حقوق الفرد فى المادية التاريخية

الأستاذ رجائي عطية

نشر في جريدة الشروق بتاريخ 2 أبريل 2020

لم تقدم «المادية التاريخية» ما تضيفه إلى تراث الإنسانية العريق فى هذا المجال فى آداب الأمم.
من قديم، وازن الناس بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة، وخلصوا إلى أن حقوق الجماعة أولى بالتقديم على حقوق الفرد، وأنه إذا وقف حق الفرد فى طريق الجماعة، وجبت التضحية به لخدمة الجماعة، تغليبا لمصالحها العامة على كل مصلحة فردية.
ولهذا القول المتفق عليه ـ ذخيرة فى الشعر الجاهلى الذى تخرج منه بأنه «لا خير فيمن لا خير للناس فيه».. وكان هذا هو محور فلسفة أرسطو التى ترى أن الحكومة المثلى هى التى تكون لمصلحة الرعية، والسيئة هى التى تكون لمصلحة الرعاة.
وبرغم تعدد القول فى الاختيار والاضطرار، فإن الفلسفة المادية للتاريخ لم تأتِ بشىء يضاف إلى هذا التراث العريق فى تقدير الفرد بالنسبة للجماعة.. ولم تأتِ بجديد فى معاملة الفرد، إذ قالت إنه يفلح فى سعيه كلما وافقته ظروف الجماعة، وأنه لا يخلق هذه الظروف وإنما ينتظر موافقتها لما يريد إنجازه.
•••

كان «هيجل» مثاليّا يقول بالفكرة ولا يقول بالمادة، ويرى روح الكون فى نابليون الأول، ويقفى بأنه إن لم يكن نابليون لكان تدبير الروح الأعظم كفيلا بوضع شخص آخر فى مكانه على صهوة جواده فى معركة «جينا».
ولقد اقتبس الماديون التاريخيون قواعد المذهب المادى من أمام الفلسفة الفكرية، وكرروا ذات العبارة التى ساقها «هيجل» بنصها، فى أمر نابليون وغير نابليون.
فمن أين جاءت الرغبة الملحة عند الماديين فى تحقير العظمة الإنسانية وانتحال الفرص لبخس حقها؟!
قد تكون العظمة نتاج موافقة الظروف الاجتماعية، ولكن ذلك لا يرتب بالضرورة تحقيرها أو بخسها.
فما تفسير النقمة على حق الفرد العظيم أو غير العظيم؟
يرى العقاد أن الغوص فى جوانب شعور وتفكير الشيوعية، يكشف عن أن «النقمة» ليست فقط على امتياز الثروة المغتصبة، بل هى فى أعمق مصادرها نقمة على كل امتياز ولكل ممتاز، حتى ولو كان امتيازه لنفع بنى قومه أو بنى الإنسان.

•••

ويحاجى العقاد الشيوعية بالوقائع المشهودة فى تاريخها نفسه، والتى يتضح فيها دور الفرد فى توجيه وتحويل الجماعات.. فلولا أن «لينين» كان على رأس الفئة التى تسلمت زمام الثورة الروسية بعد سقوط آل رومانوف، لما اتخذت الدعوة الشيوعية ذات الطريق الذى اتخذته فى روسيا.
ويستشهد العقاد بأن دور الفرد كان حاضرا فى تولى النازيين أمر الثورة فى ألمانيا، وفى تولى الكماليين أمر الثورة فى تركيا، وفى تولى «صن يات صن» أمر الثورة فى الصين.. وكان هذا حال الثورات المتفرقة فى العالم.
وخصلة أخرى من خصال الشيوعية ارتأى العقاد أنه ينبغى الالتفات إليها، هى سحب «الحتم التاريخى» على الحاضر وعلى المستقبل.. ذلك أن الحتم التاريخى لا يظهر من حوادث الماضى وأحكامه المتسلسلة من أدواره المتعاقبة، ولكنه يظهر كلما قامت فى طريق الغرض «عقبة» تمنع نفاذه أو تعوقه.
وعلى ذلك فإن إنكار الحقوق الفردية لم يكن حتما لزاما فى سوابق التاريخ، وإنما أصبح حتما تاريخيّا يوم وقفت الملكية الفردية والمنافسة الفردية والكفايات الفردية ــ عقبة أو عقبات فى الطريق.
والحرية الديمقراطية لا تنكر وجوب منع الجور والشطط، ولا تنكر تدخل الدولة فى شئون الملكية الفردية للأغراض العامة كالوباء أو الغلاء أو دفع غارة الأعداء.
ولم تنقض الحرية الديمقراطية حين أصدرت القوانين التى تحرم زيادة ساعات العمل على عشر ساعات فى النهار، ولكن حصر ساعات العمل على الأنوال فى البيوت مستحيل على أى نظام حتى فى ظل الشيوعية.. فمراقبة العمل فى المصانع غير مراقبته فى داخل البيوت.
ومن الحق أن نقول إن الأستاذ العقاد فاته التوفيق فى احتجاجه بأن عمل الأطفال دون العاشرة هو نتيجة تنافس العمال أيضا فيما بينهم وليس تنافس المصانع وحدها.. فهذه ليست حجة، لأن تنافس العمال الذى يصب فى الدفع بالأطفال للعمل ـ هو طرح ظروف اجتماعية ضاغطة تستدعى النظر فى ضوابط العدالة الاجتماعية، وفرض سياج من الحماية للأطفال، وهو ما فعلته دول كثيرة ـ منها مصر ـ لا تنتمى للمذهب الماركسى أو الشيوعى.
بيد أن العقاد يعود إلى توكيد أن الحرية الديمقراطية لم تمنع الإصلاح بتحريم الشطط فى التنافس الذى يريد المتنافسون أنفسهم أن يحرموه، إلاَّ أن ذلك لا يوافق غرض الماديين التاريخيين الذين لا مجال فى مناهجهم لبقاء الملكية الخاصة مشروعة فى القوانين. ولهذا ظهر لديهم الحتم التاريخى لإنكار الحقوق الفردية والحرية الفردية والكفايات الفردية.

•••

وهذا الحتم التاريخى، هو ـ على حسب الفرض ـ مصدر الآراء التى رتبت للفرد مكانته فى مذهب الماديين التاريخيين، ولكن هذا النصيب القاصر ـ تضاءل مع الزمن فى أقوال فلاسفة المذهب قبل أن يتضاءل فى التطبيق.
كان «ماركس» وأتباعه يترنمون بالحرية الفردية فى موكب الديمقراطية، وكانوا يشهرون بالسلطة الفردية فلا يصدمون أحدا لأن سلطة الفرد كانت هى الخطر الأعظم على الحرية الفردية فى تلك الآونة. ولكن رسائل ماركس والكتب والبرامج المسهبة، لم تتحدث ـ إلاَّ مرتين ـ عن استبداد البروليتاريا، وكل ما ورد فيها بيان مبتسر عن حالة الحكومة بين قيام الثورة واستقرارها.
ومن الملحوظ أن المادية الماركسية ختمت رسالتها فى القرن التاسع عشر، دون أن تتعرض بالمساس للحرية الفردية أو تمس مطالب الفرد ـ إلاَّ حيث تستطيع أن تمشى فى جدار فكرة من أفكار العصر المقبولة أو مبدأ من مبادئه المحدودة، كالحملة على احتكار الثروة، أو الرجوع إلى حقوق الأمة فى المسائل الاقتصادية، أو الحتمية التاريخية التى لم تكن غريبة عن الأحاديث الشائعة حول نواميس الكون وقوانين الطبيعة، أو التشهير بالمال والتهافت عليه والذى كانت مذمته تتلاقى مع طوبيات المبشرين منذ عهد «توماس مور» الإنجليزى إلى عهد «جوهان فالنتين» الألمانى إلى عهد «شامبنلا» الإيطالى إلى غيرهم من أصحاب البشائر الاجتماعية المجمعين على تدنيس الطمع، والتى تواصلت مع عصر البرامج الاجتماعية التى كان من روادها السابقين عند نهاية القرن الثامن عشر ـ «بابوف» الفرنسى و«روبرت أوين» الإنجليزى، ورواد علم الاقتصاد وعلم الاجتماع فى أمم الحضارة الأوروبية.
وقد اختارت المادية التاريخية هذه النواحى للتسلل من خلالها إلى عقول أبناء القرن التاسع عشر، متسترة بكراهة الاحتكار وكراهة الامتياز.
وكان من التسلل إلى العقول أن ينادى زعماء المادية بحقوق الفرد السياسية فى المنشورات العامة، ثم يحتفظوا بين سطور المباحث الفلسفية بتفسير تلك الحرية على النحو الذى أرادوه!
ولم يجهر الدعاة الشيوعيون باحتقارهم للحرية الإنسانية إلاَّ بعد أن قامت لهم دولة تملك سلب الحرية فسلبوها واعتبروها ترفا لا يساوى ضرورات المعيشة، ولعبوا بالألفاظ لعقد مقارنات جوفاء بين الكماليات والضروريات.
وأشهر الشيوعيون «الخبز» فى وجه أنصار الحرية، متناسين أن هذه كانت أيضا دعوة الفاشيين والنازيين، متساندين إلى «عدم جدوى الحرية لبطون الجياع».
ولم يعد هؤلاء إلى نغمة الحرية الفردية، إلاَّ بعد سنوات انصرمت فى ازدراء هذه الحرية وعقد المفاضلات بينها وبين الخبز وما إليه، فلما احتفلوا بالذكرى الستين على رحيل «كارل ماركس» ـ لم تشغلهم هذه الذكرى عن دفع شبهة الجناية على كيان الفرد وحريته وكرامته الإنسانية فى كل الشيوعية!
بعد عشر سنوات مات «ستالين»، فإذا بهؤلاء يتنفسون فى بلاده الصعداء، ويسمع الناس من كبار شخصيات حكمه، أنهم عاشوا بين يديه فى سجن من الكبت والرهبة، ولم يصدقوا بالنجاة إلاَّ بعد موته.

•••

ويأخذ الأستاذ العقاد على «ماركس» و«إنجلز» ـ أنهما لم يكن فى وسعهما رغم انتمائهما للطبقة البرجوازية ـ الزعم بتمثيل أخلاق تلك الطبقة فى تصديها لإنصاف الطبقة الأجيرة، وإلاَّ لكان فى هذا الزعم قضاء على مبادئ المذهب وقضاياه فى الأخلاق والاجتماع والفلسفة والاقتصاد.
ويلاحظ العقاد أن دور التنفيذ كان أبرز لهذه الحقيقة من دور الدعوة، وأن الواضح فى تنفيذ الفلسفة الماركسية بعد الحرب العالمية الأولى ـ أنه قد تصدى لها شرذمة من أفراد سلطوا إرادتهم فى بلاد لم تتهيأ للماركسية بأطوار الصناعة ولا بأطوار الاجتماع، وقد ادعى هؤلاء الأفراد لأنفسهم من الحقوق والسلطات ما لم يجرؤ على ادعائه أشد الناس غلوّا فى الإيمان «بالفردية» المطلقة.

زر الذهاب إلى الأعلى