضرورة التى اقتضتها، ولا أن يكون أثرها محوراً من بنيان حق الملكية ، فلا تخلص لأصحابها، بل يتسلط آخرون عليها حتى تصير ركاماً، إنحرافاً بالإجارة عن مقاصدها.
وحيث إن مفاد ما تقدم، أن القيود الاستثنائية التى حمل بها المشرع العلائق الإيجارية ، لايجوز النظر إليها باعتبارها حلاً نهائياً ودائماً لمشكلاتها، ولا أن يمد المشرع تطبيقها إلى صور لا تسعها، ولا يمكن التسليم بها إلا بافتراض أن الدستور يغلب دوماً مصالح مستأجر العين – وكذلك ورثته – على حقوق مؤجرها وهو يملكها فى الأعم من الأحوال – فلا يتساويان أو يتوازنان؛ حال أن الأصل فى عقود القانون الخاص، ابتناؤها على علائق تتكافأ بشأنها مصالح أطرافها، فلا يميل ميزانها فى اتجاه مناقض لطبيعتها؛ إلا بقدر الضرورة التى لا يجوز أن ينفصل عنها مضمون النص المطعون فيه أو الآثار التى يرتبها. ويتعين بالتالى أن تخلى مكانها – عند فواتها – لحرية التعاقد بحسبانها الأصل فى العقود جميعها؛ ولأن صون الحرية الشخصية لا يعتبر مجرد ضمان ضد التدابير غير المبررة التى تنال من البدن، كتلك التى تتعلق بالقبض أو الاعتقال غير المشروع، بل صمام أمن كذلك ضد أشكال القهر على إختلافها، فلا يكون جوهر هذه الحرية إلا مجالاً حياً لإرادة الاختيار.
وحيث إن الورثة – وفى مجال تطبيق النص المطعون فيه – يتخذون من وفاة مورثهم، وزوال صلته بالتالى بالعين بالمؤجرة ، موطئاً لاستلابها من خلال مكثهم فيها واستغلالها فى عين نشاطها السابق أو فى غيره، ثم من بعدهم إلى ورثتهم، فلا ينتزعها منهم أحد، بل تتصل أيديهم بها تعاقبا عليها، فلا ينفكون عنها أو يبرحونها؛ مهما بعد العهد على العقد الأول، ما ظل زمامها بيد من يتداولها، فلا يتحولون عنها إلا بعد انتهابهم من المؤجر مقابلاً لتركها، فإذا لم يبذل، صارالمكان المؤجر إرثاً يختص هؤلاء بثماره دون وساطة من أحد؛ وهو ما يعدل انتزاع منافع الأعيان من ملاكها على وجه التأبيد. ومن غير المتصور أن يكون مؤجر العين قد عطل مختاراً ونهائياً حق استعمالها واستغلالها، سواء كان ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر، ولا أن تكون إرادتا طرفى الإجارة قد تلاقيتا – ابتداءً – على أن يقحما عليها أشخاص غرباء عنها، دخلاء عليها.
وحيث إن النص المطعون فيه، ينحدر كذلك بحقوق المؤجر إلى مرتبة الحقوق محدودة الأهمية ، ويحيلها إلى مسوخ مشوهة لا تتعدى تقاضيه عائداً نقدياً دورياً ضئيلاً؛ مرجحاً على ملكيته بمكناتها التى أقامها الدستور سوية لاعوج فيها، مصالح لا تدانيها، ولا تقوم إلى جانبها، أو تتكافأ معها، ترتيباً على انتقال منفعتها إلى الغير انتقالاً متتابعاً متصلاً ممتداً فى أغوار الزمن؛ وهو بعد انتقال لا يعتد بإرادة مالكها فى معدنها الحقيقى ، بل يقوم فى صوره الأكثر شيوعاً، على ابتزاز أموال المؤجر، والتدليس عليه، وهو ما يعد إلتواء بالإجارة عن حقيقة مقاصدها؛ وإهدار لتوازن لا يجوز أن يختل بين أطرافها.
وحيث إن ما تقدم مؤداه: أن النص المطعون فيه، أنشا حقوقاً مبتدأة – بعيدة فى مداها – منحها لفئة بذاتها لمجرد إنضوائها فى عداد ورثة المستأجر الأصلى ، اختصها دون مسوغ، واصطفاها فى غير ضرورة ، بتلك المعاملة التفضيلية التى تقدم المنفعة المجلوبة على مخاطر المفاسد ودرء عواقبها، وتلحق بالمؤجر وحده الضرر البين الفاحش، حال أن دفع المضرة أولى اتقاء لسوءاتها وشرورها، ولأن الأصل حين تتزاحم الأضرار على محل واحد، أن يكون تحمل أخفها لازماً دفعاً لأفدحها.
وكان ينبغى – من ثم – أن يترسم النص المطعون فيه تلك الضوابط التى تتوازن من خلالها العلائق الإيجارية بما يكون كافلاً لمصالح أطرافها، غير مؤد إلى تنافرها، ليُقيمها على قاعدة التضامن الاجتماعى التى أرستها المادة (٧) من الدستور. وهى بعد قاعدة مؤداها: وحدة الجماعة فى بنيانها، وتداخل مصالحها لا تصادمها، وإمكان التوفيق بينها ومزاوجتها ببعض عند تزاحمها، واتصال أفرادها ببعض ليكون بعضهم لبعض ظهيراً، فلا يتفرقون بددا، أو يتناحرون طمعاً، أو يتنابذون بغياً. وهم بذلك شركاء فى مسئوليتهم قبلها، لا يملكون التنصل منها أو التخلى عنها. وليس لفريق منهم بالتالى أن ينال قدراً من الحقوق يكون بها عدواناً أكثر علواً، ولا أن ينتحل منها ما يخل بالأمن الاجتماعى .
وحيث إن النص المطعون فيه قد نقض بما تقدم، الأحكام المنصوص عليها فى المواد (٧، ٣٢، ٣٤، ٤٠، ٤١) من الدستور.
وحيث إن الفقرة الثالثة من المادة (٢٩) المشار إليها، تلزم المؤجر – وفى كل الأحوال – بتحرير عقد إيجار لمن لهم الحق فى شغل العين، وكان حكمها هذا مرتبطاً بفقرتها الثانية المطعون فيها، ارتباطاً لا يقبل التجزئة ، فإنها تسقط فى هذا النطاق، إذ لا يتصور تطبيقها، وقد غدا النص الذى تستند إليه لإعمالها، منعدما.
فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة (٢٩) من القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٧ فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، وذلك فيما نصت عليه من استمرار الإجارة التى عقدها المستأجر فى شأن العين التى استأجرها لمزاولة نشاط حرفى أو تجارى لصالح ورثته بعد وفاته، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة .

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى