حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ١٤ لسنة ١٦ دستورية

حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ١٤ لسنة ١٦ دستورية
تاريخ النشر : ٢٧ – ٠٦ – ١٩٩٦

منطوق الحكم : رفض دستورية

مضمون الحكم : بشأن رفض دعوى طلب الحكم بعدم دستورية قرار وزير التأمينات رقم ٧٤ لسنة ١٩٨٨ بالتأمين على عمال المقاولات و المحاجر و الملاحات

الحكم

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة فى يوم السبت ١٥ يونيه سنة ١٩٩٦ الموافق ٢٨ المحرم سنه ١٤١٧ هـ .
برئاسة السيد المستشار الدكتور / عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
و حضور السادة المستشارين : محمد ولى الدين جلال وفاروق عبد الرحيم غنيم والدكتور / عبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين وعدلى محمود منصور ومحمد عبد القادر عبد الله
وحضور السيد المستشار الدكتور / حنفى على جبالى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / حمدى أنور صابر أمين السر
أصدرت الحكم الآتى

فى القضية المقيدة بجدول
المحكمة الدستورية العليا
برقم ١٤ لسنة ١٦ قضائية دستورية •
المقامة من

شركة كير سرفيس ليمتد
ضد
١ – السيد / رئيس الجمهورية
٢ – السيد / رئيس مجلس الوزراء
٣ – السيد / وزير التأمينات الاجتماعية
٤ – السيد / رئيس مجلس ادارة الهيئة القومية للتأمين الاجتماعى
٥ – السيد / مدير مكتب المقاولات بمنطقة وسط القاهرة للتأمينات الاجتماعية
٦ – السيد / رئيس قسم التنفيذ الإدارى بالهيئة القومية للتأمين الاجتماعى
٧ – السيد / رئيس مجلس إدارة الهيئة القومية لسكك حديد مصر
الإجراءات

بتاريخ ٢٧ مارس سنة ١٩٩٤، أودعت الشركة المدعية صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالبة الحكم بعدم دستورية قرار وزير التأمينات الاجتماعية رقم ٧٤ الصادر فى ٢٦ / ١٢ / ١٩٨٨ بشأن التأمين على عمال المقاولات والمحاجر والملاحات.
وقدمت كل من هيئة قضايا الدولة ، والهيئة القومية للتأمين الاجتماعى مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى .
وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى ، على الوجه المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة .
حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل فى أن الهيئة القومية لسكك حديد مصر، كانت قد أسندت إلى الشركة المدعية فى مناقصة عامة أعلنت عنها، عملية نظافة القطارات بحوش أبو غطاس ومحطة مصر، فأبرمت معها العقد ٩٥٣ / ٦٧ / ٢، وسددت عنها اشتراكات التأمين الاجتماعى لعما لها القائمين بهذه العملية خصماً من مستحقاتها لديها تنفيذاً لقرار وزير التأمينات الاجتماعية رقم ٧٤ لسنة ١٩٨٨ بشأن التأمين على عمال المقاولات والمحاجر والملاحات. وإذ لم تقبل الشركة هذا الخصم، فقد أقامت الدعوى رقم ٦٣٤ لسنة ١٩٩٣ مدنى كلى أمام محكمة جنوب القاهرة الإبتدائية مختصمة فيها الهيئة القومية للتأمين الاجتماعى طعناً على قرار لجنة فحص المنازعات بها، طالبة الحكم بإلزامها برد ما سبق خصمه من مستحقاتها لدى الهيئة القومية لسكك حديد مصر وفقاً لأحكام القرار رقم ٧٤ لسنة ١٩٨٨ المشار إليه.
وبجلسة ٨ / ٣ / ١٩٩٤ دفع الحاضر عن الشركة المدعية بعدم دستورية هذا القرار، وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع، فقد أجلت نظر الدعوى إلى جلسة ٢٩ / ٣ / ١٩٩٤، لتقدم الشركة المدعية ما يفيد إقامة الدعوى الدستورية ، فأقامتها.
وحيث إن الشركة المدعية تقول بمخالفة القرار رقم ٧٤ لسنة ١٩٨٨ المطعون فيه للدستور من وجوه متعددة أولها: أنه انتزع عمال المقاولات من نطاق تطبيق قانون التأمين الاجتماعى الصادر بالقانون رقم ٧٩ لسنة ١٩٧٥، وأحالهم إلى نظام أخر يفتقر إلى مزايا هذا القانون، وليس له به من صلة ، وهو ما يعد تجاوزاً لحدود السلطة المخولة لوزير التأمينات الاجتماعية بمقتضى نص المادة (١٤٤) من الدستور فى شأن إصدار اللوائح اللازمة لتنفيذ القانون.
ثانيهما: أن الأصل المقرر بمقتضى المادة (٤٠)من قانون التأمين الاجتماعى هو ألا يتحمل المؤمن عليه بنصيب فى نفقات التأمين إلا بناء على نص خاص، وهو مالم يرد إلا فى المواد (١٧، ٤٦، ٧٢، ٩٠) من هذا القانون. بيد أن المادة (٩٥) من القرار المطعون فيه، نقضت هذا الأصل بإلزامها المؤمن عليه أن يؤدى بنفسه نقدا حصته فى اشتراكات التأمين الاجتماعى ، مما يخل بالمساواة بين عمال المقاولات وغيرهم من المؤمن عليهم المشمولين بقانون التأمين الاجتماعى ، إذ يلتزم رب العمل وفقاً لهذا القانون، بأن يؤدى عن عمال منشأته اشتراكاتهم فى هذا التأمين شاملة حصته مضافا إليها الحصة التى يقتطعها من أجورهم، ومن شأن هذا التمييز، الإخلال بنص المادة (٤٠) من الدستور.
ثالثها: أن نظام التأمين على عمال المقاولات وفقاً للقرار المطعون فيه، لا يعدو أن يكون نظاماً لجباية الأموال لاستناده إلى أسس غير واقعية تتمثل فى اتخاذه أساساً لحساب حصة رب العمل فى اشتراكات التأمين الاجتماعى ، لا يتحدد على ضوء أجر العمالة الفعلية ، بل بواقع نسبة مئوية من القيمة الكلية للمقاولة ، ليتمحض بذلك عن فرض ضريبة لا يجوز إنشاؤها إلا بقانون.
وحيث إن المادة الثانية من قانون التأمين الاجتماعى الصادر بالقانون رقم ٧٩ لسنة ١٩٧٥، لم تشترط لسريان أحكامه على عمال المقاولات – كما اشترطت بالنسبة إلى غيرهم من الخاضعين لقانون العمل – أن تكون علاقتهم برب العمل علاقة منتظمة ، بل استثنتهم من هذا الشرط تقديراً من المشرع بأن ما يغلب على علاقتهم بأرباب العمل فى نطاق المقاولات، هو عدم انتظامها، وما إسباغ نظام التأمين الاجتماعى عليهم إلا إنفاذاً لنص المادة (١٧) من الدستور التى تكفل للمواطنين جميعاً خدمات التأمين الاجتماعى والصحى ، ومعاشات العجز عن العمل والبطالة والشيخوخة .
وحيث إن البين من قرار وزير التأمينات الاجتماعية رقم ٧٤ لسنة ١٩٨٨ بشأن التأمين على عمال المقاولات والمحاجر والملاحات، أنه يقضى فى مادته الأولى بأن تسرى أحكامه على العمال الموضحة مهنهم فى الجدول رقم (١) المرفق، ومن بينهم عمال المقاولات الذين يرتبط عملهم بعمليات المقاولات، أياً كانت مدة العمل.
