حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٢٨ لسنة ١٧ دستورية
حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٢٨ لسنة ١٧ دستورية
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة فى يوم السبت ٢ ديسمبر سنة ١٩٩٥ الموافق ٩ رجب ١٤١٦ هـ .
برئاسة السيد المستشار الدكتور / عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وحضور السادة المستشارين: – فاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامى فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين ومحمد عبد القادر عبد الله اعضاء
وحضور السيد المستشار الدكتور / حنفى على جبالى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / أحمد عطيه أحمد منسى أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول
المحكمة الدستورية العليا
برقم ٢٨ لسنة ١٧ قضائية دستورية • بعد أن احالت محكمة دمنهور الابتدائية ( د / ١١) ملف الدعوى رقم ١٧١٢٦ لسنة ١٩٩٤ جنح مستأنف دمنهور
المقامة من
نيابة دمنهور الكلية
ضد
السيد / محمد مصطفى الشريف
الإجراءات
بتاريخ ١٢ إبريل ١٩٩٥، ورد إلى قلم كتاب المحكمة ملف الدعوى رقم ١٧١٢٦ لسنة ١٩٩٤ جنح مستأنف دمنهور، بعد أن قضت محكمة دمنهور الإبتدائية (د / ١١) بوقف الدعوى وإحالة الأوراق إلى
المحكمة الدستورية العليا
للفصل فى دستورية نص المادة (٢ / ١) من القانون رقم ٤٨ لسنة ١٩٤١ بقمع التدليس والغش، والمادة (١٨) من القانون رقم ١٠ لسنة ١٩٦٦ بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم بعدم قبول الدعوى بالنسبة إلى شقها الأول، وبرفض شقها الثانى .
وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة .
حيث أن الوقائع – على مايبين من حكم الإحالة وسائر الأوراق – تتحصل فى أن النيابة العامة ، كانت قد اتهمت محمد مصطفى الشريف فى القضية رقم ٢٦٨٥ جنح شبراخيت بأنه فى يوم ٢٤ مارس ١٩٩٤، بدائرة مركز شبراخيت، عرض للبيع شيئاً من أغذية الإنسان غير صالح للإستهلاك الآدمى على النحو المبين بالأوراق، وطلبت عقابه بالمواد (٢ / ١، ٧، ٨، ٩) من القانون رقم ٤٨ لسنة ١٩٤١ بقمع التدليس والغش، وكذلك بالمواد (١، ٢ / ١، ٦ / ١، ١٨) من القانون رقم ١٠ لسنة ١٩٦٦ بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها. وبجلسة ١٠ / ٨ / ١٩٩٤ قضت محكمة جنح شبراخيت حضورياً بتغريم المتهم مائه جنيه والمصادرة والنشر والمصاريف. فاستأنف هذا الحكم، وقضى غيابياً بجلسة ٢٩ / ٩ / ١٩٩٤ بقبول الاستئناف شكلاً ورفضه موضوعاً وتأييد الحكم المستأنف. وإذ عارض المتهم فى ذلك الحكم أمام محكمة دمنهور الإبتدائية (د / ١١) فى قضية النيابة العامة رقم ١٧١٢٦ لسنة ١٩٩٤ جنح مستأنف دمنهور فقد أصدرت بجلسة ٣١ / ١ / ١٩٩٥، وبعد أن تراءى لها أن البند (١) من المادة الثانية من القانون رقم ٤٨ لسنة ١٩٤١، وكذلك نص المادة (١٨) من القانون رقم ١٠ لسنة ١٩٦٦ المشار إليهما ينطويان على افتراض علم المتهم بغش الأغذية أو فسادها بالنسبة إلى مشتغلين بالاتجار فيها، ويناقضان بالتالى افتراض البراءة المنصوص عليه فى المادة (٦٧) من الدستور، مما حملها على وقف الدعوى الجنائية المنظورة أمامها، وإحالة الأوراق إلى
المحكمة الدستورية العليا
للفصل فى دستورية هذين النصين.
وحيث إنه فيما يتعلق بشق الدعوى الدستورية الخاص بالطعن بعدم دستورية نص البند (١) من المادة الثانية من القانون رقم ٤٨ لسنة ١٩٤١ بقمع التدليس والغش، فقد سبق أن تناولت
المحكمة الدستورية العليا
هذه المسألة عينها بحكمها الصادر فى ٢٠ مايو ١٩٩٥ فى القضية رقم ٣١ لسنة ١٦ قضائية دستورية الذى قضى بعدم دستورية البند الأول من المادة الثانية من هذا القانون قبل تعديلها بالقانون رقم ٢٨١ لسنة ١٩٩٤. وإذ نشر هذا الحكم بالجريدة الرسمية فى ٨ يونيو ١٩٩٥، فإن الخصومة فى هذا الشق من الدعوى الدستورية تكون منتهية ، بعد أن حسمتها
المحكمة الدستورية العليا
بحكمها المشار إليه، وهو حكم لا رجوع فيه ولا تعقيب عليه، بالنظر إلى الحجية المطلقة التى أسبغها المشرع على قضائها فى المسائل الدستورية . ومن ثم تكون الخصومة منتهية فى هذا الشق من الدعوى الدستورية .
