حكايات من دفتر المحاماة.. الشاعر حافظ إبراهيم

الدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

الشاعر «حافظ إبراهيم» (1872 – 1932)، واسمه كاملاً «محمد حافظ إبراهيم فهمي»، والمعروف باسم «شاعر النيل»، يعتبر من أهم وأشهر الشعراء العرب في العصر الحديث، وأحد رموز مدرسة «الإحياء والبعث» التي أعادت الازدهار للشعر العربي الحديث. وحملت قصائده الكثير من الروح الوطنية والنضال ضد الاحتلال الإنجليزي الجاثم على أرض مصر آنذاك.

 

وقد ولد «حافظ إبراهيم» في مدينة «ديروط» بمحافظة سوهاج عام 1872م، ووالده هو المهندس «إبراهيم فهمي»، وهو من المهندسين الذين أشرفوا على بناء «قناطر ديروط». ومر «حافظ» بالعديد من المراحل في حياته المليئة بالقلق وضيق العيش كونه من أسرة متوسطة الحال، بالإضافة إلى نشوئه يتيماً؛ فعندما بلغ «حافظ» من العمر أربعة أعوام توفي والده، فقامت والدته بالانتقال به إلى مدينة القاهرة، حيث كفله خاله الذي كان يعمل مهندس تنظيم، فرعاه وقام بتربيته، كما أنه أرسله للالتحاق بالكُتّاب وبعد ذلك إلى المدرسة. وقد عاش «حافظ إبراهيم» حياة مضطربة، متنقلاً بين مدارس مختلفة، حتى التحق بآخرها وهي المدرسة الخديوية.

 

وعلى إثر نقل خاله إلى بلدة طنطا، انتقل حافظ معه، ولكنه لم يلتحق بالمدرسة وهو في هذه البلدة، حيث التحق بالجامع الأحمدي بشكل غير منتظم، وحظي في هذا الجامع بالعديد من الدروس التي تشابه تلك التي تُلقى في الجامع الأزهر. وكان مما يتم مناقشته في الجامع الأحمدي بين الطلاب استعراضهم لأصحاب طرائف الشعر القديم، والمُحدث مثل «البارودي»، فأثناء ذلك لُوحظ ميل حافظ إبراهيم للشعر والأدب.

 

غير أن خاله لم يصبر على نفقته، فغادر «حافظ» بيته، تاركاً له رسالة، فيها بيتين ظريفين من الشعر:

ثقلّت عليك مؤونتي    …    إني أراها واهية

فافرح فإني ذاهب      …    متوجه في داهية

 

وهكذا، قرر حافظ أن يحاول الحصول على قوته بنفسه، فتوجه للدّخول في مهنة المحاماة، لما يملكه من طلاقة في اللسان ولباقة وفصاحة وحُجة، وكانت المحاماة آنذاك لا تتطلب في شاغلها الحصول على مؤهل دراسي معين، فعمل لدى بعض المحامين، وانتهى به الأمر إلى مكتب المحامي «محمد أبو شادي»، أحد زعماء ثورة 1919م.

 

وعلى هذا النحو، وفي مدينة طنطا، عمل «حافظ إبراهيم» بالمحاماة. غير أنه ترك مهنة المحاماة بعد أن خسر إحدى القضايا، وهدده (الموكل) بالقتل، لو رآه في طنطا، فهجر طنطا وسافر إلى القاهرة وعمره لا يتجاوز السادسة عشرة، والتحق بالمدرسة الحربية حتى تخرج منها عام 1891م، وعمل ضابطاً، قبل أن يتم فصله فيما بعد، بسبب علاقته بمحمود سامي البارودي وزعماء الثورة العربية العائدين من منفاهم، وبسبب قصيدته الوطنية التي جاء فيها:

قَد مَرَّ عامٌ يا سُعادُ وَعامُ         …     وَاِبنُ الكِنانَةِ في حِماهُ يُضامُ

صَبّوا البَلاءَ عَلى العِبادِ فَنِصفُهُم  …     يَجبي البِلادَ وَنِصفُهُم حُكّامُ

أَشكو إِلى قَصرِ الدُبارَةِ ما جَنى   …     صِدقي الوَزيرُ وَما جَبى عَلّامُ

 

وغني عن البيان أن الشاعر حافظ إبراهيم قد حفر اسمه بحروف من نور في الذاكرة الوطنية المصرية، باعتباره أحد أهم شعراء العصر الحديث. وللتدليل على ذلك، وإذا كان أحد الكتاب يعيب – بحق – على الذاكرة المصرية أنها تميل إلى الاختزال، بحيث أننا كمصريين عندما نتباهى بعظمائنا، لا تسعفنا الذاكرة سوى باسم أو باسمين في أي مجال (راجع: عبد الله عبد السلام، آفة حارتنا الاختزال!، جريدة الأهرام، عمود أفق جديد، السبت 15 من ربيع الأول 1445هــ الموافق 30 سبتمبر 2023م، السنة 148، العدد 49971)، فإن الذاكرة المصرية في مجال الشعر نجد محفوراً فيها كلاً من اسم أمير الشعراء أحمد شوقي واسم شاعر النيل حافظ إبراهيم، وقد يأتي مضافاً إليهما اسم محمود سامي البارودي.

 

ومع ذلك، ورغم شهرة الشاعر حافظ إبراهيم، فإن الغالبية الساحقة من الشعب المصري والشعوب العربية تجهل واقعة اشتغاله بالمحاماة في مقتبل حياته. وربما يعود ذلك إلى قصر المدة التي عمل فيها بهذه المهنة. ويمكن تبرير ذلك أيضاً بأن شهرته في مجال الشعر قد طغت على أي شيء آخر.

 

وتثير حكاية أو قصة الشاعر حافظ إبراهيم مع مهنة المحاماة أموراً ثلاثة؛ أولها، الارتباط بين مهنة المحاماة والفصاحة واللباقة والبيان. وثانيها، اشتراط الحصول على مؤهل جامعي في القانون للقيد بجدول المحامين، وتاريخ نشأة هذا الشرط. أما ثالثها، فهو التزام المحامي تجاه موكله، وما إذا كان التزاماً ببذل عناية أو بتحقيق نتيجة. إذ كان السبب وراء هجر حافظ إبراهيم مهنة المحاماة هو خسارته إحدى القضايا وتهديد موكله له بالقتل على إثر ذلك. ورغبة في تبسيط الأحكام القانونية من خلال الربط بينها وبين الأحداث الواقعية، نرى من المناسب إلقاء الضوء على الأمور الثلاثة سالفة الذكر، وذلك مطالب ثلاثة، على النحو التالي:

المطلب الأول: الارتباط بين المحاماة والفصاحة.

المطلب الثاني: اشتراط الحصول على مؤهل في القانون للاشتغال بمهنة المحاماة.

المطلب الثالث: التزام المحامي تجاه موكله ببذل عناية أم بتحقيق نتيجة.

 

المطلب الأول

الارتباط بين المحاماة والفصاحة

 

تلعب الفصاحة وقوة الحجة والبيان دوراً مهماً في ساحات التقاضي. وقد عبر النبي صلى عليه وسلم عن ذلك في أحد الأحاديث النبوية الشريفة. فعن أُمِّ سَلَمةَ رضي اللَّه عنها أَنَّ رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: )إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فأَقْضِي لَهُ بِنحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ( (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ).

 

ومع ذلك، ورغم العلاقة الوثيقة بين المحاماة وبين الفصاحة واللباقة، فإن المحاماة تتطلب في الوقت ذاته قدراً من العلم والدراسة القانونية. وقد أحسن النقيب الراحل رجائي عطية التعبير عن المعاني سالفة الذكر، قائلاً: «المحاماة ليست ظاهرة كلامية وحشاها أن تكون. فالكلمة وإن كانت عمادها وروحها وركازها وسنادها وسلاحها، إلا أن هذه الكلمة ليست محض حروف أو صيغ أو تراكيب، وإنما هي علم ومعرفة وبيان، وحجة وبرهان».

