حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٢٩ لسنة ١١ دستورية
حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٢٩ لسنة ١١ دستورية
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت ٢٦ مارس لسنة ١٩٩٤الموافق ١٤ شوال لسنة ١٤١٤هـ .
برئاسة السيد المستشار الدكتور / عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وحضور السادة المستشارين : الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين وعدلى محمود منصور اعضاء
وحضور السيد المستشار / نجيب جمال الدين علما المفوض
وحضور السيد / رأفت محمد عبد الواحد أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول
المحكمة الدستورية العليا
برقم ٢٩ لسنة ١١ قضائية دستورية
المقامة من
السيد / علي محمد عبد المنعم
ضد
١ – لسيدة / بدرية رمضان محمد أبو زيد
٢ – السيد / رئيس الوزراء
٣ – السيد المستشار وزير العدل
الإجراءات
بتاريخ ٢٢ مايو سنة ١٩٨٩ أودع المدعى قلم كتاب المحكمة صحيفة الدعوى الماثلة طالباً الحكم بعدم دستورية الفقرة الرابعة من المادة (١٨) مكرراً ثانياً من المرسوم بقانون رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٩ الخاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية ، المضافة بالقانون رقم ١٠٠ لسنة ١٩٨٥.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى ، كما قدمت المدعى عليها الأولى مذكرة رددت فيها ذات الطلب.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة .
حيث إن الوقائع – حسبما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل فى ان المدعى عليها الأولى كانت قد أقامت ضد المدعى الدعوى رقم ٦٢ لسنة ١٩٧٤ أمام محكمة المنشية للأحوال الشخصية طالبة الحكم بنفقة لابنتها منه أمل المولودة فى ٧ ديسمبر لسنة ١٩٧٣، إلا أن المدعى أنكر نسب هذه البنت إليه، فقررت المحكمة وقف نظر الدعوى حتى يفصل فى النزاع حول النسب، فأقامت المدعى عليها الأولى الدعوى رقم ٢٣٥ سنة ١٩٧٤ كلى أحوال شخصية الإسكندرية بطلب الحكم بثبوت نسب الصغيرة أمل إلى المدعى فى الدعوى الماثلة ، وإذ قضى لها بذلك، فقد طعن المدعى فى هذا الحكم بالاستئناف رقم ١١٠ لسنة ١٩٨٦ شرعى عالى الإسكندرية الذى خلص إلى قبول الاستئناف شكلاً ورفضه موضوعا وتأييد الحكم المستأنف، فطعن المدعى فى هذا الحكم بالطعن رقم ٨٥ لسنة ٥٧ قضائية أحوال شخصية أمام محكمة النقض التى قضت بجلسة ٢٤ يناير سنة ١٩٨٩ بعدم قبول الطعن. وإذ قامت المدعى عليها الأولى باتخاذ إجراءات تجديد نظر دعواها رقم ٦٢ لسنة ١٩٧٤المشار إليها حيث قضت فيها محكمة المنشية بتاريخ ٣٢ فبراير سنة ١٩٨٩ بإلزام المدعى أن يؤدى لها اعتباراً من ٧ ديسمبر سنة ١٩٧٣ ثلاثين جنيهاً أجر حضانتها للصغيرة أمل حتى تنتهى حضانتها لها شرعاً أوقانوناً….، فطعن المدعى والمدعى عليها الأولى فى هذا الحكم بالاستئنافين رقمى ٢٣٥، ٢٤٧ لسنة ١٩٨٩ أحوال شخصية الإسكندرية . وبعد ضم الاستئنافين لنظرهما معاً، دفع المدعى بعدم دستورية نص المادة ١٨ مكرراً ثانياً المضافة بالقانون رقم ١٠٠ لسنة ١٩٨٥إلى المرسوم بقانون رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٩ الخاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية ، فقدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع وصرحت برفع الدعوى الدستورية ، فأقام الدعوى الراهنة .
وحيث إن المادة (١٨) مكرراً ثانياً من المرسوم بقانون رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٩الخاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية ، والمضافة بالقانون رقم ١٠٠ لسنة ١٩٨٥، تنص على ما يأتى : –
فقرة أولى : – إذا لم يكن للصغير مال، فنفقته على أبيه.
فقرة ثانية : – وتستمر نفقة الأولاد على أبيهم إلى أن تتزوج البنت أو تكسب ما يكفى نفقتها، وإلى أن يتم الابن الخامسة عشرة من عمره قادراً على الكسب المناسب، فإن أتمها عاجزاً عن الكسب لآفة بدنية أو عقلية ، أو بسبب طلب العلم الملائم لأمثاله ولاستعداده، أو بسبب عدم تيسر هذا الكسب، استمرت نفقته على أبيه.
فقرة ثالثة : ويلتزم الأب بنفقة أولاده وتوفير المسكن لهم بقدر يساره، وبما يكفل للأولاد العيش فى المستوى اللائق بأمثالهم.
فقرة رابعة : وتستحق نفقه الأولاد على أبيهم من تاريخ الامتناع عن الإنفاق عليهم.
وحيث إن البين من الأوراق أن المدعى قد أقام دعواه الدستورية ناعياً على الفقرة الرابعة من المادة (١٨) مكرراً ثانياً – سالفة الذكر – مخالفتها نص المادة الثانية من الدستور التى توجب الرجوع إلى مبادئ الشريعة الإسلامية فيما تقره السلطة التشريعية من قواعد قانونية ، تأسيساً على أن هذه المبادئ قيد عليها لا يجوز لها التنصل منه، وأن أئمة المذهب الحنفى قد أجمعوا على أن نفقة الأولاد لا تستحق عن مدة ماضية باعتبار أن مناطها الحاجة فلا يلتزم الأب بها عن المدة السابقة على فرضها قضاء، ولا زال هذا المبدأ قائماً عملاً بلائحة ترتيب المحاكم الشرعية – حتى بعد إلغاء عديد من نصوصها إذ تحيل المادة (٢٨٠) منها فيما يجب العمل به فى نطاق المسائل التى تنظمها إلى أرجح الآراء فى مذهب أبى حنيفه وذلك فيما لم يرد بشأنه نص خاص فيها.
حيث إن الأصل فى المصلحة الشخصية المباشرة – وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية – هو أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة فى الدعوى الموضوعية وذلك بأن يكون الحكم الصادر فيها مؤثراً فى الطلب الموضوعى المتصل بها والمطروح على محكمة الموضوع.
متى كان ذلك، وكان الطعن الماثل منحصراً فى الفقرة الرابعة من المادة (١٨) مكرراً ثانياً المشار إليها، فإن المسألة الدستورية التى تدعى هذه المحكمة للفصل فيها إنما تتحدد بها دون غيرها ولا تمتد لسواها.
وحيث إن تقرير اللجنه المشتركة من لجنة الشئون الدستورية والتشريعية ومكتب لجنة الشئون الدينيه والاجتماعية والأوقاف فى شأن مشروع القانون المقدم إلى مجلس الشعب بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية ، يدل على أن هذا المشروع أدرج ضمن أحكامه المادة (١٨) مكرراً ثانياً بفقراتها الثلاث، أما الفقرة الرابعة – المطعون عليها – فقد أضيفت إليه بناء على اقتراح من أحد أعضاء مجلس الشعب إبان الفصل التشريعى الرابع من دور الانعقاد العادى الأول لهذا المجلس، وقد أشار هذا العضو إلى أن سبب إضافتها هوأن المحاكم جرت على أن فرض نفقة الأولاد يبدأ من تاريخ الحكم بها، وليس من تاريخ امتناع الأب عن الانفاق، وهذا يؤدى إلى بقاء الأم الحاضنة جرياً بين المحاكم لمدة سنة أو سنتين قد لا تستطيع خلالها الانفاق على أولادها مما يضطرها إلى الإستدانة وإراقة ماء وجهها. ولا تدل الأعمال التحضيرية للنص التشريعى المطعون عليه على اعتراض أحد من أعضاء المجلس النيابى عليها. كذلك خلت المذكرة الإيضاحية للقانون رقم ١٠٠ لسنة ١٩٨٥ بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية مما يعين على تحديد مراميها. بيد أن هذا النص – الذى لم تكن تتضمنه قوانين الأحوال الشخصية السابقة عليه – قاطع فى الدلاله على أمرين:
أولهما: – أن نفقة الولد تكون ديناً فى ذمة أبيه منذ امتناعه عن أدائها مع وجوبها، وأن لولده بالتالى – وبالشروط المنصوص عليها فى الفقرات الثلاث من المادة (١٨) مكرراً ثانياً سالفة البيان – أن يقيم دعواه لطلبها، وله أن يقتضيها عن أية مدة سابقة على الحكم بها، ولو استطال زمنها.
ثانيهما: – أن الفقرة الرابعة من المادة (١٨) مكرراً ثانياً – وهى النص المطعون عليه – وقد جاء حكمها مطلقاً من قيد الزمان – لا يجوز تقييدها بالقيد الذى أورده المشرع فى شأن المدة التى لايجوز بعدها للزوجة أن تقتضى النفقه من زوجها، ذلك أن القانون رقم ١٠٠ لسنة ١٩٨٥ بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية وإن استعاض عن نص المادة الأولى من القانون رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٠ الخاص ببعض أحكام النفقة ومسائل الأحوال الشخصية بنص جديد يعتبر نفقة الزوجه ديناً على زوجها من تاريخ امتناعه عن إيفائها مع وجوبها، وقرن ذلك بعدم جواز سماع دعواها عن مدة ماضية تزيد على سنة نهايتها تاريخ رفعها، إلا أن حكم هذا النص خاص بنفقتها هى التى تستحق لها مقابل احتباسها لحق زوجها عليها وإمكان استمتاعه بها، ولا يعتبر بالتالى منصرفاً إلى سواها.
وحيث إن من المقرر أنه اذا كان الصغير ذا مال حاضر، فإن نفقته تقع فى ما له ولا تجب على أبيه، فإذا لم يكن له مال يكفيه، فإن وجوبها على أبيه وانفراده بتحملها – بقدر احتياج الولد لها، قاعدة ثابتة لا تأويل فيها. ولا يجادل المدعى فى أصل الحق فى النفقة ، ولا فى أن نفقة الولد على أبيه غير مقدرة بنفسها، بل بكفايتها. وليس ثمة مطعن من جهته فى مشروعية شروط استحقاقها التى تطلبتها المادة (١٨) مكرراً ثانياً بفقراتها الثلاث، وإنما تدور دعواه الدستورية حول جواز ثبوتها ديناً فى ذمة الوالد عن فترة ماضية غير قصيرة إذا لم يكن ثمة تراض بها أو قضاء بفرضها، ذلك أن الأصل عنده أن نفقة الصغير لا تكون ديناً فى ذمة أبيه إلا من تاريخ الحكم بها أخذاً بما قرره الحنفية ومن قال برأيهم من الفقهاء، وإذ عدل النص التشريعى المطعون عليه عن هذه القاعدة التى تستمد أصلها من مبادئ الشريعة الإسلامية ، فقد غدا مخالفاً لنص المادة الثانية من الدستور التى تنص على أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع.