وحيث إن النعى على المادة (١٨) من القانون رقم ١٠ لسنة ١٩٦٦ بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها، – وهى الشق الآخر من الدعوى الدستورية – مخالفتها للدستور، فإن نصها يجرى كالآتى : يعاقب من يخالف أحكام المواد (٢، ١٠، ١١، ١٢، ١٤، ١٤ مكرراً) والقرارات المنفذه لها بعقوبة المخالفة ، وذلك إذا كان المتهم حسن النية . ويجب أن يقضى الحكم بمصادرة المواد الغذائية موضوع الجريمة .
وحيث إن التنظيم التشريعى لمراقبة الأغذية وتنظيم تداولها، يدل على أن صون صحة الإنسان، كان دوماً من أولى المهام التى تقوم عليها الدولة ، وفاء بإلتزاماتها المنصوص عليها فى المادتيين (١٦، ١٧) من الدستور ويندرج تحت ذلك ضمان خلو أغذيته من الأمراض والتقيد بمستوياتها الصحية ومواصفتها، ومن ثم حدد القانون رقم ١٠ لسنة ١٩٦٦ بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها، الأحوال التى يكون فيها تداول الأغذية محظوراً، ذلك أن هذا القانون، بعد أن نص فى مادته الأولى على أن يقصد بتداول الأغذية ، أية عملية أو أكثر من عمليات تصنيعها أو تحضيرها أو طرحها للبيع أو تخزينها أو نقلها أو تسليمها، أردفها بالمادة الثانية التى حظر بموجبها تداول الأغذية فى أحوال بعينها هى
١ – إذا كانت غير مطابقة للمواصفات الواردة فى التشريعات النافذة .
٢ – إذا كانت غير صالحة للإستهلاك الآدمى .
٣ – إذا كانت مغشوشة .
وتقضى المادة الثالثة من هذا القانون، بأن الأغذية تعتبر غير صالحة للإستهلاك الآدمى إذا كانت ضارة بالصحة أو كانت فاسدة أو تالفة . وتعتبرالأغذية ضارة بالصحة – وعملاً بالمادة (٤) من ذلك القانون – فى الأحوال الآتية :
(١) إذا كانت ملوثة بميكروبات أو طفيليات من شأنها إحداث المرض بالإنسان.
(٢) إذا كانت تحتوى على مواد سامة تحدث ضررا لصحة الإنسان إلا فى الحدود المقررة بالمادة (١١).
(٣) إذا تداولها شخص مريض بأحد الأمراض المعدية التى تنقل عدواها إلى الإنسان عن طريق الغذاء أو الشراب، أو حامل لميكروباتها، وكانت هذه الأغذية معرضة للتلوث.
(٤) إذا كانت ناتجة من حيوان مريض بأحد الأمراض التى تنتقل إلى الإنسان أو من حيوان نافق.
(٥) إذا امتزجت بالأتربة أو بالشوائب بنسبة تزيد على النسب المقررة ، أو كان يستحيل تنقيتها منها.
(٦) إذا احتوت على مواد ملوثة ، أو مواد حافظة ، أو أية مواد أخرى محظور استعمالها.
(٧) إذا كانت عبواتها أو لفائفها، تحتوى على مواد ضارة بالصحة .
وتنص المادة (٥) من هذا القانون، على أن الأغذية تعتبر فاسدة أو تالفة ، إذا تغير تركيبها أو خواصها الطبيعية من حيث طعمها أو رائحتها أو مظهرها نتيجة تحليلها كيماوياً أو ميكروبياً، وكذلك إذا انتهى التاريخ المحدد لاستعمالها، أو احتوت على يرقات أو ديدان أو حشرات أو فضلات أو مخلفات حيوانية .
ويعتبر الغش متحققاً فى الأغذية – وعملاً بنص المادة (٦) من القانون – إذا كانت غير مطابقة للمواصفات المقررة ، أو تم خلطها أومزجها بمادة أخرى تغير من طبيعتها، أو جودة صنفها، أو بإبدال مادة تقل جودة عن تلك التى تدخل فى تركيبها أو بتعمد إخفاء فسادها أو تلفها أو بانتزاع أحد عناصرها سواء بصفة كلية أو جزئية ، أو باحتوائها على عناصر غذائية فاسدة ، نباتية كانت أم حيوانية ، وكذلك إذا كانت بيانات عبواتها مخالفة لحقيقة تركيبها مما يؤدى لخداع مستهلكها أو الإضرار به صحياً.