 

ويستطرد النقيب الراحل الكبير، قائلاً: «يحق لأي آدمي يتقن صناعة الكلمة، ويربطها بالفعل والسلوك – أن يفاخر بأنه أديب أو شاعر أو صحفي أو كاتب أو مؤلف أو حكيم أو روائي، وأن يباهي الدنيا بأنه من صناع الكلمة الموهوبين في نحتها وتركيبها ومعرفة أسرار معانيها وإيماءاتها وجَرْسِها ومعمارها، المتمكنين في التوليف وسبك مترادفاتها في صياغة تجلي المعنى وتحفظ الجرس وتستقر شحنتها في وجدان المتلقي. بيد أن الكلمة -عُدّة المحاماة – تعبير حقيقي عن رسالتها ولب القيام بأمانتها، وهي لن تحقق هذه الغاية إلا إذا كان سنادها العلم والمعرفة.

 

لم يكن صدفة أن تعانقت الكلمة والمحاماة، فبينهما علاقة حميمة وتأثير متبادل يصل حد الاندماج، كلاهما يأخذ من الأخر ويصب فيه، لذلك ظلت المحاماة على صلة دائمة لم تنقطع أبداً بالأدب والفكر والثقافة، وارتفع إلى قمة الأدب قمم في المحاماة، وسطر عمالقة المحاماة صفحات رائعة في الآداب والفكر والثقافة، حتى بات عسيراً أن ترد أحدهم إلى هذه دون تلك.. عرف الأدب والفكر الدكتور محمد حسين هيكل في زينب أول رواية مصرية وفي حياة محمد والفاروق عمر ومنزل الوحي وجان جاك روسو وغيرها، مثلما عرفته ساحات المحاكم محاميًا لامعاً ووزيراً بارعاً ورئيساً شامخاً لمجلس الشيوخ المصري.. وعرفت الحيادة الأدبية توفيق الحكيم الذي كان أول إلهاماته في عالم الأدب مستوحى من تجربته في ساحة القضاء برائعته: يوميات نائب في الأرياف، وكتابه: عدالة وفن، إلى أحر عنقود المؤلفات الأدبية والفكرية الرائعة الذي مثل به الحكيم أحد أضلاع التنوير في القرن العشرين.. وعرفت الحياة الأدبية يحيى حقي خريج الدفعة ذاتها (1925) التي تخرج فيها توفيق الحكيم، ووالدي عطية عبده، يرحمهم الله، أيام كان مسماها مدرسة الحقوق الملكية، وعاينت دوره -أقصد الأستاذ يحيى حقي- الذي امتزجت فيه رؤيته بالمحاماة وتجربته كمعاون إدارة، مع تراب مصر، وعبق تاريخها، ورحلاته الخارجية، وسياحاته في الفكر والأدب الإنساني، ليقدم مزيجاً رائعاً لأديب مفكر فذ التقت فيه هذه الروافد في عطاء متبادل: عشق الكلمة، خليها على الله، صح النوم، قنديل أم هاشم، دماء وطين، أم العواجز، وباقة من أميز ما قدم إلى المكتبة العربية في القرن العشرين.. قليلون يعرفون أن الدكتور محمد مندور أستاذ النقد والنقاد، وصاحب كتاب النقد المنهجي عند العرب وتصانيف نقد الشعر والمسرح والأدب، خريج حقوق القاهرة دفعة 1930 التي كان أولها المحامي الأشهر والمفكر والأديب والشاعر الفذ الدكتور محمد عبد الله محمد.. لا أحسب أحداً بلغ القمة التي ارتقاها محمد عبد الله محمد في صمت جليل وتواضع لافت، وقليلون اطلعوا على عالم هذا الرجل الذي قدم سوامق الفكر وروائع الأدب والأشعار.. فكما ظلمت رواية: قنديل أم هاشم، يحيى حقي، فتغولت على باقي أعماله، فإن كتاب محمد عبد الله محمد: «في جرائم النشر»، شد انتباه الجميع، فلم يعد أحد يدرك أن لهذا المحامي العالم الأديب – إلى جوار جرائم النشر وبسائط علم العقاب – كتاب فذ في «معالم التقريب»، وأشعار بالغة الإتقان والجزالة والعمق؛ قمت بجمعها له بعد لأي في ديوانه «العارف» و«الطريق».. وقليلون – بعد مضي الزمن! – من بقوا يتذكرون كيف اجتمع الأدب والمحاماة في الأفذاذ إبراهيم الهلباوي وعبد العزيز فهمي وأحمد لطفي السيد أستاذ الجيل وصاحب كتاب أرسطو ورئيس تحرير الجريدة وأول رئيس لمجمع اللغة العربية، وقاسم أمين صاحب كتابي: تحرير المرأة والمرأة الجديدة، ومصطفى مرعي وفكري أباظة ومحمد التابعي وأحمد حسين، والمحامي المؤرخ عبد الرحمن الرافعي، وفتحي رضوان وغيرهم من حبات هذا العقد الذين ازدانت بهم صفحات الفكر والأدب مثلما ازدانت صفحات المحاماة!

 

ويبدو أن فنون المرافعات، الشفوية والمكتوبة، هي التي «أقامت صلة متينة» بين الأدب والمحاماة، فجوهر المحاماة أنها رسالة إقناع.. شحنة من الحجج والبراهين، يعرضها المحامي على قضاته.. شفاهةً في الأصل، وكتابةً إذا لزم الأمر (راجع: النقيب رجائي عطية، المحاماة كما يجب أن تكون، مجلة المحاماة، 2021م، العدد الأول، مايو 2021م، افتتاحية العدد).

 

المطلب الثاني

اشتراط الحصول على مؤهل في القانون للاشتغال بمهنة المحاماة

 

ترجع نشأة مهنة المحاماة إلى عهد سحيق في التاريخ. إذ يذكر المؤرخون أن المصريين القدماء قد عرفوا هذه المهنة منذ العام 2778 قبل الميلاد، حيث وجدت جماعة من أهل العلم ممن يقومون بإسداء المشورة والنصيحة للمتخاصمين. كذلك، عرف السومريون القدماء هذه المهنة. وفي عهد حمورابي، وتحديداً في العام 1750 قبل الميلاد، كان لكل خصم في خصومة مدنية أو جنائية حق توكيل غيره للمطالبة بحقه، أو للمطالبة ببراءته. ويرجع أول استعمال لمصطلح (advocatus)، بمعنى «من يستنجد به الناس»، إلى زمن «سيشرون»، وكان مضمونه (صديق يساعد المتهم بالحضور معه أثناء إجراءات محاكمته)، وأصبح يستخدم هذا الاصطلاح بمعناه الحديث «المحامي» في عصر الإمبراطورية الإغريقية الأولى. ويرجع إنشاء أول نقابة إلى عهد «جوستنيان»، وذلك لتمييز الوكلاء بنوعيهم «الوكيل المدني والوكيل بالعمولة» عن الصناع والتجار، وكان لهم حق تكوين رابطة مهنية خاصة، ولم يكن المحامون يؤدون قسم المهنة. ويرجع أول تنظيم لمهنة المحاماة في البلاد الإسلامية إلى العام 1292 هجرية الموافق سنة 1876 ميلادية، حيث أصدرت الدولة العثمانية «نظام وكلاء الدعاوى».

 

وإذا أردنا أن نقصر حديثنا على الدولة المصرية في العصر الحديث، يمكن القول إن مهنة المحاماة مرت بمراحل تاريخية ترتبط ارتباطاً وثيقا بوجودها، وتعددت هذه المراحل بتنوع الظروف والملابسات التاريخية والاجتماعية على مدار السنوات الطوال في عمر هذه المهنة العريقة. فقد ظهرت مهنة المحاماة في شكلها الحديث سنة 1884م، تحت اسم «مهنة الوكلاء»، وصدرت حينها لائحة لتنظيم المرافعات أمام المحاكم، والشروط التي يجب أن يتمتع بها المترافعون (المحامون). وفي السنة ذاتها، وتحديداً في الثالث من شهر مايو سنة 1884م، وضعت محكمة الاستئناف قيوداً على قبول الوكلاء في المرافعة، مقررة أنه يجب على من يرغب أن يُقبل بصفة وكيل في المرافعة أمام المحاكم الاهلية «أن يرفق بطلبه شهادة تدل على حسن سيره، وأنه خال من السوابق». ولم يشترط القرار أن يكون لديه كفاءة علمية، بل أباح لمن يجهلون اللغة العربية، المرافعة مستعينين في ذلك بشخص آخر عارف باللغة المذكورة، ويكون ذلك بحضورهم. ولهذا السبب، أي سهولة احتراف المحاماة، تسلل إلى المحاكم الأهلية عدد ممن ليسوا من أهلها، وذلك خلافاً لما عليه الحال في المحاكم المختلطة، والتي وضعت قيوداً صارمة على الترافع أمامها.

 

وفي السنة التالية مباشرة، أي في سنة 1885م، أجاز المركز التجاري في الإسكندرية توكيل الخصوم لغيرهم في الحضور أمامه، وكان الشرط الوحيد لدخول الوكيل هو حسن السمعة وفصاحة اللسان.

 

وبعد ذلك، وعلى إثر إنشاء الخديوي إسماعيل «مدرسة الإدارة واللغات»، والتي تطورت بعد ذلك لتصبح «مدرسة الحقوق» ثم كلية الحقوق على النمط الفرنسي، بدأت المحاكم تشترط في الوكيل أن يكون حاصلاً على ليسانس الحقوق. ولعل ذلك يبدو جلياً من مطالعة أحكام القانون رقم 26 لسنة 1912 بشأن لائحة المحاماة أمام المحاكم الأهلية. إذ تنص المادة الأولى من هذا القانون على أن «لا يشتغل بالمحاماة أمام المحاكم الأهلية إلا من أدرج اسمه في جدول المحامين». وتحدد المادة الثانية من القانون ذاته الشروط اللازم توافرها فيمن يريد الاشتغال بمهنة المحاماة، بنصها على أن «يجب توفر الشروط الآتية في من يريد إدراج اسمه في جدول المحامين: أولاً- أن يكون حاصلاً على شهادة الدراسة النهائية من مدرسة الحقوق الخديوية أو على شهادة نهائية أجنبية تعتبرها نظارة المعارف العمومية بالاتفاق مع نظارة الحقانية معادلة لها وأن ينجح في هذه الحالة الأخيرة في امتحان في الشرائع المصرية طبقاً للائحة التي تضعها النظارتان المذكورتان، أو أن يكون اشتغل بوظيفة القضاء أو النيابة بالمحاكم الأهلية أو المختلطة أربع سنين على الأقل أو أن يكون اسمه مقيداً في جدول المحامين عند العمل بهذا القانون. ثانياً-… ثالثاً-… رابعاً-….».

 

وبدوره، كرس القانون نمرة 15 لسنة 1916 – قانون خاص بلائحة المحاماة أمام المحاكم الشرعية – الباب الأول منه لبيان «الشروط اللازم توافرها للاشتغال بالمحاماة». إذ تنص المادة الأولى من هذا القانون على أن «لا يشتغل بالمحاماة أمام المحاكم الشرعية إلا من أدرج اسمه في جدول المحامين». ووفقاً للمادة الثانية من القانون ذاته، «يجب توفر الشروط الآتية فيمن يريد إدراج اسمه في جدول المحامين: أولاً- أن يكون حاصلاً على شهادة العالمية من أحد المعاهد المبينة بقانون الأزهر أو على شهادة الدراسة النهائية من مدرسة الحقوق السلطانية أو أن يكون اشتغل بوظيفة القضاء بالمحاكم الشرعية مدة أربع سنوات أو أن يكون اسمه مقيداً في جدول المحامين أمام هذه المحاكم عند العمل بهذا القانون. ثانياً-… ثالثاً-… رابعاً-…» (راجع: الوقائع المصرية، جريدة رسمية للحكومة المصرية، العدد 93، السنة السادسة والثمانون، الاثنين 3 محرم سنة 1335ه – 30 أكتوبر سنة 1916م، ص 1 وما بعدها).