وبمقتضى مادته الثالثة ، يكون حساب الأجور التى يتم على أساسها حساب حصة صاحب العمل فى اشتراكات التأمين الاجتماعى فى العمليات التى يتم التعاقد عليها اعتباراً من تاريخ العمل بهذا القرار، على أساس نسبة مئوية من القيمة الكلية للمقاولة تتحدد وفقاً للجدول رقم (٣) المرفق، وبمراعاة أنه فى حالة إسناد بعض عمليات المقاولة إلى مقاولين من الباطن، تخصم قيمة الاشتراكات المستحقة عن هذه العمليات من قيمة الاشتراكات المستحقة عن المقاولة ، فإذا أسندت جميع عمليات المقاولة إلى مقاولين من الباطن تعين ألا تقل الاشتراكات المستحقة عن مجموع العمليات الداخلة فى المقاولة عن قيمة الاشتراكات المستحقة على القيمة الكلية للمقاولة . ووفقاً لمادته الرابعة يعتد بالترخيص الصادر من الجهة المختصة أو العقد أو أمر التشغيل أو المقايسات المعتمدة بحسب الأحوال فى تحديد الوعاء الذى تحسب على أساسه الأجور التى يتم على أساسها حساب حصة صاحب العمل فى الاشتراكات، ويراجع هذا التحديد على ختامى الأعمال، وتوجب مادته الحادية عشرة على المقاول إخطار مكتب الهيئة المختص الذى يقع فى دائرته محل المقاولة ، عن كل مقاولة يقوم بتنفيذها قبل البدء فى التنفيذ، وكذلك بكل تغيير يطرأ على حجم المقاولة .
وعملاً بمادته الخامسة عشرة ، لا تسرى أحكام هذا القرار فى شأن العمليات التى حددتها ويندرج تحتها العمليات التى ترى اللجنة المنصوص عليها فى المادة (١٩)، أنها بحسب طبيعتها وحجمها، يتم تنفيذها بالعمالة الدائمة لصاحب العمل.
كما ناط هذا القرار باللجنة الفنية لأعمال المقاولات والمحاجر والملاحات المنصوص عليها فى المادة (١٩)، مباشرة الاختصاصات التى نص عليها فى مادته العشرين، ومن بينها البت فى العمليات التى يثور بشأنها خلاف. وتعتبر اللجنة بالنسبة للعمليات التى يكون فيها الخلاف بين الهيئة وأصحاب الشأن، لجنة فض المنازعات المنصوص عليها فى المادة (١٥٧) من قانون التأمين الاجتماعى .
وحيث إن شرط المصلحة الشخصية المباشرة ، يتغيا أن تفصل
المحكمة الدستورية العليا
فى الخصومة الدستورية من جوانبها العملية ، وليس من معطياتها النظرية ، أو تصوراتها المجردة ، وهو لذلك يقيد تدخلها فى تلك الخصومة القضائية ، ويرسم تخوم ولايتها، فلا تمتد لغير المطاعن التى يؤثر الحكم بصحتها أو بطلانها على النزاع الموضوعى ، مؤداه: ألا تقبل الخصومة الدستورية من غير الأشخاص الذين يمسهم الضرر من جراء سريان النص المطعون فيه عليهم، سواء أكان هذا الضرر وشيكاً يتهددهم، أم كان قد وقع فعلاً. فإذا لم يكن هذا النص قد طبق أصلاً على من ادعى مخالفته للدستور، أو كان من غير المخاطبين بأحكامه، أو كان قد أفاد من مزاياه، أو كان الإخلال بالحقوق التى يدعيها لا يعود إليه، دل ذلك على انتفاء المصلحة الشخصية المباشرة ، ذلك أن إبطال النص التشريعى فى هذه الصور جميعها، لن يحقق للمدعى أية فائدة عملية يمكن أن يتغير بها مركزه القانونى بعد الفصل فى الدعوى الدستورية عما كان عليه عند رفعها.
ولا يتصور بالتالى أن تكون الدعوى الدستورية أداة يعبر المتداعون من خلالها عن آرائهم، أو نافذة يعرضون من خلالها ألواناً من الصراع بعيداً عن مصالحهم الشخصية المباشرة ، أو شكلاً للحوار حول حقائق علمية يطرحونها لإثباتها أو نفيها، بل تباشر
المحكمة الدستورية العليا
ولايتها – التى كثيراً ما تؤثر فى حياة الأفراد وحرياتهم وأموالهم – بما يكفل فاعليتها. وشرط ذلك إعمالها عن بصر وبصيرة ، فلا تقبل عليها اندفاعاً، ولا تعرض عنها تراخيا، ولا تقتحم بممارستها حدوداً تقع فى دائرة عمل السلطتين التشريعية والتنفيذية ، بل يجب أن تكون رقابتها ملاذاً أخيراً ونهائياً، وأن تدور وجوداً وعدماً مع تلك الأضرار التى تستقل بعناصرها، ويكون ممكناً إدراكها، لتكون لها ذاتيتها، ومن ثم يخرج من نطاقها ما يكون من الضرر متوهماً أو منتحلاً أو مجرداً in abstracto أو يقوم على الافتراض.