وحيث إن ما نص عليه الدستور فى مادته الثانية – بعد تعديلها فى سنة ١٩٨٠ – من أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، إنما يتمحض عن قيد يجب على السلطة التشريعية إلتزامه فى التشريعات الصادرة بعد العمل بالتعديل الدستورى المشار إليه – ومن بينها أحكام القانون رقم ١٠٠ لسنة ١٩٨٥ بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية – فلا يجوز لنص تشريعى أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية فى ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هى التى يكون الاجتهاد فيها ممتنعاً، لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية مبادئها الكلية وأصولها الثابته التى لا تحتمل تأويلاً أو تبديلاً. ومن غير المتصور بالتالى أن يتغير مفهومها تبعاً لتغير الزمان والمكان، إذ هى عصية على التعديل ولايجوز الخروج عليها أو الإلتواء بها عن معناها. وتقتصر ولاية
المحكمة الدستورية العليا
فى شأنها على مراقبة التقيد بها وتغليبها على كل قاعدة قانونية تعارضها. ذلك أن المادة الثانية من الدستور تقدم على هذه القواعد أحكام الشريعة الإسلامية فى أصولها ومبادئها الكلية إذ هى إطارها العام وركائزها الأصيله التى تفرض متطلباتها دوماً، بما يحول دون إقرار أية قاعدة قانونية على خلافها، وإلا اعتبر ذلك تشهياً وإنكاراً لما علم من الدين بالضرورة . ولا كذلك الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها أو هما معاً، ذلك أن دائرة الاجتهاد تنحصر فيها ولا تمتد لسواها، وهى بطبيعتها متطورة تتغير بتغير الزمان والمكان لضمان مرونتها وحيويتها، ولمواجهة النوازل على اختلافها تنظيماً لشئون العباد بما يكفل مصالحهم المعتبرة شرعاً ولا يعطل بالتالى حركتهم فى الحياة ، على أن يكون الاجتهاد دوماً واقعاً فى إطار الأصول الكلية للشريعة بما لا يجاوزها، ملتزماً ضوابطها الثابته، متحرياً مناهج الاستدلال على الأحكام العملية والقواعد الضابطه لفروعها، كافلاً صون المقاصد العامة للشريعة بما تقوم عليه من حفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والمال.
وحيث إن أية قاعدة قانونية ولو كان العمل قد استقر عليها أمداً، لا تحمل فى ذاتها ما يعصمها من العدول عنها وإبدالها بقاعدة جديدة لا تصادم حكماً شرعياً قطعياً وروداً ودلالة ، وتكون فى مضمونها أرفق بالعباد وأحفل بشئونهم وأكفل لمصالحهم الحقيقية التى يجوز أن تشرع الأحكام لتحقيقها، وبما يلائمها. فذلك وحده طريق الحق والعدل وهو خير من فساد عريض. ومن ثم ساغ الاجتهاد فى المسائل الاختلافيه التى لايجوز أن تكون أحكامها جامدة بما ينقض كمال الشريعة ومرونتها. وليس الاجتهاد إلا جهداً عقلياً يتوخى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية ، وهو بذلك لا يجوز أن يكون تقليداً محضاً للأولين، أو افتراء على الله كذباً بالتحليل أو التحريم فى غير موضعيهما، أو عزوفاً عن النزول على أحوال الناس والصالح من أعرافهم. وإعمال حكم العقل فيما لا نص فيه توصلاً لتقرير قواعد عملية يقتضيها عدل الله ورحمته بين عباده، مرده أن هذه القواعد تسعها الشريعة الإسلامية ، إذ هى غير منغلقة على نفسها، ولا تضفى قدسية على أقوال أحد من الفقهاء فى شأن من