حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ١٢ لسنة ١٣ دستورية
حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ١٢ لسنة ١٣ دستورية
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة في يوم السبت ٧ نوفمبر سنة ١٩٩٢ الموافق ١٢ جمادي الاولي سنة ١٤١٣ هــ .
برئاسة السيد المستشار الدكتور / عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين : الدكتور / محمد إبراهيم أبو العينين ومحمد ولى الدين جلال وفاروق عبد الرحيم غنيم وسامى فرج يوسف والدكتور / عبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين اعضاء
وحضور السيد المستشار / محمد خيرى طه عبد المطلب رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / رأفت محمد عبد الواحد أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيده بجدول
المحكمة الدستورية العليا
رقم ١٢ لسنة ١٣ قضائية دستورية
المقامة من
السيد / احمد السيد احمد شبانة
ضد
١ – السيد / رئيس الوزراء
٢ – السيد / وزير التموين والتجارة الداخلية
الإجراءات
بتاريخ ٢٣ يناير سنة ١٩٩١، أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالباً الحكم بعدم دستورية قرار وزير التموين والتجارة الداخلية رقم ٢٣٨ لسنة ١٩٨٦.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة ، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى .
وبعد تحضير الدعوى ، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة .
حيث إن الوقائع –على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل فى أن النيابة العامة قدمت المدعى – وآخرين – إلى المحاكمة الجنائية أمام محكمة أمن الدولة طوارئ بالإسكندرية فى قضية الجنحة رقم ٢٩٩ لسنة ١٩٩٠ الرمل بوصف أنهم فى يوم ٢٢ / ٢ / ١٩٩٠ بدائرة قسم الرمل حازوا بقصد الاتجار الياميش المبين بالمحضر (كمبوت) وطلبت عقابهم بمواد المرسوم بقانون رقم ٩٥ لسنة ١٩٤٥ الخاص بشئون التموين، والمادتين الأولى والثالثة من قرار وزير التموين والتجارة الداخلية رقم ٢٣٨ لسنة ١٩٨٦ بحظر تداول الياميش المستورد. دفع المدعى بعدم دستورية القرار المشار إليه، وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية الدفع، فقد صرحت للمدعى باتخاذ إجراءات الطعن بعدم الدستورية ، فأقام الدعوى الماثلة طالباً الحكم بعدم دستورية قرار وزير التموين والتجارة الداخلية رقم ٢٣٨ لسنة ١٩٨٦ – المشار إليه – بمقولة مخالفته أحكام المواد (٢، ٤، ٤٠) من الدستور.
وحيث إن المادة الأولى من المرسوم بقانون رقم ٩٥ لسنة ١٩٤٥ الخاص بشئون التموين قد خولت وزير التموين لضمان تموين البلاد بالمواد الغذائية وغيرها، ولتحقيق العدالة فى توزيعها، أن يتخذ بقرارات يصدرها – بموافقة لجنة التموين العليا – كل أو بعض التدابير التى حددتها هذه المادة، ويندرج تحتها فرض قيود على إنتاج أية سلعة أو تداولها أو استهلاكها بما فى ذلك توزيعها، وكذلك على نقلها من جهة إلى أخرى . ونصت الفقرة الرابعة من المادة (٥٦) على أن يعاقب بالعقوبات المنصوص عليها فى هذه المادة على مخالفة أحكام قرارات وزير التموين والتجارة الداخلية الصادرة تنفيذاً لهذا القانون، ويجوز أن ينص فى تلك القرارات على عقوبات أقل…..
وحيث إن البين من النصوص المتقدمة أن المشرع عهد إلى وزير التموين إتخاذ كل أو بعض التدابير التى نص عليها لضمان توفير المواد التموينية، ولتحقيق العدالة فى توزيعها، وخوله – فى نطاق هذه التدابير – أن يقرر عقوبة على مخالفتها تكون أقل من تلك المنصوص عليها فى المرسوم بقانون رقم ٩٥ لسنة ١٩٤٥ المشار إليه. وهذا النهج هو ما احتذاه كذلك المرسوم بقانون رقم ١٦٣ لسنة ١٩٥٠ الخاص بشئون التسعير الجبرى، إذ خول وزير التموين فى المادة الخامسة منه أن يتخذ بقرارات يصدرها التدابير المتعلقة بتعيين المقادير التى يجوز شراؤها أو تملكها أو حيازتها من أية سلعة، وبتقرير الوسائل اللازمة لتعيين مواصفاتها، ومنع التلاعب بأسعارها. كما أحال فى الفقرة الأخيرة من المادة التاسعة إلى العقوبات المنصوص عليها فى فقرتها الأولى، ونص على توقيعها على مخالفة القرارات التى يصدرها وزير التموين تنفيذاً للمادة (٥). وخول وزير التموين كذلك تقرير عقوبة أقل جزاء على مخالفة التدابير المتخذة وفقاً لها.
وحيث إنه إعمالاً للرخصة المخولة لوزير التموين فى النطاق المتقدم، أصدر هذا الوزير القرار رقم ٢٣٨ لسنة ١٩٨٦ مانعاً بموجبه تداول الياميش المستورد – بأصنافه التى عينها الجدول المرافق لهذا القرار، ومن بينها الثمار المجمدة والمحفوظة والمجففة بكافة أنواعها – وكذلك التعامل فيها أو حيازتها بقصد الإتجار، ومحيلاً فى مادته الثالثة – وكجزاء على مخالفة هذا الحظر – إلى العقوبات المنصوص عليها فى المرسوم بقانون رقم ٩٥ لسنة ١٩٤٥ الخاص بشئون التموين. متى كان ذلك، وكان إصدار وزير التموين لقراره سالف البيان، لا يتضمن مخالفة لنص المادة (٦٦) من الدستور التى تنص على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون – ذلك أن المقصود من هذا النص – وعلى ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة – توكيد ما جرى عليه العمل من تفويض السلطة التنفيذية – فى الحدود وبالشروط التى يبينها القانون – فى أن تعين بقراراتها اللائحية بعض نواحى التجريم والعقاب، ولا تعتبر القرارات التى تصدرها الجهة التى حددها المشرع لممارسة هذا الاختصاص من قبيل اللوائح التفويضية المنصوص عليها فى المادة (١٠٨) من الدستور، ولا هى من اللوائح التنفيذية التى نظمتها المادة (١٤٤) منه، وإنما مرد الأمر فيها إلى المادة (٦٦) من الدستور التى لا تتخلى السلطة التشريعية بموجبها كلية عن اختصاصاتها بتأثيم الأفعال التى يعد إرتكابها جريمة وتقرير العقوبة المناسبة لها، وإنما تعهد إلى السلطة التنفيذية بتحديد بعض جوانبها على ما تقدم، ومن ثم يكون قرار وزير التموين رقم ٢٣٨ لسنة ١٩٨٦ – المطعون فيه – صادراً فى حدود التفويض المنصوص عليه فى المادة (٦٦) من الدستور ملتزماً أحكامه مترسماً خطاه، ولا يعد تجريمه تداول بعض السلع أو التعامل فيها أو حيازتها بقصد الإتجار عملاً مخالفاً للدستور.
وحيث إنه وإن كان القرار رقم ٢٣٨ لسنة ١٩٨٦ – المشار إليه – قد صدر مستوفياً شرائط صحته الدستورية ، إلا أن مصدره ألغاه بقرار لا حق هو القرار رقم ٥٢ لسنة ١٩٩١ الذى حظر فى مادته الأولى على غير شركات المستلزمات السياحية تداول الياميش المستورد – بأصنافه المحددة بالكشف المرافق لهذا القرار – أو التعامل فيه أو حيازته بقصد الإتجار، وأجاز – من ناحية أخرى – للمنشآت الفندقية والسياحية الخاضعة لأحكام القانون رقم ١ لسنة ١٩٧٣، وكذلك المصانع التى تدخل هذه الأصناف فى منتجاتها، حيازتها بقصد التصنيع دون الإتجار، وحدد فى مادته الثانية العقوبة التى فرضها على مخالفة أحكامه، ثم أصدر وزير التموين القرار رقم ٥٧١ لسنة ١٩٩١ معدلاً بموجبه الجدول المرافق للقرار رقم ٥٢ لسنة ١٩٩١، والمتضمن بيان أنواع الياميش المستورد المحظورة تداولاً وتعاملاً وحيازة بقصد الإتجار، وأخيراً – وبتاريخ ٣٠ / ١ / ١٩٩٢ – صدر قرار وزير التموين والتجارة الداخلية رقم ٨٧ لسنة ١٩٩٢ ملغياً فى مادته الأولى القرار رقم ٥٢ لسنة ١٩٩١ وتعديله، ومقرراً فى مادته الثانية العمل به من تاريخ نشره فى الجريدة الرسمية بما مؤداه: أن الياميش المستورد – بكافة أنواعه ومختلف أصنافه – قد أضحى – ابتداء من ٣٠ / ١ / ١٩٩٢ – سلعة مباحاً تداولها والتعامل فيها وحيازتها بقصد الإتجار، ويتعين بالتالى تطبيقه على الواقعة محل الاتهام الجنائى