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة – وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية – مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة فى الدعوى الموضوعية ، وذلك بأن يكون الحكم فى المسألة الدستورية ، لازماً للفصل فى الطلبات الموضوعية المرتبطة بها، والمطروحة على محكمة الموضوع، وكان الاتهام المثار فى الدعوى الجنائية يتعلق بقيام المتهم ببيع أغذية محظور تداولها، وكانت المادة الثانية من القانون رقم ١٠ لسنة ١٩٦٦ المشار إليه، هى التى تحدد الأحوال التى لا يجوز فيها تداول الأغذية سواء لفسادها أو تلفها، أو لإضرارها بالصحة العامة ، أو لقيام الدليل على غشها أو مخالفتها لمواصفاتها المقررة قانوناً؛ وكانت المادة (١٨) من هذا القانون، التى أحالتها محكمة الموضوع إلى
المحكمة الدستورية العليا
للفصل فى دستوريتها، تقضى بإيقاع عقوبة المخالفة على من يخالفون أحكام المواد (٢، ١٠، ١١، ١٢، ١٤، ١٤ مكرراً) منه، وذلك إذا كان المتهم حسن النيه، فإن نطاق الطعن الماثل لا يمتد إلى كل الأحكام التى تحيل إليها المادة (١٨) من ذلك القانون، بل يقتصر على مادة وحيدة من بينها، هى مادته الثانية .
وحيث إن الدستور عهد إلى كل من السلطتين التشريعية والقضائية بمهام قصرها عليهما، فلا تتداخل الولايتان أو تتماسا، ذلك أن الدستور ناط بالسلطة التشريعية سن القوانين وفقاً لأحكامه، فنص فى المادة (٨٦) على أن يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع، ويقر السياسة العامة للدولة ، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ، والموازنه العامة للدولة ، كما يمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية ، وذلك كله على الوجه المبين فى الدستور.كذلك أسند الدستور إلى السلطة القضائية ولاية الفصل فى المنازعات والخصومات على النحو المبين فى الدستور. فنص فى المادة (١٦٥) على أن السلطة القضائية مستقلة ، وتتولاها المحاكم على إختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفق القانون.
وحيث إن الدستور – فى اتجاهه إلى ترسم النظم المعاصرة ، ومتابعة خطاها، والتقيد بمناهجها التقدمية – نص فى المادة (٦٦)، على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذى ينص عليها، وكان الدستور قد دل بهذه المادة على أن لكل جريمة ركناً مادياً لا قوام لها بغيره، يتمثل أساساً فى فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابى ، مفصحاً بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائى ابتداءً – فى زواجره ونواهيه – هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابياً كان هذا الفعل أم سلبياً، ذلك أن العلائق التى ينظمها هذا القانون فى مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها، فى علاماتها الخارجية ، ومظاهرها الواقعية ، وخصائصها المادية ، إذ هى مناط التأثيم وعلته، وهى التى يتصور إثباتها ونفيها، وهى التى يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وهى التى تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها، وتقدير العقوبة المناسبة لها. بل أنه فى مجال تقدير توافر القصد الجنائى ، فإن محكمة الموضوع لا تعزل نفسها عن الواقعة محل الاتهام التى قام الدليل عليها قاطعاً واضحاً، ولكنها تجيل بصرها فيها، منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجانى حقيقة من وراء إرتكابها. ومن ثم تعكس هذه العناصر تعبيراً خارجياً ومادياً عن إرادة واعية . ولا يتصور بالتالى وفقاً لأحكام الدستور أن توجد جريمة فى غيبة ركنها المادى ، ولا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم، والنتائج التى أحدثا بعيداً عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه. A persons intent in any regard is to be inferred from his conduct and ordinarily can be proven only by circumstantial evidence . Regardless of whether intent is general or specefic , intent is proven to the trier of facts by the conduct of the actor which represents an objective , tangible manifistation of behaviour assumed to be reflection of his or her mental state . ولازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية – وليس النوايا التى يضمرها الإنسان فى أعماق ذاته – تعتبر واقعة فى منطقة التجريم، كلما كانت تعكس سلوكاً خارجياً مؤاخذاً عليه قانوناً. فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجياً فى صورة مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة .
وحيث إن الدستور كفل فى مادته السابعة والستين، الحق فى المحاكمة المنصفة . بما تنص عليه من أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. وهو حق نص عليه الإعلان العالمى لحقوق الإنسان فى مادتيه العاشرة والحادية عشر التى تقرر أولاهما: أن لكل شخص حقاً مكتملاً ومتكافئاً مع غيره فى محاكمة علنية ، ومن صفة ، تقوم عليها محكمة مستقلة ومحايدة ، تتولى الفصل فى حقوقه وإلتزاماته المدنية ، أو فى التهمة الجنائية الموجهة إليه. وتردد ثانيتهما: فى فقرتها الأولى حق كل شخص وجهت إليه تهمة جنائية ، فى أن تفترض براءته إلى أن تثبت إدانته فى محاكمة علنية توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه. وهذه الفقرة هى التى تستمد منها المادة (٦٧) من الدستور أصلها، وهى تردد قاعدة استقر العمل على تطبيقها فى الدول الديموقراطية ، وتقع فى إطارها مجموعة من الضمانات الأساسية تكفل بتكاملها مفهوماً للعدالة يتفق بوجه عام مع المقاييس المعاصرة المعمول بها فى الدول المتحضرة . وهى بذلك تتصل بتشكيل المحكمة ، وقواعد تنظيمها، وطبيعة القواعد الإجرائية المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها من الناحية العملية . كما أنها تعتبر فى نطاق الاتهام الجنائى ، وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التى قضى الدستور فى المادة (٤١) بأنها من الحقوق الطبيعية التى لا يجوز الإخلال بها أو تقييدها بالمخالفة لأحكامه. ولا يجوز بالتالى تفسير هذه القاعدة تفسيراً ضيقاً، إذ هى ضمان مبدئى لرد العدوان عن حقوق المواطن وحرياته الأساسية ، وهى التى تكفل تمتعه بها فى إطار من الفرص المتكافئة ، ولأن نطاقها وإن كان لا يقتصر على الاتهام الجنائى ، وإنما يمتد إلى كل دعوى ولو كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية ، إلا أن المحاكمة المنصفة تعتبر أكثر لزوماً فى الدعوى الجنائية ، وذلك أياً كانت طبيعة الجريمة ، وبغض النظر عن درجة خطورتها.
وحيث إن الدستور يكفل للحقوق التى نص عليها فى صلبه، الحماية من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية ، وكان استيثاق المحكمة من مراعاة القواعد المنصفة آنفة البيان – عند فصلها فى الاتهام الجنائى – تحقيقاً لمفاهيم العدالة حتى فى أكثر الجرائم خطورة ، لا يعدو أن يكون ضمانة أولية لعدم المساس بالحرية الشخصية – التى كفلها الدستور لكل مواطن – بغير الوسائل القانونية التى لا يترخص أحد فى التقيد بها، أو النزول عنها؛ وكان افتراض براءة المتهم، يمثل أصلاً ثابتاً يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، وليس بنوع العقوبة المقررة لها، وينسحب إلى الدعوى الجنائية فى جميع مراحلها، وعلى امتداد إجراءاتها، فقد غدا من الحتم أن يرتب الدستور على افتراض البراءة ، عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التى تخلص إليها المحكمة ، وتتكون من جماعها عقيدتها. ولازم ذلك، أن تطرح هذه الأدلة عليها، وأن تقول هى وحدها كلمتها فيها، وألا تفرض عليها أى جهة أخرى مفهوماً محدداً لدليل بعينه، وأن يكون مرد الأمر دائماً إلى ما استخلصته هى من وقائع الدعوى ، وحصلته من أوراقها، غير مقيدة بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها.
وحيث إنه على ضوء ما تقدم، تتمثل ضوابط المحاكمة المنصفة فى مجموعة من القواعد المبدئية التى تعكس مضامينها نظاماً متكامل الملامح، يتوخى بالأسس التى يقوم عليها، صون كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية ، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها، وذلك إنطلاقاً من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة ، وبوطأة القيود التى تنال من الحرية الشخصية ، ولضمان أن تتقيد الدولة عند مباشرتها لسلطاتها فى مجال فرض العقوبة صوناً للنظام الاجتماعى ، بالأغراض النهائية للقوانين العقابية ، التى ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفاً مقصوداً لذاته، أو أن تكون القواعد التى تتم محاكمته على ضوئها، مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة . بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التى تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية ، التى لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها. وهذه القواعد – وإن كانت إجرائية فى الأصل – إلا أن تطبيقها فى مجال الدعوى الجنائية – وعلى امتداد مراحلها – يؤثر بالضرورة على محصلتها النهائية ، ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية تفرضها الفطرة ، وتوجبها حقائق الأشياء، وهى بعد قاعدة حرص الدستور على إبرازها فى المادة (٦٧)، مؤكداً بمضمونها ما قررته المادة (١١) من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان على ما سلف البيان، والمادة السادسة من الإتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان.
وحيث إن أصل البراءة يمتد إلى كل فرد، سواء كان مشتبهاً فيه أو متهماً، باعتباره قاعدة أساسية فى النظام الاتهامى ، أقرتها الشرائع جميعها لا لتكفل بموجبها حماية المذنبين وإنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن الفرد إذا كانت التهمة الموجهة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للواقعة محل الاتهام، ذلك أن الاتهام الجنائى فى ذاته، لا يزحزح أصل البراءة الذى يلازم الفرد دوماً ولايزايله، سواء فى مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثنائها، وعلى امتداد حلقاتها، وأياً كان الزمن الذى تستغرقه إجراءاتها، ولا سبيل بالتالى لدحض أصل البراءة بغير الأدلة التى تبلغ قوتها الإقناعية مبلغ الجزم واليقين، بما لا يدع مجالاً معقولاً لشبهة انتفاء التهمة ، وبشرط أن تكون دلالتها، قد استقرت حقيقتها بحكم قضائى استنفد طرق الطعن فيه، وصار باتاً.
وحيث إن افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية ، ولا هو من صورها، ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلى ممثلاً فى الواقعة مصدر الحق المدعى به، إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها، وهذه الواقعة البديلة هى التى يعتبر إثباتها، إثباتاً للواقعة الأولى بحكم القانون.وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة التى افترضها الدستور، فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى ، وأقامها بديلاً عنها innocence is more properly called an assumption as opposed to a presumption . It does not rest on any other proved facts , it is assumed. وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التى جبل الإنسان عليها، وهو كذلك من الركائز التى يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التى كفلها الدستور. ويعكس قاعدة مبدئية تعتبر فى ذاتها مستعصية على الجدل، واضحة وضوح الحقيقة ذاتها، تقتضيها الشرعية الإجرائية ، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية فى مجالاتها الحيوية ، ليوفر من خلالها لكل فرد، الأمن فى مواجهة التحكم والتسلط والتحامل، بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل، وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية يحدثها.
وحيث إن من المقرر كذلك أن افتراض البراءة يقترن دائماً من الناحية الدستورية – ولضمان فعاليته – بوسائل إجرائية إلزامية ، تعتبر من زاوية دستورية وثيقة الصلة بالحق فى الدفاع، من بينها حق المتهم فى مواجهة الأدلة التى طرحتها النيابة العامة إثباتاً للجريمة ، وكذلك الحق فى هدمها بأدلة النفى التى يقدمها.
وحيث إن الأصل فى الجرائم، أنها تعكس تكويناً مركباً باعتبار أن قوامها تزامنا بين يد اتصل الإثم بعملها (an evil – doing hand) وعقل واع خالطها (an evil – meaning mind) ليهيمن عليها محدداً خطاها، متوجهاً إلى النتيجة المترتبة على نشاطها، ليكون القصد الجنائى ( mens Rea ) ركناً معنوياً فى الجريمة مكملاً لركنها المادى ( Actus Reus ) ومتلائماً مع الشخصية الفردية فى ملامحها وتوجهاتها. وهذه الإرادة الواعية ، هى التى تتطلبها الأمم المتحضرة فى مناهجها فى مجال التجريم بوصفها ركناً فى الجريمة ، وأصلاً ثابتاً كامناً فى طبيعتها، وليس أمراً فجاً أو دخيلاً مقحماً عليها أو غريباً عن خصائصها. ذلك أن حرية الإرادة تعنى حرية الاختيار بين الخير والشر، ولكل وجهة هو موليها، لتنحل الجريمة – فى معناها الحق – إلى علاقة ما بين العقوبة التى تفرضها الدولة بتشريعاتها، والإرادة التى تعتمل فيها تلك النزعة الإجرامية التى يتعين أن يكون تقويمها ورد آثارها، بديلاً عن الانتقام والثأر المحض من صاحبها.
وغدا أمراً ثابتاً – وكأصل عام – ألا يجرم الفعل مالم يكن إرادياً قائماً على الاختيار الحر. ومن ثم مقصوداً. ولئن جاز القول بأن تحديد مضمون تلك الإرادة وقوفاً على ما هيتها، لا زال أمراً عسراً، إلا أن معناها – وبوصفها ركناً معنوياً فى الجريمة – يدور بوجه عام حول النوايا الإجرامية أو الجانحة Felonious intent أو النوازع الشريرة المدبرة malice aforethought أو تلك التى يكون الخداع قوامهاFraudulent intent أو التى تتمحض عن علم بالتأثيم مقترناً بقصد اقتحام حدوده guilty knowledge لتدل جميعها على إرادة إتيان فعل بغياً.
وحيث إن هذا الأصل – وإن ظل محوراً للتجريم – إلا أن المشرع عمد أحياناً – من خلال بعض اللوائح – إلى تقرير جرائم عن أفعال لا يتصل بها قصد جنائى باعتبار أن الإثم ليس كامناً فيها، ولاتدل بذاتها على ميل إلى الشر والعدوان، mala in se inherently wrong)) ولا يختل بها قدر مرتكبها أو اعتباره، وإنما ضبطها المشرع تحديداً لمجراها، وحداً من مخاطرها، وأخرجها بذلك عن مشروعيتها mala prohibita وهى الأصل – وجعل عقوبتها متوازنة مع طبيعتها، فلا يكون أمرها غلواً من خلال تغليظها، بل هيناً فى الأعم.
وقد بدا هذا الاتجاه متصاعداً إثر الثورة الصناعية التى تزايد معها عدد العمال المعرضين لمخاطر أدواتها وآلاتها ومصادر الطاقة التى تحركها. واقترن ذلك بتعدد وسائل النقل وتباين قوتها، وبتكدس المدن وإزدحام أحيائها، وبغلبة نواحى الإخلال بالصحة العامة ، وبوجه خاص من خلال الاتصال بالمواد الغذائية سواء عند إنتاجها أو توزيعها وتداولها أو بمراعاة نوعيتها. وكان لازماً بالتالى – ولمواجهة تلك المخاطر – أن يفرض المشرع على المسئولين عن إدارة الصناعة أو التجارة وغيرهم، قيوداً كثيرة غايتها أن ينتهج المخاطبون بها سلوكاً قويماً موحداً، ببذل العناية التى يتوقعها المشرع من أوساطهم، ليكون النكول عنها – وبغض النظر عن نواياهم – دالاً على تراخى يقظتهم، ومستوجباً عقابهم.
غير أن تقرير هذا النوع من الجرائم فى ذلك المجال، ظل مرتبطاً بطبيعتها ونوعيتها، ومن حصراً فى الحدود الضيقة التى تقوم فيها علاقة مسئولية بين من يرتكبها، وخطر عام، لتكون أوثق اتصالاً برخاء المواطنين وصحتهم وسلامتهم فى مجموعهم Public Welfare Offenses وبإهمال من قارفها لنوع الرعاية التى تطلبها المشرع منه كلما باشر نشاطاً معيناً، وكذلك إذا أعرض عن القيام بعمل ألقاه عليه باعتباره واجباً، وبمراعاة أن ما توخاه المشرع من إنشائها، هو الحد من مخاطر بذواتها، بتقليل فرص وقوعها، وإنماء القدرة على السيطرة عليها، والتحوط لدرئها.
وحيث إن القصد الجنائى ، يمثل أكثر العناصر تعقيداً فى المجال الجنائى ، باعتباره متصلاً بالحالة الذهنية التى كان عليها الجانى حين أقدم مختاراً على إتيان الفعل المؤثم قانوناً، وكانت تلك الحالة أدخل إلى العوامل الشخصية التى يتعين تمييزها عن العوامل الموضوعية التى تعكس مادية الفعل أو الأفعال التى ارتكبها، والتى يكون الرجوع إليها وتقييمها كاشفاً عادة عما عناه منها، وقصد إليه من وراء مقارفتها؛ وكان من المفترض أن الجانى إذا أراد إتيان فعل أو أفعال بذواتها، فقد قصد إلى نتيجتها، فإن توافر هذا القصد – فيما أتاه الجانى من أفعال – يكون هو القاعدة العامة ، وليس الاستثناء منها، وهو استثناء لا يقوم بالضرورة ، ولا يتصور عقلاً، إذا كانت إرادة الجانى تبلور انصرافها إلى إتيان أفعال محددة بغرض إحداث نتيجة إجرامية بعينها. وإنما ينحصر هذا الاستثناء فى حدود ضيقة ، تقوم الجريمة فيها على إهمال نوع من الرعاية كان ينبغى أن يلتزمها الجانى فيما أتاه، لتكون الجريمة عندئذ عائدة فى بنيانها إلى الخطأ، وجوهرها أعمال يخالطها سوء التقدير، أوينتفى عنها الاحتراس والتبصر، أو تتمحض عن رعونة لاحذر فيها، ومن ثم أحاطها القانون الجنائى بالجزاء، محدداً ضابطها بما كان ينبغى أن يكون سلوكاً لأوساط الناس، يقوم على واجبهم فى إلتزام قدر معقول من التحوط [Ordinary reasonable persons standard of care] لتمثل الجريمة غير العمدية إنحرافاً ظاهراً عن ذلك المقياس، يتحدد بقدره، نوع الجزاء عنها، ومقداره.
A deviation from and proportional to the level of established standards of reasonable care in conduct
ومن ثم يكون الفارق بين عمدية الجريمة ، وما دونها، دائراً أصلاً – وبوجه عام – حول النتيجة الإجرامية التى أحدثتها، فكل ما أرادها الجانى وقصد إليها، موجهاً جهده لتحقيقها، كانت الجريمة عمدية . فإن لم يقصد إلى إحداثها، بأن كان لا يتوقعها، أوساء تقديره بشأنها، فلم يتحوط لدفعها ليحول دون بلوغها، فإن الجريمة تكون غير عمدية يتولى المشرع دون غيره بيان عناصر الخطأ التى تكونها، وهى عناصر لا يجوز افتراضها أو إنتحالها، ولانسبتها لغير من ارتكبها، ولا اعتباره مسئولاً عن نتائجها، إذا انفك اتصالها بالأفعال التى أتاها، ذلك أن مسئوليته الجنائية عن هذا الخطأ، مسئولية شخصية لا تقوم إلا بتوافر أركانها [pas de peine sans culpabilité]، وهى بعد مسئولية يحققها القاضى ، ويستمد عناصرها من عيون الأوراق، ليكون ثبوتها يقينياً لاظنياً، ضماناً لصون الحرية الشخصية التى كفلها الدستور، وتوكيداً لامتناع تقييدها بغير الوسائل القانونية السليمة التى لا يترخص أحد فى التحلل منها.
وحيث إن ما تقدم مؤداه: أن الجرائم غير العمدية لا تقوم إلا على الخطأ، وأن صوره على اختلافها يجمعها معيار عام يتمثل فى إنحرافها عما يعد – وفقاً للقانون الجنائى – سلوكاً معقولاً للشخص المعتاد، وأن هذه الصور على تعددها، تتباين فيما بينها سواء فى نوع المخاطر التى تقارنها، أو درجتها. ويتعين بالتالى أن يتدخل المشرع ليحدد ما يكون منها مؤثماً فى تقديره، مع بيان عناصر الخطأ فى كل منها تعريفاً بها، وقطعاً لكل جدل حول ما هيتها، توقياً لإلتباسها بغيرها، وتعييناً جلياً لما ينبغى على المخاطبين بالنصوص العقابية أن يأتوه أو يَدعَوه من أفعال، إذ لا يجوز لمثل هذه النصوص، أن تُحّمل الناس ما لا يطيقون، ولا أن تؤاخذهم بما يجهلون، ولا أن تمد إليهم بأسها وقد كانوا غير منذرين، ولا أن تنهاهم عما ألبس عليهم، وإلا قام التجريم فيها على أساس من الظن والإبهام، ليكون خداعاً أو ختالاً. وهو ما تأباه النظم العقابية جميعها، وينحدر بآدمية الإنسان إلى أدنى مستوياتها، ليغدو بغير حقوق – وعلى الأخص – فى مواجهة السلطتين التشريعية والتنفيذية .
يؤيد ذلك أمران، أولهما أن الأصل فى النصوص العقابية ، أن تصاغ فى حدود ضيقة narrowly tailored تعريفاً بالأفعال التى جرمها المشرع، وتحديداً لمضمونها، فلا يكون التجهيل بها – من خلال إنفلات عباراتها وإرهاقها بتعدد تأويلاتها – موطئاً للإخلال بحقوق كفلها الدستور للمواطنين، كتلك التى تتعلق بحرية عرض الآراء وضمان تدفقها من مصادرها المختلفة ، وكذلك بالحق فى تكامل الشخصية ، وأن يؤمن كل فرد ضد القبض أو الاعتقال غير المشروع. ولئن جاز القول بأن تقدير العقوبة ، وتقرير أحوال فرضها، مما يدخل فى إطار تنظيم الحقوق، ويندرج تحت السلطة التقديرية للمشرع، إلا أن هذه السلطة حدها قواعد الدستور، ولازمها ألا تكون النصوص العقابية شباكاً أو شراكاً يلقيها المشرع متصيداً باتساعها، أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها.
ثانيهما: أن الأصل فى الجريمة ، أن عقوبتها لا يتحمل بها إلا من أدين باعتباره مسئولاً عنها، وهى بعد عقوبة يجب أن تتوازن وطأتها مع طبيعة الجريمة موضوعها. بما مؤداه: أن الشخص لا يزر غير سوء عمله. وأن جريرة الجريمة لا يؤاخذ بها إلا جناتها، ولا ينال عقابها إلا من قارفها، وأن شخصية العقوبة وتناسبها مع الجريمة محلها مرتبطان بمن يعد قانوناً مسئولاً عن إرتكابها. ومن ثم تفترض شخصية العقوبة – التى كفلها الدستور بنص المادة (٦٦) – شخصية المسئولية الجنائية ، بما يؤكد تلازمهما. ذلك أن الشخص لايكون مسئولاً عن الجريمة ، ولا تفرض عليه عقوبتها، إلا باعتباره فاعلاً لها أو شريكاً فيها.
وحيث إن القانون الجنائى ، وإن اتفق مع غيره من القوانين، فى تنظيمها لبعض العلائق التى يرتبط بها الأفراد فيما بين بعضهم البعض، أو من خلال مجتمعهم بقصد ضبطها، إلا أن القانون الجنائى يفارقها، فى اتخاذه العقوبة أداة لتقويم ما يصدر عنهم من أفعال نهاهم عن إرتكابها، وهو بذلك يتغيا أن يحدد – ومن منظور اجتماعى – ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعياً ممكناً، بما مؤداه: أن الجزاء على أفعالهم، لا يكون مبرراً، إلا إذا كان مفيداً من وجهة اجتماعية ، فإن كان مجاوزاً تلك الحدود التى لايكون معها ضرورياً، غدا مخالفاً للدستور. متى كان ذلك، وكان الجزاء الجنائى عقاباً واقعاً بالضرورة فى إطار اجتماعى ، ومنطوياً غالباً – من خلال قوة الردع – على تقييد الحرية الشخصية ، ومقرراً لغرض محدد، استيفاء لقيم ومصالح اجتماعية لها وزنها؛ وكان الأصل فى العقوبة هو معقوليتها، فلا يكون التدخل بها الا بقدر، نأياً بها عن أن تكون إيلاماً غير مبرر، يؤكد قسوتها فى غير ضرورة unnecessary cruelty and pain؛ وكانت المادة (١٨) من القانون رقم ١٠ لسنة ١٩٦٦ بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها – والتى أحالتها محكمة الموضوع إلى
المحكمة الدستورية العليا
للفصل فى دستوريتها – تقرر جزاءً جنائياً يقوم على مجرد مخالفة أحكام المواد (٢، ١٠، ١١، ١٢، ١٤، ١٤ مكرراً) من هذا القانون، إذا كان مقارفها حسن النية ؛ وكان نطاق الدعوى الدستورية الراهنة – محدداً على ضوء الاتهام المنسوب إلى المتهم – يقوم على الطعن بعدم دستورية إيقاع عقوبة المخالفة فى شأن متهم كان حسن النية حين أخل بنص المادة الثانية من ذلك القانون، التى تحظر تداول الأغذية التى يقوم الدليل على غشها، أو عدم صلاحية إستهلاكها آدمياً، أو مخالفتها لمواصفاتها المحددة قانوناً، سواء عند تصنيعها أو تحضيرها أو طرحها للبيع أو تخزينها أو نقلها أو تسليمها؛ وكان هذا التداول – بمختلف صوره – يتعلق بسلع شتى تتباين مصادرها، ولا يقع التعامل فيها، أو الاتصال بها، مرة واحدة ، بل تتناولها أيد عديدة ، وعلى الأخص منذ خروجها من يد منتجها أو جالبها، إلى أن تصل إلى عارضها الأخير، وبافتراض خضوعها لنظم الفحص والرقابة التى تباشرها الجهات الحكومية ذات الاختصاص، وعلى الأقل داخل مصادر إنتاجها المحلية ، أو قبل تجاوزها الدائرة الجمركية حال جلبها؛ وكان النص المطعون فيه – إخلالاً بنص المادة الثانية من القانون رقم ١٠ لسنة ١٩٦٦ بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها، وكانت عبارة حسن النية وإن جاز القول بتعدد معانيها، تبعاًٍ لموقعها من سياق النصوص القانونية التى انتظمتها، وبمراعاة ما تغياه المشرع من هذه النصوص، محدداً – من خلال أغراضها – إطاراً للدائرة التى تعمل فيها، الا أن حسن نية من يتداولون أغذية الإنسان، يفترض تعاملهم فيها، أو اتصالهم بها، بوصفهم مواطنين شرفاء، يتقيدون بأصول مهنتهم ويلتزمون بمتطلباتها.
وحيث إن العقوبة التى فرضها النص المطعون فيه كجزاء على الأفعال التى أثمها، هى عقوبة المخالفة . وإنحدارها على هذا النحو، يفيد تعلقها بأفعال لايتعمدها مرتكبها، ولا تصل خطورتها إلى حد الإيغال فى الجزاء عليها، ليكون قوامها خطأ اتخذ من مفهوم الجريمة غير العمدية ، إطاراً.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان ركن الخطأ فى الجرائم غير العمدية ، ليس إلافعلاً أو امتناعاً يمثل إنحرافاً عما يُعد وفقاً للقانون الجنائى سلوكاً معقولاً للشخص المعتاد؛ وكان تحديد مضمون الأفعال أو مظاهر الامتناع التى تقوم عليها هذه الجرائم، من خلال بيان عناصر الخطأ، بما ينفى التجهيل بها، ضرورة يقتضيها اتصال هذا التجريم بالحرية الشخصية التى اعتبرها الدستور من الحقوق الطبيعية التى لايجوز النزول عنها أو الإخلال بها؛ وكان النص المطعون فيه قد قرر جزاءً جنائياً فى شأن متهم حسن النية – بالمفهوم السالف البيان – وعن صور من الخطأ قَصَرُ عن تعيينها من خلال تحديد عناصرها؛ فإن هذا النص يكون قد أخل بالحرية الشخصية ، وبضمانة الدفاع، وكذلك بالضوابط الجوهرية التى تقوم عليها المحاكمة المنصفة ، ويندرج تحتها افتراض البراءة ، وجاء بذلك مخالفاً لأحكام المواد (٤١، ٦٧، ٦٩) من الدستور
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة (١٨) من القانون رقم ١٠ لسنة ١٩٦٦ بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها وذلك فيما تضمنته من معاقبة من يخالف أحكام المادة الثانية من هذا القانون بعقوبة المخالفة إذا كان حسن النية . وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة .