حق المحكوم عليه في النسيان
مقال بقلم الدكتور أشرف نجيب الدريني
هل ينتهي الحق في الكرامة بانتهاء المحاكمة؟ وهل تصبح السمعة المهددة ثمناً مشروعاً للتوعية أو النصح العام؟ وهل يجوز لرجل الضبط القضائي، بعد خلع بدلته الرسمية، أن يعود إلى ماضيه ليعرضه على الناس مشفوعًا بالأسماء والوقائع بحجة “التجربة” و”الدروس المستفادة”؟ وإذا كان المتهم قد أُدين بحكم قضائي نهائي، فهل يُخلَع عنه الرداء الآدمي، ليُعرض اسمه في ساحات الإعلام كعبرة للمشاهدين؟ تلك الأسئلة، وإن بدت في ظاهرها قانونية، فإنها في جوهرها تمس جوهر العدالة، وحدود السلطة، وحرمة الإنسان حتى وهو مدان.
لا جرم أن الحكم القضائي البات يرفع قرينة البراءة، ويُثبت مسؤولية المتهم عن الفعل المسند إليه. غير أن هذا الإثبات لا يُجيز بالضرورة إطلاق العنان للألسنة والأقلام في إعادة إنتاج الوقائع، وتجسيدها بصورة متكررة في وسائل الإعلام، سيما إذا كانت متعلقة بشخصيات محددة جرى الزج بأسمائها وصورها ووقائعها في محتوى مرئي عام. الكرامة الإنسانية لا تسقط بالتقادم، ولا تنقضي بانقضاء مدة العقوبة. بل إنها تظل ركنًا من أركان الوجود القانوني للفرد، حتى ولو كان في الماضي محكوماً عليه. ومن هنا، فإن التذرع بوجود حكم قضائي لا يبرر في ذاته نشر تفاصيل الإدانة علنًا متى خلت المصلحة العامة من المعنى الحقيقي، وتحول الغرض إلى تسلية، أو استعراض، أو استدرار للتعاطف المهني.
ذلك أن ما يُكتسب من معلومات أثناء تأدية الوظيفة، يظل محفوفًا بسرية تفرضها القوانين والأعراف، وتزيدها الأخلاق المهنية عمقًا وشرفًا. فإذا استخدم الموظف تلك المعلومات لاحقًا، خارج إطارها القضائي، ولو بحسن نية، فإنه ينزلق من ميدان الرسالة إلى مهوى الدعاية، ومن مقام الحياد إلى درك الاستغلال. وإن كانت بعض القوانين لا تجرّم ذلك صراحة، فإن جملة من المبادئ العامة تكفي لبسط مظلة الحماية على من يتضرر من هذه الأفعال، ومن بينها قواعد المسؤولية المدنية، ومبادئ الحماية من التشهير، وأحكام إساءة استعمال حرية التعبير.
وقد استقرت الأنظمة القانونية المتقدمة على إقرار مبدأ “الحق في النسيان”، وهو الحق الذي يمكّن المحكوم عليه، بعد قضاء العقوبة، من استعادة وجوده الاجتماعي خاليًا من ماضٍ يُعاد إنتاجه كلما أراد شخص أن يعظ أو يروي قصة. فهل يجوز أن تظل صورته مسمّرة في ذاكرة المنصات، كلما شاء أحدهم أن يروي حكاية من ماضيه الشرطي؟ وهل يستقيم أن نرفع صوت التوعية بسياط التشهير، وأن نزرع في الذاكرة العامة أسماء من طواهم السجن ثم عادوا إلى الحياة؟
ثم إن التوازن بين الحق في التعبير والحق في السمعة تفرضه القواعد الدستورية ذاتها التي تحمي حرية الإعلام وتحظر الإساءة للغير. فالحديث عن القضايا المحسومة يجب ألا يتحول إلى مادة لمحتوى مشخّص، يستعرض الأشخاص لا الوقائع، ويبعث الوصمة لا العبرة. المسؤولية الأخلاقية والقانونية تظل قائمة، خاصة إذا تعلق الأمر بمأمور ضبط قضائي” سابق” يعلم تمامًا أنه ما كان له أن يصل إلى تلك الوقائع إلا من خلال موقعه الوظيفي، فيكون من التناقض أن يتجرد من الزي الرسمي، ثم يعود إلى استخدام المعرفة التي وهبها له القانون، لا ليخدم بها العدالة، بل لينتج بها سردية مرئية لمنصة إعلامية.
وما لا يجب أن يُغفل، أن ذكر الأسماء والأحداث في مثل هذا السياق، وإن ارتكز على أحكام صحيحة، قد يتسبب في أضرار اجتماعية لأبرياء لم يكونوا طرفًا في القضية، كأبناء المتهم أو أسرته أو أقاربه، الذين يصبحون فجأة محل نظرات الناس وأحاديث المجالس. فإذا كان المجتمع قد رضي بأن يقضي المتهم عقوبته في “السجن”، أفلا يجب أن يقضي المجتمع هو الآخر عقوبته “بالصمت” بعد انتهاء المحاكمة؟! أليس من حق المحكوم عليه أن يبدأ من جديد، دون أن يكون اسمه مطروحًا في كل حديث، ووجهه معروضًا في كل مقطع؟
ولا مناص من أن اعتراف رجل الضبط القضائي – بعد خلع بدلته الرسمية – باتباعه إجراءات خاطئة أو مخالفة للقانون، لا يُعدّ مجرد حكاية شخصية أو ذكريات مهنية تُروى على سبيل العبرة أو التسلية، بل هو إقرار “صريح” بأفعال قد تمسّ شرعية عمله السابق، وتثير تساؤلات جدّية حول سلامة الإجراءات التي اتُّخذت بحق الأفراد. فهذا النوع من الاعتراف، وإن جاء متأخرًا، قد يفتح باب المساءلة الجنائية أو التأديبية إن لم تكن الأفعال قد سقطت بالتقادم، لا سيما إذا كشفت عن انتهاك جسيم لحقوق الدفاع، أو خرق لضمانات الحرية الشخصية. كما أن الإفصاح الطوعي عن هذه الأخطاء يُسيء بصورة غير مباشرة إلى هيبة المؤسسة التي كان ينتمي إليها، ويُضعف ثقة الناس في منظومة العدالة، لأن الاعتراف بالخروج عن القانون لا يُكفّره مرور الزمن، بل قد يُحوّله إلى شاهد ضد ذاته، وشاهد على خلل أوسع، كان الأجدر أن يُعالَج في حينه لا أن يُسرد لاحقًا في سياق التجربة.
هكذا، نصل إلى خلاصة مفادها أن العدالة لا تكتمل بالحكم، بل بالسكينة التي يعقبها، وأن سيادة القانون لا تعني جواز استغلال الوقائع المحسومة لتعريض الأفراد للتشهير، ولو باسم التوعية. فالتاريخ لا يُكتب من أفواه الأفراد، بل من موازين متزنة تحفظ “الحقوق والحدود”. وكل توعية تفقد احترامها للكرامة، تتحول من رسالة إلى جناية، ومن مبدأ إلى مهانة. والله من وراء القصد.