الماثل باعتباره أصلح للمتهم، ذلك أن الدستور وان نص فى المادة (٦٦) منه على أنه لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون الذى ينص عليها مقرراً بموجبها قاعدة عدم رجعية القوانين العقابية ، ومؤكداً كذلك هذه القاعدة بما قررته المادة (١٨٧) منه من أن الأصل فى أحكام القانون هو سريانها من تاريخ العمل بها وعدم جواز إعمال أثرها فيما وقع قبلها، وأنه لا خروج على هذا الأصل إلا بنص خاص، وفى غير المواد الجنائية، وبموافقة أغلبية أعضاء السلطة التشريعية فى مجموعهم وذلك توقياً لتقرير عقوبة على فعل كان مباحاً حين ارتكابه، أو تغليظها على فعل كانت عقوبته أخف، وكان مبدأ عدم رجعية القوانين العقابية يقيد السلطة التشريعية إعمالاً لمبدأ شرعية الجريمة والعقوبة ، وصوناً للحرية الشخصية بما يرد كل عدوان عليها، إلا أن هذا المبدأ لا يعمل منفرداً، بل تكمله وتقوم إلى جانبه قاعدة أخرى هى رجعية القانون الأصلح للمتهم، وهى قاعدة مؤداها افادته من النصوص التى تمحو عن الفعل صفته الإجرامية أو تنزل بالعقوبة المفروضة جزاء على ارتكابه، إلى ما دونها، وهو ما قررته المادة (٥) من قانون العقوبات التى تقضى بأن يعاقب على الجرائم بمقتضى القوانين المعمول بها وقت إرتكابها. ومع ذلك إذا صدر بعد وقوع الفعل وقبل الحكم فيه نهائياً قانون أصلح للمتهم فهو الذى يتبع دون غيره. وإذا صدر قانون بعد حكم نهائى يجعل الفعل الذى حكم على المجرم من أجله غير معاقب عليه يوقف تنفيذ الحكم وتنتهى آثاره الجنائية . غير أنه فى حالة قيام إجراءات الدعوى أو صدور حكم بالإدانة فيها، وكان ذلك عن فعل وقع مخالفاً لقانون ينهى عن ارتكابه فى فترة محددة فإن انتهاء هذه الفترة لا يحول دون السير فى الدعوى أو تنفيذ العقوبة المحكوم بها.
متى كان ذلك، وكان مؤدى رجعية النصوص العقابية الأصلح للمتهم هو سريانها بأثر رجعى – ومنذ صدورها – على الجريمة التى ارتكبها من قبل، وذلك لانتفاء الفائدة الاجتماعية التى كان يرجى بلوغها من وراء تقرير العقوبة وتوقيعها عليه. ولئن كان الدستور لا يتضمن بين أحكامه مبدأ رجعية القوانين الأصلح للمتهم، إلا أن القاعدة التى يرتكز عليها هذا المبدأ تفرضها المادة (٤١) من الدستور التى تقرر أن الحرية الشخصية حق طبيعى وأنها مصونة لا تمس، ذلك أن مبدأ شرعية الجريمة والعقوبة وما اتصل به من عدم جواز تقرير رجعية النصوص العقابية، غايته حماية الحرية الفردية وصونها من العدوان عليها فى إطار من الموازنة بين موجباتها من ناحية، وما يعتبر لازماً لحماية مصلحة الجماعة والتحوط لنظامها العام من ناحية أخرى . وفى إطار هذه الموازنة وعلى ضوئها، تكون رجعية القوانين الأصلح للمتهم ضرورة حتمية يقتضيها صون الحرية الفردية بما يرد عنها كل قيد غدا تقريره مفتقراً إلى أية مصلحة اجتماعية ، ويتحقق ذلك بوجه خاص حين ينتقل القانون الجديد بالفعل كلية من منطقة التجريم إلى دائرة الإباحة، وهى الأصل، مقرراً أن ماكان مؤثماً لم يعد كذلك، وأن الفلسفة التى كان القانون القديم ينطلق منها ويعاقب على كل فعل يناقضها قد أسقطتها فلسفة جديدة اعتنقتها الجماعة فى واحد من أطوار تقدمها بما مؤداه: انتفاء الضرورة الاجتماعية الكامنة وراء انفاذ أحكامه، وحمل المخاطبين بها على الرضوخ لها، ويتعين