 

المطلب الثالث

التزام المحامي تجاه موكله ببذل عناية أم بتحقيق نتيجة

 

نسمع من وقت لآخر عن حوادث اعتداء بعض الموكلين على محاميهم، اعتقاداً منهم أن خسارة قضاياهم يعود إلى تقصير محاميهم في إثبات حقهم أو في الدفاع عنهم. وبعبارة أخرى، فإن البعض ينتظر من المحامي تحقيق نتيجة معينة. فإذا لم تتحقق هذه النتيجة، صب جام غضبه عليه، محاولاً الانتقام منه. وقد كان ذلك هو السبب وراء هجر الشاعر حافظ إبراهيم مهنة المحاماة، وهجرته من مدينة طنطا بأسرها قاصداً القاهرة، على إثر خسارة إحدى القضايا، وتهديد الموكل له بالقتل، لو رآه في طنطا.

 

وفي هذا الشأن، وفيما يتعلق بالتزام المحامي تجاه موكله، وما إذا كان ببذل عناية أم بتحقيق نتيجة، يمكن القول إن التزام المحامي هو بحسب الأصل التزام ببذل عناية. ولكن ذلك لا يمنع من الاتفاق على عدم استحقاق المحامي أتعابه إلا إذا كسب الموكل دعواه. وفي ذلك، تقول محكمة النقض المصرية إنه «وأن كانت المادة 704/ 2 من القانون المدني على أنه (إذا كانت الوكالة بأجر وجب على الوكيل أن يبذل دائما فى تنفيذها عناية الرجال المعتاد) مما مفاده أن التزام الوكيل فى تنفيذ الوكالة هو التزام ببذل عناية لا التزاما بتحقيق غاية، إلا أنه لا شيء يمنع من الاتفاق على أن يكون التزام الوكيل بتحقيق غاية ومن ذلك أن يتفق الموكل مع المحامي على ألا يستحق الأتعاب أو على ألا يستحق المؤخر منها إلا إذا كسب الدعوى، لما كان ذلك وكان الثابت بالإقرار المؤرخ 13/ 4/ 1967 أن الطاعن لا يستحق الأتعاب المبينة به إلا بعد صدور حكم نهائي فى الدعوى بزيادة ثمن المتر عن أربعة جنيهات فان التزام الطاعن وفق هذا الإقرار يكون التزاما بتحقيق غاية» (نقض 23 فبراير 1977م، الطعن رقم 482 لسنة 39 ق).

 

وفي حكم حديث، أكدت المحكمة الكائنة على قمة القضاء العادي في مصر أنه «وإن كان النص في المادة 704/2 من القانون المدني على أنه (إذا كانت الوكالة بأجر وجب على الوكيل أن يبذل دائما في تنفيذها عناية الرجل المعتاد) مما مفاده أن التزام الوكيل في تنفيذ الوكالة هو التزام ببذل عناية لا التزام بتحقيق غاية، إلا أنه لا شيء يمنع من الاتفاق على أن يكون التزام الوكيل بتحقيق غاية ومن ذلك أن يتفق الموكل مع المحامي على ألا يستحق الأتعاب أو على ألا يستحق المؤخر منها إلا إذا كسب الدعوى، لما كان ذلك وكان الثابت بعقد الاتفاق أن الطاعن لا يستحق الأتعاب المبينة به إلا مقابل قيامه بإنجاز الأعمال المتفق عليها فان التزام الطاعن وفق هذا العقد يكون التزاماً بتحقيق غاية» (نقض 27 نوفمبر سنة 2021م، الطعن رقم 17520 لسنة 90 ق).

 

وعلى هذا النحو، يجوز للمحامي وموكله الاتفاق على عدم استحقاق المحامي أتعابه إلا حال كسب الدعوى، بما يؤدي إلى أن يكون التزام المحامي بتحقيق نتيجة، وليس بمجرد بذل عناية. وفي هذه الحالة، فإن الجزاء المترتب على عدم تحقق النتيجة المتفق عليها هو عدم استحقاق المحامي أتعابه. وفي جميع الأحوال، لا يجوز للموكل الاعتداء على وكيله أو تهديده. ولا يجوز له مقاضاته إلا في حالة الإهمال الجسيم أو الغش والتدليس.

زر الذهاب إلى الأعلى