حديث العقل
ماهر الحريري
بين ضوضاء وغوغاء على صفحات التواصل، تعلو الأصوات، تصاحبها عبارات سب وقذف، وأسلوب غير أخلاقي يفتقد أبسط قواعد الموضوعية، يتبادله المؤيد والمعارض. ولست كالببغاء أردد، فالباحث عن الحقيقة دائما يقرأ ويحلل وصولا
إلى أفضل النتائج، وأصدق الحقائق، وتلك هي أولى مهمات
المحامى. فعندما تشتد المعارك، وتشتعل صفحات التواصل،
أنطوي جانبا، ليس جبنا ولا هروبا، لكني أراقب وأتابع، لعلي
من بين كل هذه التناقضات أتوصل لبعض الحقائق. فكثير
من الاتهامات تفتقر لدليل إثبات، فلا ترتقي حتى لدرجة القرينة.
وكثير من الكلام بات كتحريات مباحث يحتمل الصدق، وربما
الكذب، وكل ذلك يرفضه العقل المتحضر، وتلفظه كثيرمن القوانين. وبين تبادل الاتهامات على صفحات التواصل، لم أر
من بين المتناحرين من يطرح دليلا يعزز به اتهامه، ويقنع به
عقولا هي بضميرالقاضي الجنائي أشبه. وأسفي أن أرى اتهامات غير واقعية، وتوافقا لآراء في بغض أشخاص، وكأن المحاماة قد اختزلت فيهم. وأكثرما يؤسفني أن البعض يتحدث دون
دراية بقانون المحاماة، وهذا ما لمسته إبان فترة عملي النقابي.
فبات قانون المحاماة للمحامين عن عمد مجهولا، حتى لدى
كثير من النقابيين. ولا أدرى لماذا هذا الهجوم، وفي تلك المرحلة تحديدا؟ لكن ربما يظنها البعض هي بمنزلة مرحلة لتكسير
العظام، فكثرت الشائعات، واختلفت التفسيرات في معركة مقصدها وفقط أشخاص، دون النظر للمحامين والمحاماة،
وكل في ذلك يبكي على ليلاه، فمنهم من أشاع أنه بالتعديلات لا حصانة للمحامى، وتبريره لذلك “عبارة في غير حالات التلبس”. فلو كلف هؤلاء أنفسهم عناء البحث، وصحيح الفهم لقانون الإجراءات، لاقتنع بأنه في حالات التلبس، تسقط الحصانةعن كل متهم، مهما علا شأنه، ومهما تميز منصبه، لحكمة يبتغيها المشرع من وراء ذلك. وللمتشدقين بكرامة المحامى حديثا،
أقول لهم: أنتم من تصنعون كرامتكم، فلا تطالبوا بحقوق، وتتناسوا الواجبات. فهكذا القوانين هي بمنزلة التزامات متبادلة، وليس كل ما يسمع يعاد، ولا كل ما يطرح يصدقه العقل،
فلا مصلحة لأحد في أن تهدر حقوق المحامين، أو تهدر كرامتهم، كما يدعي البعض، وكما يردد مروجو الإشاعات. فلا يملك عاشور
أوغيره أن يتنازل عن مكتسبات أقرها الدستور، حتى لو أقرت عكسها القوانين، فهي في هذه الحالة تكون قد باتت مهددة بشبهة عدم الدستورية. وهكذا، علمتنا دراستنا للقانون.
ولعل ما طرحه البعض من اتهامات هو بالفعل إهانة للمؤسسة
التشريعية الأولى، صاحب الاختصاص في سن التشريعات. فجاءت التصريحات لتسئ للدولة المصرية. وربما قصد صاحبها
إحراج تلك المؤسسة أمام الرأي العام، بشقيه الداخلي والخارجي، في جريمة تستوجب، في رأيي، المساءلة القانونية لمروجها، حفاظا على هيبة مؤسسات الدولة. فإن أردتم لأنفسكم
رفعة، وللمحاماة رقيا، فحكموا عقولكم، حتى لا تخدعكم عواطفكم.. حللوا ولاترددوا، وارجعوا لقانون مهنتكم، ستجدون به كل السبل للحفاظ على كرامتكم، وتجنبوا الأحقاد، وكونوا
للحق منفصلين، فلسنا للأشخاص بعابدين، وكونوا للمحاماة
عاشقين. فحديث العقل خير وأصدق من عواطف كتحريات مباحث، تحتمل الصدق، وكذلك الكذب.