بالتالى – وكلما صدر قانون جديد يعيد الأوضاع إلى حالها قبل التجريم – أن ترد إلى أصحابها الحرية التى كان القانون القديم ينال منها، وأن يرتد هذا القانون بالتالى على عقبية إعلاء لقيم القانون الجديد، ولا إخلال فى ذلك بالنظام العام، ذلك أن رجعية القانون الأصلح أدعى إلى تثبيته بما يحول دون انفراط عقده على تقدير أن إعما له منذ صدوره أكفل لحقوق المخاطبين بالقانون القديم وأصون لحرياتهم. إذ كان ما تقدم، وكان قرار وزير التموين والتجارة الداخلية رقم ٨٧ لسنة ١٩٩٢ قد ألغى تنظيماً سابقاً جرم أفعالاً بذاتها تتصل بالياميش المستورد هى تلك المتعلقة بتداول بعض أنواعه أو التعامل فيها أو حيازتها بقصد الإتجار، وكان التنظيم الجديد قد تقرر فى إطار اتجاه الدولة المتنامى خلال الحقبة الأخيرة إلى تحرير سياستها الإقتصادية من القيود التى كانت تحكم بها قبضتها على حرية ارتياد الأفاق الإقتصادية واقتحام مجالتها المختلفة ومن بينها التجارة الخارجية والداخلية معاً، وكان القرار المطعون فيه وما أعقبه من قرارات تدور فى فلكه أصدرها وزير التموين، وان اختلف مداها – تغليظا وتخفيفاً، شدة ويسراً على التفصيل السالف بيانه – إلا أنها جميعاً – وإلى ما قبل صدور القرار رقم ٨٧ لسنة ١٩٩٢ – كانت تعكس سياسة سابقة قوامها تدخل الدولة فى توجيه الاقتصاد القومى، إدارتها زمام الأمر فيه، وإعاقتها القطاع الخاص عن مباشرة دوره الراشد فى مجال التنمية الإقتصادية، واعراضها عن الخضوع لقوانين السوق وآلياته، وكان البين من هذه القرارات التى أثم بها وزير التموين تداول الياميش المستورد أو التعالم فيه أو حيازته بقصد الإتجار، أن تطبيقها كان غير مقيد بفترة زمنية موقوته، بل كان العمل بها ممتداً فى الزمان، وكان يمكن أن يظل نفاذها قائماً إلى غير حد لو لم تعدل الدولة عن فلسفتها الاقتصادية القديمة التى كان تبنيها مؤدياً إلى تعثر خطاها وتراجعها عن الوفاء بطموحاتها وانتكاس إرادة الأقدام التى لا بديل عنها للتقدم، إذ كان ذلك، وكان وزير التموين والتجارة الداخلية رقم ٨٧ لسنة ١٩٩٢ – المشار إليه – قد محا عن الأفعال التى أثمها القرار المطعون فيه صفتها الإجرامية وأدخلها فى دائرة الأفعال المباحة وردها بذلك إلى المشروعية ، وكان قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن المصلحة الشخصية المباشرة تعد شرطاً لقبول الدعوى الدستورية ، ومناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة فى الدعوى الموضوعية وذلك بأن يكون الحكم فى المسألة الدستورية لازماً للفصل فى الطلبات المرتبطة بها المطروحة على محكمة الموضوع.
متى كان ذلك، وكان البين مما تقدم أن الواقعة محل الاتهام الجنائى والتى كان القرار المطعون فيه قد أثمها لم تعد معاقباً عليها بعد صدور قرار وزير التموين والتجارة الداخلية رقم ٨٧ لسنة ١٩٩٢ – المشار إليه – فإن مصلحة المدعى فى الدعوى الماثلة تكون قد انتفت بعد أن غض المشرع بصره عن منهجية اقتصادية سابقة خرج القرار المطعون فيه من صلبها، الأمر الذى يتعين معه الحكم بعدم قبول الدعوى .
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم قبول الدعوى ، وبمصادرة الكفالة ، وألزمت المدعى المصروفات ومبلغ ثلاثين جنيهاً مقابل أتعاب المحاماة .