شئونها، ولا تحول دون مراجعتها وتقييمها وإبدالها بغيرها، فالآراء الاجتهادية ليس لها – فى ذاتها – قوة ملزمة متعدية لغير القائلين بها، ولا يجوز بالتالى اعتبارها شرعاً ثابتاً متقرراً لايجوز أن ينقض، وإلا كان ذلك نهياً عن التأمل والتبصر فى دين الله تعالى ، وإنكاراً لحقيقة أن الخطأ محتمل فى كل اجتهاد، بل إن من الصحابة من تردد فى الفتيا تهيباً. ومن ثم صح القول بأن اجتهاد أحد من الفقهاء ليس أحق بالاتباع من اجتهاد غيره. وربما كان أضعف الآراء سنداً، أكثرها ملاءمة للأوضاع المتغيرة ولو كان مخالفاً لأقوال استقر عليها العمل زمناً. ولئن جاز القول بأن الاجتهاد فى الأحكام الظنية وربطها بمصالح الناس – عن طريق الأدلة الشرعية النقلية منها والعقلية – حق لأهل الاجتهاد، فأولى أن يكون هذا الحق ثابتاً لولى الأمر يستعين عليه – فى كل مسألة بخصوصها وبما يناسبها – بأهل النظر فى الشئون العامة ، إخماداً للثائرة وبما يرفع التنازع والتناحر ويبطل الخصومة ، على أن يكون مفهوماً أن اجتهادات السابقين لا يجوز أن تكون مصدراً نهائياً أو مرجعاً وحيداً لاستمداد الأحكام العملية منها، بل يجوز لولى الأمر أن يشرع على خلافها وأن ينظم شئون العباد فى بيئة بذاتها تستقل بأوضاعها وظروفها الخاصة بما يرد الأمر المتنازع عليه إلى الله ورسوله مستلهماً فى ذلك حقيقة أن المصالح المعتبرة هى تلك التى تكون مناسبة لمقاصد الشريعة متلاقية معها، وهى بعد مصالح لا تتناهى جزئياتها أو تنحصر تطبيقاتها، ولكنها تتجدد تبعاً لما يطرأ عليها من تغيير وتطور. ومن ثم كان حقاً عند الخيار بين أمرين، مراعاة أيسرهما ما لم يكن إثماً، وكان واجباً كذلك ألا يشرع ولى الأمر حكماً يضيق على الناس أو يرهقهم من أمرهم عسراً، وإلا كان مصادماً لقوله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج. ولازم ذلك أن الاجتهاد حق لولى الأمر فى الدائرة التى شرع فيها،ليكون كافلاً وحدة الشريعة ميسراً لقواعدها، بإمدادها دوماً بما يعين على اكتمال نمائها.
وحيث إنه ليس ثمة نص قطعى يقرر حكماً فاصلاً فى شأن جواز اقتضاء الولد لنفقته عن المدة الماضية غير القصيرة ، ومن ثم يكون طريق الاجتهاد فى هذا النطاق مفتوحاً، فلا يصد اجتهاداجتهاداً أو يصادره، ولايقابل اجتهاد على صعيد المسائل التى تنظم الأسرة بغيره إلا على ضوء أوضاعها وأعرافها، بما لا يناقض شريعة الله ومنهاجه.
وحيث إنه وإن كان الحنفية ومن نحا نحوهم، قد ذهبوا إلى أن نفقة الولد عن المدة الماضية لا تكون واجبة ، ولا يتصور الإبراء منها قبل ثبوتها ديناً فى ذمة أبيه، وإنها لا تكون كذلك إلا إذا كان ثمة تراض بها أو كان القاضى قد فرضها، إلا أنهم فى اتجاهم هذا يفترضون أن مضى هذه المدة دون المخاصمة عنها أو التراضى بشأنها لا يدل إلا على استغناء الولد عن استيفائها باعتبار أن الصغير أو الولد البالغ العاجز قد دبر أمره ووجد مايكفيه خلال المدة الماضية ، بما يغنيه عن النفقة التى يطلبها من أبيه، وليس له من بعد إبراءه منها لعدم ثبوتها فى جانبه، ولا أن يعود إلى اقتضائها بعد أن أسقط الحق فيها إذ الساقط لا يعود.