ولايجوز بالتالى أن يقيم المدعى دعواه الدستورية ، ليصون بها – وكأصل عام – حقوق الآخرين ومصالحهم، بل ليكفل من خلالها إنفاذ تلك الحقوق التى تعود عليه فائدة حمايتها in concreto .
وإلتزاماً بهذا الإطار، جرى قضاء
المحكمة الدستورية العليا
، على أن المصلحة الشخصية المباشرة شرط لقبول الدعوى الدستورية ، وأن مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة فى الدعوى الموضوعية ، وذلك بأن يكون الحكم فى المسائل الدستورية لازماً للفصل فى النزاع الموضوعى .
وحيث إن الأصل فى النصوص القانونية التى تنتظمها وحدة الموضوع، هو امتناع فصلها عن بعضها، باعتبار أنها تكون فيما بينها وحدة عضوية تتكامل أجزاؤها، وتتضافر معانيها، وتتحد توجهاتها، ليكون نسيجاً متآلفاً؛ وكانت المادة الثالثة من القرار رقم ٧٤ لسنة ١٩٨٨ المطعون فيه التى تبين قواعد حساب الأجور التى يتم على أساسها حساب حصة صاحب العمل فى اشتراكات التأمين الاجتماعى فى شأن المقاولات التى أخضعها هذا القرار لأحكامه، تكملها مادته الرابعة التى تتعلق بالوعاء الذى تحسب على أساسه هذه الأجور، فان أحكام هاتين المادتين ترتبطان فيما بينهما ارتباطاً لا يقبل التجزئة ، ليدور طعن المدعية – وقد تناول هذه الأحكام ذاتها متوخياً هدمها – فى فلكها، ولتقوم بتحديها مصلحتها الشخصية المباشرة ، ذلك أن تقرير صحتها أو بطلانها يؤثر بالضرورة فى النزاع الموضوعى القائم على عدم استحقاق الهيئة القومية للتأمين الاجتماعى لحصة المقاول التى اقتضتها جبراً إعمالاً من جانبها لأحكام القرار رقم ٧٤ لسنة ١٩٨٨ المطعون فيه.
ولا كذلك نص المادة (٩) من هذا القرار التى لا تتعلق بالحصة التى يؤديها المقاول فى اشتراكات التأمين الاجتماعى ، بل مدارها تلك التى يدفعها المؤمن عليه مباشرة إلى الهيئة القومية للتأمين الاجتماعى ، وهو مايعنى أن إبطالها لن يحقق للمدعية – وباعتبارها رب عمل – أية فائدة عملية يمكن أن يتغير بها مركزها القانونى بعد الفصل فى الدعوى الدستورية ، عما كان عليه عند رفعها، مما يقتضى الحكم بعدم قبول الطعن بالنسبة إليها فى هذا الشق من دعواها.
ولا محل بالتالى للفصل فى التعارض المدعى به بين حكمها ونص المادة الرابعة من قانون التأمين الاجتماعى . فضلاً عن أن الرقابة القضائية التى تباشرها
المحكمة الدستورية العليا
فى شأن دستورية القوانين واللوائح، مناطها قيام تعارض بين نص قانونى وحكم فى الدستور، ولا شأن لها بالتناقض بين نصين قانونيين، سواء جمعه ما قانون واحد أم تفرقا بين قانونين مختلفين، أم كان واقعاً بين تشريعين من مرتبتين مختلفتين.
وحيث إن ما تذهب إليه المدعية من أن القرار المطعون فيه جاوز حدود السلطة المخولة لوزير التأمينات فى إصدار اللوائح اللازمة لتنفيذ قانون التأمين الاجتماعى ، مردود بأن الأصل فى هذه اللوائح التى تصدر وفقاً لنص المادة (١٤٤) من الدستور، أنها تفصل ما ورد إجما لاً فى نصوص القانون بما ليس فيه تعديل أو تعطيل لها أو إعفاء من تنفيذها، وإذ تقضى الفقرة الأخيرة من المادة (١٢٥) من قانون التأمين الاجتماعى الصادر بالقانون رقم ٧٩ لسنة ١٩٧٥ بأنه ومع عدم الإخلال بالحد الأدنى لأجر الاشتراك الاساسى ، يكون لوزير التأمينات الاجتماعية بقرار يصدره بناء على اقتراح مجلس الإدارة ، أن يحدد أجر الاشتراك بالنسبة لبعض فئات المؤمن عليهم وطريقة حساب هذا الأجر وطريقة حساب الاشتراكات، وتاريخ بدء انتفاعهم بنظام المكافأة وكان القرار المطعون فيه قد صدر عن الوزير المختص فى شأن فئة من المؤمن عليهم، هم عمال المقاولات، مفصلاً – بالأحكام التى تضمنها – ما ورد إجمالاً بنص المادة (١٢٥) من قانون التأمين الاجتماعى ، فإن هذا القرار يتمحض تنظيماً لائحياً صدر فى الحدود التى رسمتها المادة (١٤٤) من الدستور فى شأن اللوائح اللازمة لتنفيذ القانون.
حيث إن المدعية ، تنعى على القرار المطعون فيه – محدداً نطاقاً على ضوء أحكام مادتيه الثالثة والرابعة المرتبطتين ببعضهما على ما تقدم – إهداره للمادتين (١٧، ١١٩) من الدستور، تأسيساً عن أن الاشتراكات التى تقتضيها الهيئة القومية للتأمين الاجتماعى من المقاولين، لا تقدر وفق الأجور الفعلية لعما لهم، بل على أساس نسبة مئوية من القيمة الإجمالية لمجموع العمليات الداخلة فى المقاولة ، بعد استبعاد بعض العناصر منها، وليس ذلك من المشرع إلا تقديراًً جزافياً لا يقوم على أسس واقعية ، ينحل إلى ضريبة تم فرضها بغير قانون يبين أحكامها، لتظهر خصائص الجباية فى النصين المطعون عليهما اللذين توخيا مجرد إنماء الموارد المالية للدولة ، دون خدمات تأمينية تؤديها لعمال المقاولات المؤمن عليهم، حال أن التأمين الاجتماعى ، لا يعدو أن يكون خدمة تلتزم الدولة بكفالتها.
وحيث إن هذا النعى مردود أولاً: بأن عمال المقاولات يمثلون فى الأعم من الأحوال، عمالة غير منتظمة ، ويخضعون غالباً لشروط رب العمل مهما بلغ من تحيفها وعنتها، وهم يقبلونها عادة صاغرين ضماناً لقوتهم، فلا يهيمون على وجوههم مشردين، لينتفى التوازن بينهم وبين أرباب عملهم، فلا تحكم علاقاتهم بهم مساواة اقتصادية يساومون على شروط العمل من خلالها.
ويزداد الأمر دقة مع وجود فائض للعمالة يكون فيه عرضها مجاوزاً طلبها، وكذلك فى غيبة تنظيم نقابى يناضل – عن طريق الضغوط التى يفرضها – من أجل صون حقوق العمال المنضمين إليه. هذا فضلاً عن أن المقاولين يمارون فى شأن حقيقة الأجور التى يتقاضاها عما لهم باعتبار أن مصلحتهم ينافيها أن يقدموا للهيئة التى تقوم على شئون التأمين الاجتماعى ، بياناً دقيقاً بتكلفة العمل، ذلك أن أعباءهم التأمينية تتحدد على ضوء حصتهم التى يدفعونها إليها. وخفضها إلى أدنى حد ممكن، بل والتحايل على التخلص منها، يَحْمِلهم على الإخلال بوعائها سواء من خلال التقرير بأجور أقل من تلك التى يدفعونها فعلاً للعمال الذين تعاقدوا معهم على تنفيذ المقاولة ، أو بإخفاء حقائق بدئها وانتهائها، أو عن طريق الإيهام بأن المقاولة لا تقتضى إلا عدداً من العمال أقل من هؤلاء الذين قاموا عملاً بتنفيذها، ليكون إلباس الحقيقة غير ثوبها محوراً لبياناتهم، مما يناقض مصالح العمال، ويحول دون انتفاعهم بالخدمات التأمينية التى كان يجب تقديمها إليهم سواء فى أصلها أو نطاقها.
ولم يكن أمام المشرع إزاء التجهيل بأجور عمال المقاولة ، والتحايل لإخفائها، أو تقرير غير حقيقتها مع انتفاء الوسائل العملية التى يمكن بها رصدها بلا زيادة أو نقصان – إلا ان يتدخل بالأحكام المطعون عليها ليحدد على ضوئها وبصورة واقعية – ومن خلال الأسس التى تبناها – الحصة التى يلتزم المقاول – بصفته رباً للعمل – بتقديمها إلى الهيئة التى ترعى شئون العمال فى مجال التأمين الاجتماعى ، وهو ما يقع فى نطاق السلطة التقديرية للمشرع التى تقوم – فى جوهرها – على المفاضلة بين البدائل المختلفة التى تتزاحم فيما بينها على تنظيم موضوع معين لاختيار ما يكون – فى تقديره – أنسبها لمصلحة الجماعة وأقربها للوفاء بمتطلباتها بافتراض مشروعيتها جميعاً واتصالها بالحقوق محل التنظيم.
يؤيد ذلك أن القيمة الكلية لأجور عمال المقاولة – التى تتحدد على ضوئها حصة من يستخدمونهم من المقاولين فى التأمين الاجتماعى – يتعذر ضبطها بما لا يحور من حقيقتها، وإذ كان المقاولون – فى أغلبهم – لا يعنيهم إيفاء حصتهم هذه، بل يحرصون على إجهاض وعائها ببياناتهم الصورية أو التى يخالطها التدليس، فقد كان منطقياً أن يرد المشرع سعيهم عليهم من خلال اعتناق معيار مرن يكون مؤشراً صادقاً على مقدار الأجور التى يتقاضاها هؤلاء العمال، فاعتد بالقيمة الكلية للمقاولة ، مستقطعاً جزءاً منها يكون معبراً عن الحد الأدنى لأجور العمال الذين قاموا بتنفيذها، واعتبرها وعاء محدداً للمقاولين حصتهم فى التأمين الاجتماعى .
ومردود ثانياً: بأن واقعية التقدير التشريعى للقيمة الإجمالية لأجور العمالة ، يثبتها انتفاء الدليل على المغالاة فيها، ويؤكدها أن القيمة الكلية للمقاولة لا تتحدد اعتسافاً، بل وفق أسس موضوعية تتمثل فى الوثائق الكاشفة عنها، وهى الترخيص الصادر عن الجهة المختصة أو العقد أو أمر التشغيل أو المقايسات المعتمدة ، على أن تتم مراجعتها على ضوء ختامى الأعمال كى لا يدخل فيها إلا ما تم تنفيذه فعلاً منها.
كذلك فإن موضوعية هذا التقدير يشهد عليها ما ينص عليه البند (١) من المادة الثالثة من القرار المطعون فيه التى تقضى بأنه فى حالة إسناد بعض عمليات المقاولة إلى مقاولين من الباطن، تخصم الاشتراكات المستحقة عن هذه العمليات من قيمة الاشتراكات المستحقة عن المقاولة . وليس لهذا القرار من شأن – وعلى ما تنص عليه المادة (٥١) – بالعمليات التى يقوم الدليل من طبيعتها وحجمها على أن تنفيذها تم بالعمالة الدائمة للمقاول.
ومردود ثالثاً: بأن الفصل فى النزاع حول القيمة الكلية للمقاولة إذا ثار الخلاف حول حقيقتها فيما بين أرباب الأعمال والهيئة القومية للتأمين الاجتماعى ، موكول إلى اللجنة الفنية لأعمال المقاولات المنصوص عليها فى المادة (١٩) من القرار المطعون فيه. ومن المفترض أن تمحص هذه اللجنة – التى عاملها المشرع بوصفها لجنة فض المنازعات المنصوص عليها فى المادة (١٥٧) من قانون التأمين الاجتماعى – الأسس التى قام عليها ذلك التقدير، فلا تعتد بالقيمة الكلية للمقاولة على إطلاقها، بل يتعين أن تستبعد منها العمليات التى لا دخل للقوة العاملة فى إحداثها أو تكوينها، كقيمة المعدات والتوريدات المصنعة بالكامل وسابقة التجهيز التى تمثل جزءاً من أصول وعناصر المشروع محل المقاولة ، وكذلك تكلفة الخبرة الأجنبية ، ليكون قرارها فى شأن ذلك كله، كاشفاً عن النسبة المئوية التى يتعين حقاً اقتطاعها خصماً من القيمة الكلية للمقاولة ، وهو بعد قرار يجوز الطعن فيه أمام القضاء، سواء من زاوية العناصر الواقعية التى استخلصها أو الضوابط القانونية التى طبقها.
وحيث إن تقدير حصص المقاولين فى أعباء التأمين الاجتماعى وفقاً لنص المادتين الثالثة والرابعة من القرار المطعون فيه – وهما مدار الطعن ومرماه – مبناه قاعدة موضوعية أقامها المشرع على ما يقع غالباً فى الحياة العملية ، لينقلب بها ما هو راجح عملاً إلى حقائق ثابتة لا يجوز إطراحها فى حالة بذاتها، ذلك أن المشرع وإن اعتد فى صوغ القاعدة الموضوعية بما يكون واقعاً فى أكثر الأحوال وأعمها، إلا أن هذه القاعدة تستغرق علتها، فلا يجوز معارضتها بها بعد اندماجها فيها واختفائها، بما مؤداه: أن المشرع يتقدم بتلك القاعدة مجردة عن سببها. وليس لها بالتالى أن تعود إلى الظهور من خلال التدليل على تخلفها فى حالة بذاتها. وبذلك تفارق القواعد الموضوعية القرائن القانونية التى ينشئها المشرع بمناسبة وقائع بذاتها إعفاء من إثباتها. ذلك أن القرائن القانونية – قاطعة كانت أم غير قاطعة – وإن كان مبناها ما يقع فى أكثر الأحوال وأغلبها مثلما هو الشأن فى القواعد الموضوعية – إلا أن القرائن جميعها – حتى ماكان منها قاطعا – يجوز دحضها بالإقرار واليمين باعتبار أن علتها تلازمها ولاتفارقها، بل تقوم إلى جوارها. إذ كان ذلك، وكانت المعايير التى اعتنقتها المادتان الثالثة والرابعة من القرار المطعون فيه لتحديد حصص المقاولين فى أعباء التأمين الاجتماعى ، لا شأن لها بالقرائن القانونية ، بل مردها إلى قاعدة موضوعية مستعصية على الجدل، ولا يناقض مضمونها حكما فى الدستور، فإن هذه المعايير تظل مع مرونتها، مؤكدة لقاعدة ثابتة لايجوز هدمها، ولو قام الدليل على تخلفها فى حالة بذاتها.
وحيث إن الدستور وإن حرص على دعم التأمين الاجتماعى حين ناط بالدولة مد خدماتها فى هذا المجال إلى المواطنين فى الحدود التى يبينها القانون، وذلك من خلال تقرير ما يعينهم على مواجهة بطالتهم أو عجزهم عن العمل أو شيخوختهم، فذلك لأن مظلة التأمين الاجتماعى – التى يحدد المشرع نطاقها – هى التى تكفل بمداها واقعاً أفضل يؤمن المواطن فى غده، وينهض بموجبات التضامن الاجتماعى الذى يقوم عليها المجتمع وفقاً لنص المادة (٧) من الدستور، بما مؤداه: أن المزايا التأمينية ضرورة اجتماعية بقدر ما هى ضرورة اقتصادية . وأن غايتها أن تؤمن المشمولين بها فى مستقبل أيامهم عند تقاعدهم أو عجزهم أو مرضهم، وأن تكفل الحقوق المتفرعة عنها لأسرهم بعد وفاتهم.
وحيث إن ما ذهبت إليه المدعية من أن الحصص التى يؤديها المقاولون إلى الهيئة القومية للتأمين الاجتماعى ، تتمحض عن مزية لها، تنفرد بها، وتعود إليها وحدها غلتها، مردود بأن العمال المخاطبين بأحكام القرار المطعون فيه، مطالبون وجوباً بالانضمام إلى هذا النوع من التأمين، ويعتبرون بذلك مؤمناً عليهم يستحقون المزايا التأمينية التى كفلها هذا القرار عند سدادهم حصتهم فى اشتراكات التأمين الاجتماعى [المواد (٥، ٦، ٧، ٨) من القرار المطعون فيه] وليس إسهام المقاول مع المؤمن عليه فى أعباء هذا التأمين، إلا ضماناً للحقوق التأمينية التى يستأديها العمال من خلال توفير مصادر تمويلها، وعلى تقدير أن الحصص التى يقدمها المقاولون إلى الهيئة القومية للتأمين الاجتماعى ، تعتبر بديلاً عن إلتزاماتهم القانونية قبل عما لهم كلما قام سببها بتحقق الخطر المؤمن منه، سواء كان ذلك أثناء خدمتهم أو انتهائها.
وحيث إن القرار المطعون فيه قد توخى حمل المقاولين على الإسهام فى المزايا التأمينية التى ينبغى كفالتها لعما لهم، فلا يستغلهم هؤلاء إنحرافاً بحجبها عنهم بهتاناً، أو الانتقاص منها عدواناً؛ وكانت الحصص التى تقتضيها الدولة من المقاولين، هى واسطتها أصلاً لإيفاء الحقوق التأمينية المقررة قانوناً لعما لهم، سواء أكان ذلك أثناء خدمتهم كالتعويض عن إصابتهم ورعايتهم طبياً، أم كان بعد انتهائها كتعويض الدفعة الواحدة ، فإن إيفاء هذه الحصص ينفصل قانوناً عن مفهوم الضريبة التى لا يجوز فرضها إلا بقانون أو فى الحدود التى يبينها بوصفها فريضة مالية تقتضيها الدولة جبراً من الملتزمين بأدائها دون أن يقابلها نفع خاص يعود عليهم من وراء دفعها. يؤيد ذلك أن المقاولين لا يؤدون حصصهم تفضلاً، بل تعود عليهم ثمارها بطريق غير مباشر، باعتبار أن غايتها النهائية ، هى أن تمتد مظلة التأمين الاجتماعى إلى هؤلاء العمال الذين قدموا إليهم من جهدهم وخبراتهم، ما أعانهم على تنفيذ المقاولة ، ومن ثم تمثل حصص المقاولين جانباً من وعاء توجهه الدولة – التى تقوم فى التأمين الاجتماعى بدور المؤمن – إلى المشمولين بأحكامه، لضمان انتفاعهم بالحقوق التأمينية فى الحدود التى يبينها القانون، لتغاير بذلك الضريبة سواء فى أساسها أو بالنظر إلى دوافعها. بل إنها – فى مفهومها وغايتها – أدخل إلى النظم التى تقيم التعاون بين المؤمن عليهم على أسس دقيقة تتوخى مواجهة المخاطر التى يتعرضون لها، وتوقى أضرارها، من خلال توزيعها أو تشتيتها، وهى فى نطاق الطعن الماثل مخاطر لا يجوز إعفاء المقاولين من بعض تبعاتها، بل يكون تحملهم بها قبل عما لهم لازماً قانوناً، باعتبار أن تغطيتها أكفل لأمنهم وأدعى لاستقرارهم.
وحيث إنه متى كان ذلك، وكان النصان المطعون عليهما لا يتعارضان مع حكم الدستور من أوجه أخرى .
فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة برفض الدعوى وبمصادرة الكفالة ، وألزمت المدعى المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة .

زر الذهاب إلى الأعلى