وحيث إن هذا الافتراض الذى انبنى عليه ا لرأى السابق، لا يستقيم فى كل الأحوال، ولا يعكس الصور الأكثر وقوعاً فى الحياة العملية ، ولا دليل على أن القول به أوفق لصالح الأسرة وأكفل لدعم التراحم بين أفرادها، وهو كذلك يناقض جوهرالعلاقة بينهم، وقد يقوض بنيانها. وتغير الزمان يدعو إلى العدول عن هذا الاجتهاد إعمالاً للمرونة التى تسعها الشريعة الإسلامية فى أحكامها الفرعية المستجيبة للتطور توخياً لربطها بمصالح الناس وإحتياجاتهم المتجددة وأعرافهم المتغيرة التى لا تصادم حكماً قطعياً، وهى مرونة ينافيها أن يتقيد ولى الأمر بآراء بذاتها لا يريم عنها، أو أن يقعد باجتهاده عند لحظة زمنية تكون المصالح المعتبرة شرعاً قد جاوزتها. وتلك هى الشريعة الإسلامية فى أصولها ومنابتها، متطورة بالضرورة ، نابذة الجمود، لا يتقيد الاجتهاد – وفيما لا نص عليه فيها – بغير ضوابطها الكلية ، وبما لا يعطل مقاصدها. وفى هذا الإطار يكون العدول عن الافتراض الذى قال به الحنفية ومن اتبعهم لازماً عقلاً، ومطلوباً ديانة ، ومحققاً لمصالح لها اعتبارها. ذلك أنه لا نزاع فى أن نفقة الولد على أبيه لا يتحملها سواه ولايشارك فيها غيره. ولئن صح القول بأن علاقة الشخص بذوى قرباه – من غير أبنائه – تقوم فى جوهرها على مجرد الصلة – ولو لم تكن صلة محرمية – إلا أن الولد بعض من أبيه أو هو جزؤه الذى لا ينفصل عنه، وإليه يكون منتسباً فلا يلحق بغيره. وهذه الجزئية أو البعضية مرجعها إلى الولادة ، وليس ثمة نفع يقابلها ليكون فيها معنى العوض. ومن ثم كان اختصاص الوالد دون غيره بالإنفاق على عياله ثابتاً لا جدال فيه، باعتبار أن الإنفاق عليهم كإنفاق الوالد على احتياجاته هو صوناً لحياته. ولأن عجزهم عن النظر لانفسهم والقيام على حوائجهم يفرض بذاته نفقتهم التى لايجوز لأبيهم أن يحجبها عنهم إعمالاً لقوله عليه السلام كفى بالمرء إثما ان يضيع من يقوت. وإذا كان متعيناً على الوالد إيفاء نفسه حقها توقياً لإهلاكها، فإن سعيه لضمان مئونة أولاده وهم بعض منه – يكون واجباً باعتبار أن الحاجة داعية إليه، والمصلحة تقتضيه. والأصل فى الولد – إذا كان بالغاً عاجزاً عن الكسب – حقيقة أو حكماً – ألا يكون مغاضباً لأبيه أو عصياً حتى يتخلى والده عنه، فإن كان صغيراً فإن الإنفاق عليه أولى موالاة لشئونه وإصلاحاً لأمره. وسواء كان الولد بالغاً أو صغيراً، فإن حبس النفقة عنه – لمجرد فوات مدة غير قصيرة على طلبها – لا يعدو أن يكون إعناتاً منطوياً على التضييق عليه بإنكار نفقة لازمة لحاجاته الضرورية المعجوز عن تحصيلها. ولا مراء فى أن دين هذه النفقة يكون مستحقاً فى ذمة أبيه منذ قيام سببها، ذلك أن الحقوق لا تنشأ إلا مترتبة على موجباتها التى يعكسها أن الولد ليس له مال يكفيه لسد الخلّة – بمعنى دفع الحاجة – وبمقدار ما يكون من النفقة معروفاً، ولا يجوز بالتالى إسقاطها بعد قيام الحق فيها إلا بايصالها إلى ذويها أو بالإبراء منها. ومجرد تراكمها عن مدة ماضية ليس كافياً بذاته لترجيح قالة العدول عنها، إذ هى نفقة شرعية تقتضيها الضرورة ، وبمراعاة أن مبلغها ليس سرفاً زائداً عما اعتاده الناس، وإن وجب ألا تقل عن حد الكفاية محدداً لأولاده على ضوء مايليق بأمثالهم. ومن هذه الزاوية قيل بأن الوالد وإن علا لا يحبس فى دين لولده وإن سفل إلا فى النفقة ، لأن فى الامتناع عنها مع وجوبها ضياع لنفس مستحقها وإتلاف لها.
وحيث إن قول الحنفية بأن التراخى عن اقتضاء نفقة الولد عن مدة ماضية هو نزول ضمنى عنها يحول بعدئذ دون فرضها قضاء عما يكون قد تجمد منها خلال تلك المدة ، لا يعدو أن يكون إحداثاً من جانبهم لقرينة قانونية قاطعة لايجوز هدمها ولو قام الدليل على نقيضها. وهى بعد قرينة لايظاهرها واقع الحال. والقول بها حمل للولد على أن يلا حق أباه دوماً وأن يقاضيه عن كل مدة يسيره – وهى تلك التى لا يطول زمنها بما يجاوز الشهر عند أكثر الفقهاء – لاقتضاء النفقة التى يستحقها منه خلالها، وليس ذلك إلا تمزيقاً أو على الأقل إضعافا لصلة كان يجب أن تتواصل بين الولد وأبيه لأن فصمها أو الحض على قطعها يعد حراماً لا شبهة فيه. فقد دعا الله الولد أن يكون مصاحباً لوالديه فى الدنيا معروفاً، رؤوفاً بهما – لا مخاصماً أو مناجزاً – ولو منعاه ما يستحق. وإدرارالنفقة عليه وبقدر كفايته – وعن أية مدة لم يتم الوفاء بها خلالها – أكفل لحياته وأحفظ لعرضه وعقله. وهو كذلك أدخل إلى تربيته وتقويم إعوجاجه بما يرده دوماً إلى قيم الدين وتعاليمه. وقد يتحمل الولد مشاق الحياة صابراً عليها ولا يقاضى أباه عن المدة القصيرة براً بوالديه، وإحسانهما إليه مفترض. وقد يكون مؤملاً زوال جفوة طارئة بين أمه وأبيه ليعود الوئام بينهما. وربما امتنع الأولاد عن سؤال الناس إلحافاً رحمة بأبيهم ولوتحرجوا زمناً من الحصول منه على ما يغنيهم. وذلك كله من مقاصد الشريعة الغراء وأنبل غاياتها. وإذا كان للأم أن تأخذ من مال زوجها ما يعينها هى وأولاده منها معروفاً إعمالاً لقوله تعالى لا تضار والدة بوالدها ولا مولود له بولده كان لولى الأمر أن يعمل على إيفائها النفقة التى يستحقها الأولاد، طال زمنها أو قصر – ولو استدانت بغير إذن القاضى لإشباع حاجاتهم الضرورية – وذلك توكيداً لوجوبها بعد نشوء الحق فيها. وقوله عز وجل وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف هو إخبار منه تعالى عن وجوب نفقة الأولاد مطلقاً من قيد الزمان، ولا يجوز تقييد المطلق بغير دليل وإلا كان ذلك تأويلاً غير مقبول، ولأن المأمور به وجوباً يكون نفعه غالباً. وليس معروفاً بحال أن يكون مطل الوالد مضيعاً للنفقة عن المدة الماضية ، ذلك أن فواتها قد يكون عائداً إليه بالوعود التى يبذلها لبنيه. ولا يعدو هذا المطل أن يكون ظلماً يلحق الضرر بعياله. والقاعدة الثابتة أنه لا ضرر ولا ضرار، وهى قاعدة لازمها ألا يفيد الوالد من خطئه وأن يرد عليه قصده، ونصها يفيد دفع الضرر قبل وقوعه، ورده بعد حدوثه، واختيار أهون الشرين دفعا لأعظمهما. وحمل الوالد على إيفاء النفقة التى حجبها – عناًداً أو إهمالاً – عن أولاده، هو إلزام بما هو لازم بعد أن منعهم منها دون حق، وأهدر أصل وجوبها لأولاده المحتاجين إليها. وإذا كان الأصل فى الضرر أن يزال وكان من المقرر كذلك أن الضرر لا يكون قديماً فلا يتقادم، فإن لولى الأمر أن يفرض على الوالد نفقة أولاده – عن المدة السابقة التى ماطل خلالها فى الوفاء بها – استصحاباً لأصل استحقاق الديون بمجرد نشوئها ديناً فى الذمة ، ودفعا لضرر ينال من أولاده وقد يكون جسيماً فى مداه. ولا يجوز بالتالى أن يكون فوات الزمن حائلاً دون استحقاق النفقة الواجبة ، ولا أن يتخذ الوالد من قدمها ذريعة لإسقاطها بعد ثبوتها. ومقابلة ظلم الوالد بالعدل ليس إلا حقاً تقتضيه المصلحة وواجباً تفرضه الضرورة . وإذا كان الحنفية ومن تبعهم يقولون إن النفقة تكون واجبة شيئاً فشيئاً وفق مرور الزمان تأصيلاً من جانبهم لسقوطها بمضى المدة غير القصيرة بمقولة إن فواتها دليل انقطاع احتياج الولد إلى نفقته، إلا أن قيد الزمان فى ذاته – ومجرداً من أى اعتبار آخر – لا يجوز أن يكون مفوتاً للحق فى النفقة نافياً استحقاق ما يكون قد تجمد منها، ولأن الحقوق لا تسقط عن أصحابها إلا بإرادة النزول عنها، وهى إرادة لاتفترض، بل يجب أن يقوم الدليل عليها قاطعاً، وبوجه خاص فى الأحوال التى تكون فيها قالة النزول عن الحق ترشح لضياع نفس أو تعريضها لمخاطر داهمه.
وحيث إن ما قرره المدعى – مؤيداً فى ذلك بأقوال نفر من الفقهاء – من أن نفقة الولد على أبيه لا تجب إلا من تاريخ الحكم بها، ربما كان ملائماً بمقاييس زمانهم حين كان الوازع الدينى قوياً وكان أمراً ميسراً كذلك اللجوء إلى قاض يوفر حلاً ناجزاً بعد فترة وجيزة من عرض النزاع عليه. وقد دل تغير الزمان على تراخى الهمم وخور العزائم وفساد الضمائر، ولم يعد بعض الآباء رفقاء بأبنائهم أحفياء بهم، وتعين بالتالى أن يكون الحكم الشرعى دائراً مع تغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص، ولأن الأصل فيما يعد معروفاً فى مجال النفقة ، إنما يكون عائداً إلى كل جهة بالنظر إلى ما يكون غالباً بين أهلها. ومانراه اليوم هو أن الخصومة القضائية التى يقيمها الولد على أبيه للحصول منه على نفقته التى تكفيه، قد تكون من قبل أبيه لدداً، وقد تتعقد إجراءاتها ويتراخى الفصل فيها فلا يصدر الحكم بها إلا بعد زمن يطول أو يقصر، وهو مايعنى سقوطها وفق أقوال هؤلاء الفقهاء عن المدة السابقة على تقريرها. وليس ذلك تحصيلاً للنفقة التى يستحقها الولد وطلبها وأقام الدليل عليها، بل هو إهدار لأصل وجوبها لسبب لا يرجع إليه. هذا إلى أن الأصل فى نفقة الولد المحتاج إليها، أن قوامها الجزئية التى لا تنفصم عراها بين الولد وأبيه بمضى الزمان. كذلك فإن الحكم بالنفقة – وقد قام سببها من قبله – لا يعدو وأن يكون مظهراً للحق فيها كاشفاً عنه، وليس منشئاً لوجوده من العدم أو خالقاً، ذلك أن ثبوت نفقة الولد ديناً فى ذمة أبيه يعتبر أثراً مترتباً على اكتمال وجوبها ولو كان تدخل القاضى لازماً لتحديد مقدراها عند النزاع فيه. ولقد قال المالكية بما يفيد جواز تحصيل النفقة عن مدة ماضية ، إذ يبين من بعض أقوالهم أنه إذا رفع الولد مستحق النفقة دعواه عما يكون متجمداً منها فى الماضى إلى حاكم لا يرى السقوط بمضى الزمن، فإن قضاءه بلزومها لا يعنى أنه فرضها عما يأتى مستقبلاً من الزمان، إذ لا يجوز للحاكم أن يفرض شيئا على الدوام قبل وقته.
وحيث إنه متى كان ذلك، وكان دستور جمهورية مصر العربية قد نص فى مادته التاسعة – وأحكامه متكاملة لا تنافر فيها – على أن الأسرة قوامها الدين والأخلاق والوطنية ، وأن صون طابعها الأصيل – بما يقوم عليه من القيم والتقاليد – يعد إلتزاماً على الدولة عليها أن تعمل على تنميته وتوكيده داخل المجتمع، وكان ما قرره الدستور على هذا النحو ليس إلا تثبيتاً لضرورة العمل على وحدة الأسرة وفرض تماسكها بما يصون قيمها ويرسيها على الدين والخلق القويم ضماناً للتواصل والتراحم والتناصف بين أفرادها – وهو ما سعى إليه النص المطعون فيه – فإنه لايكون مخالفاً للدستور.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى وبمصادرة الكفالة والزمت المدعى المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة .