حجية قرارات الحفظ أمام النيابة الإدارية

  المستشار الدكتور  إسلام إحسان نائب رئيس هيئة النيابة الإدارية

الازدواج في الإختصاص بإجراء التحقيق الإداري بين النيابة الإدارية وجهة الإدارة يتولد عنه عدد من الإشكاليات القانونية التي تقتضي ضرورة تحديد العلاقة بين كل منهما ومدي حجية تصرف كل جهة في مواجهة الأخرى ، إذ أن جهة الإدارة سلطة مختصة قانوناً باجراء التحقيقات الإدارية وقد تباشر التحقيق الإداري وتصدر بعد الانتهاء منه قراراً بحفظ التحقيق وهنا يثور التساؤل عن مدي حجية ذلك القرار الصادر من جهة الإدارة بحفظ التحقيق في مواجهة النيابة الإدارية ؟ ومدي تقيد النيابة الإدارية به ؟ و ما إذا كان يترتب علي صدور ذلك القرار غل يد النيابة الإدارية عن التصدي بالتحقيق مرة أخرى في ذات المخالفات التي سبق لجهة الإدارة أن قررت حفظها من عدمه ؟

والأمر في رأيي ينحصر في الأحوال الآتية:

أولاً.. أن يصدر قرار من جهة الإدارة بحفظ المخالفات أثناء تولى النيابة الإدارية التحقيق فيها.

ثانياً.. أن يصدر قرار من جهة الإدارة بحفظ المخالفات قبل بدء النيابة الإدارية التحقيق فيها.

ثالثاً …. أن يصدر قرار بحفظ المخالفات من جهة الإدارة بعد انتهاء النيابة الإدارية من التحقيق فيها وعلى خلاف تصرف النيابة الإدارية.

وفي كل حالة من تلك الأحوال يوجد تنظيم قانوني خاص لضبط العلاقة بين النيابة الإدارية وجهة الإدارة ومدى تقيد النيابة الإدارية بقرار الحفظ الصادر عن جهة الإدارة.

أولاً : إصدار قرار بالحفظ أثناء مباشرة النيابة الإدارية التحقيق:

إذا بدأت النيابة الإدارية التحقيق فانه يحظر على جهة الإدارة أن تصدر أي قرار أو تتخذ أي إجراء في شأن المخالفات التي تباشر النيابة الإدارية التحقيق فيها ، وذلك حتى تنتهي النيابة الإدارية من التحقيق وتتصرف فيه بإرادتها المنفردة بإحالته إلى جهة الإدارة ، و على ذلك إذا أصدرت جهة الإدارة قراراً بحفظ المخالفات أثناء قيام النيابة الإدارية بالتحقيق في تلك المخالفات فأن هذا القرار يكون باطلاً مشوباً بعيب مخالفة القانون ولا يرتب ثمة أمر فإذا كان قراراً بالجزاء فانه يكون قابلا للإلغاء عند الطعن عليه من ذوي الشأن أمام المحكمة التأديبية المختصة ، كما أنه إذا كان قراراً بالحفظ فإنه لا يقيد النيابة الإدارية التي لها أن تتصرف في  تلك المخالفات كيفما تشاء.

و القيد على جهة الإدارة بعدم جواز التصرف في المخالفات يظل قائمًا حتى لو انتهت النيابة الإدارية من التحقيق في هذه المخالفات طالما لم تقرر النيابة الإدارية إحالة الأوراق إلى جهة الإدارة للتصرف فيها ، و ذلك يحدث إذا قررت النيابة الإدارية إحالة القضية إلى المحكمة التأديبية المختصة وفقاً لحكم المادة ١٤ من القانون ١١٧ لسنة 1958 ، إذ فى هذه الحالة ينعقد الاختصاص بالتصرف في تلك المخالفات والفصل فيها للمحكمة التأديبية وحدها وليس لجهة الإدارة أن تصدر أي قرار بشأنها ، إذ أن النيابة الإدارية غير ملزمة علي الإطلاق بإحالة القضايا بعد انتهاء التحقيق إلى جهة الإدارة ، إنما للنيابة الإدارية وفقا للمواد ١٤,١٢ من القانون ١١٧ لسنة ١٩٥٨ أوجه تصرف متعددة في القضايا التي تباشر التحقيق فيها إلى فتتمتع بسلطة تقديرية مطلقة فى إصدار قرار إحالة القضية إلى المحكمة التأديبية أو إصدار قرار تأديبي من رئيس هيئة النيابة الإدارية سواء بالجزاء أو الحفظ فى المخالفات التى أحالتها جهة الإدارة إلى النيابة الإدارية للتحقيق و التصرف فيها .

و قد قضى بأنه ” إذ تولت النيابة الإدارية التحقيق بناءً على بلاغ أو بناءً علي شكاوي الأفراد، فأن لها بل عليها أن تستمر فيه حتى تتخذ قرارا في شأنه دون أن يتوقف ذلك علي إرادة الجهة الإدارية ، و من ثم لا يجوز لجهة الإرادة أن تتصرف في التحقيق إلا إذا أحالت النيابة الإدارية الأوراق إليها ”

( المحكمة الإدارية العليا – طعن 644 للسنة 14 ف – جلسة 1/2/1969)

 

و قضى كذلك بأنه ” إذا تولت النيابة الإدارية التحقيق فلا يجوز للجهة الإدارية أن تتصرف في التحقيق إلا إذا إحالته إليها النيابة الإدارية ، و ليس للجهة الإدارية أن تحول دون مباشرة النيابة الإدارية التحقيق ، فلا يجوز للجهة أن تطالب النيابة الإدارية بالكف عن السير في التحقيق ولا يجوز لها إصدار قرار بشأنه قبل أن تنتهي النيابة الإدارية من فحص الموضوع ، والقرار الذي يصدر من الجهة الإدارية قبل أن تنتهي النيابة الإدارية إلى قرار في التحقيق يكون مشوبا بعيب إجرائي يبطله و لايرتب ثمة أثر .”

( المحكمة الإدارية العليا – طعن رقم 50 لسنة 29 ق جلسة 10/1/1982 )

و تاريخ بدء النيابة الإدارية التحقيق يكون من تاريخ التأشير من مدير النيابة المختص  بإحالة المخالفات إلى التحقيق ، وليس من تاريخ فتح محضر التحقيق بالنيابة الإدارية إذ قضى بأن ” العبرة في تاريخ بدء التحقيق بتاريخ الإحالة إلى التحقيق وليس بفتح محضر التحقيق .

( المحكمة الإدارية العليا – الطعن 452 لسنة 29 ق – جلسة 1/11/1986)

 

و قد نصت المادة ( 60 )  من قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016  في فقرتها الثالثة على انه على الجهة الإدارية المختصة بالنسبة لسائر المخالفات على أن توقف ما تجربه من تحقيق في واقعة أو وقائع وما يرتبط بها إذا كانت النيابة الإدارية بدأت التحقيق فيها ، و يقع باطلا كل إجراء أو تصرف  يخالف ذلك.

و صدور قرار من النيابة الإدارية بتحريك الدعوي الجنائية و ذلك بإبلاغ النيابة العامة بالجرائم التي كشف عنها التحقيق وإرجاء التصرف في المسئولية التأديبية لحين التصرف الجنائي لا يرفع الحظر المفروض علي جهة الإدارة بإصدار قرار في هذه المخالفات محل التحقيق وذلك حتى تنتهي النيابة الإدارية منه وتقرر إحالته إلى جهة الإدارة من عدمه عقب إنتهاء التحقيق الجنائي ، إذ أن  إحالة النيابة الإدارية الأوراق إلى النيابة العامة لانطواء الوقائع علي جريمة جنائية لا ينال من اختصاص النيابة الإدارية بالتصرف في التحقيق في ضوء ما يسفر عنه تحقيق النيابة العامة. ( المحكمة الإدارية  العليا – طعن 1230 لسنة 9ق جلسة 8/4/1971 )

ثانيًا .. إصدار قرار إدارى بالحفظ قبل بدء النيابة الإدارية التحقيق:

السلطة المختصة بإجراء التحقيق الإداري بالتطبيق لأحكام القانون                               ١۱۷ لسنة 1٩٥٨ هي النيابة الإدارية لكن هذا الاختصاص لا يخل بحق الجهة الإدارية في التحقيق مع موظفيها ولا يوجد ما يجبرها علي إحالة التحقيق إلى النيابة الإدارية طالما لم ينص القانون على وجوب الإحالة الى النيابة الإدارية .

( المحكمة الإدارية العليا – الطعن 1171 لسنة 7ق – جلسة 6/1/1964)

فإذا باشرت جهة الإدارة التحقيق وأصدرت قرار بالحفظ  و ذلك قبل إتصال علم النيابة الإدارية بتلك المخالفات ، و السؤال ما مدي حجية قرار الحفظ أمام النيابة الإدارية إذا اتصل علمها بتلك المخالفات بناءً على شكوى أو بلاغ من جهة رقابية.

إذا كان قرار الحفظ الصادر من جهة الإدارة قد صدر في شأن مخالفات منسوبة لأحد شاغلي الوظائف القيادية وهم ( الممتازة – العالية – مدير عام ) أو فى شأن مخالفة مالية يترتب عليها ضياع حق من الحقوق المالية للدولة أو المساس بها  فإن ذلك القرار يعد كأن لم يكن ولا أثر له في مواجهة النيابة الإدارية ، وذلك لمخالفته نص المادة ( 60 ) من قانون الخدمة المدنية  ، فإن قرار الحفظ الصادر من جهة الإدارة في هذه الحالة يكون مشوبا بعيب عدم المشروعية لقيامه بغصب سلطة واختصاص هيئة قضائية ، وللنيابة الإدارية التحقيق مرة أخرى في ذات المخالفات  .

ما عدا ما تقدم من المخالفات ، فقد أرست المحكمة الإدارية العليا فى هذا الصدد مبدأ بأن صدور قرار من الجهة الإدارية بحفظ التحقيق يقيد جهة الإدارة وحدها ولا يقيد النيابة الإدارية إذا ما رأت إجراء التحقيق في ضوء الشكوى المقدمة إليها أساس ذلك أن المادة الأولى من القانون ۱۱۷ لسنة ١٩٥٨ نصت علي أن النيابة الإدارية هيئة قضائية مستقلة ونصت المادة الثالثة على اختصاصها بإجراء التحقيق في المخالفات الإدارية والمالية التي يكشف عنها إجراء الرقابة وفيما يحال إليها من الجهات الرقابية المختصة والجهات الإدارية ، وفيما تتلقاه من شكاوي الأفراد والهيئات، ومفاد ما تقدم أن المشرع قد أستهدف أن تكون النيابة الإدارية وسيلة  لإصلاح أداة الحكم تتولي أحكام الرقابة علي الموظفين في قيامهم علي تنفيذ القوانين علي نحو يكفل تحقيق الصالح العام فجعل لها إجراء التحقيق في المخالفات المالية والإدارية التي تصل إلى علمها بأي وسيلة كانت ، سواء تم ذلك من جانب الجهة الإدارية أو مما تتلقاه من بلاغات وشكاوي الأفراد،  وهذا الاختصاص الذي أوكله القانون للنيابة الإدارية بنص القانون وهي هيئة قضائية مستقلة عن الإدارة في مباشرة رسالتها طبقاً للقانون اختصاص تتولاه  النيابة الإدارية بنص القانون ولا تنوب في مباشرته عن الجهة الإدارية، ومن مقتضيات ذلك ألا يقوم حائل إداري يحول دون مباشرة النيابة الإدارية اختصاصها وولايتها أو القول بأن قرار الحفظ الذي تتخذه الجهة الإدارية من شأنه أن يمنع النيابة الإدارية من مباشرة اختصاصاتها وغل يدها عن مباشرة التحقيق إذا ما مضت ستون يوما علي قرار الحفظ وذلك رغم أن الدعوي التأديبية لم تسقط بمضي المدة فهذا القول لا يتفق وما استهدفه المشرع للنيابة الإدارية من أن تكون هيئة قضائية قوامه علي الدعوي التأديبية نيابة عن المجتمع ومنزهة الهوى وذات اختصاص أصيل ومطلق وغير مقيد بالتحقيق في كل ما يتصل بعلمها من وقائع تشكل مخالفات مالية وإدارية ، وليس لقرار الحفظ الصادر من الجهة الإدارية طالما أن الدعوي التأديبية لم تسقط بمضي المدة أي أثر في مواجهة النيابة الإدارية التي تباشر ولايتها علي من ارتكب المخالفة و على مصدر قرار الحفظ سواء بسواء ” ( المحكمة الإدارية العليا – الطعن رقم 2382 لسنة 33 ق –  جلسة 27/5/1989 )

وبذلك تكون المحكمة الإدارية العليا قد أرست مبدأ هاماً مفاده أن قرار الحفظ الصادر من جهة الإدارة لا يقيد النيابة الإدارية ولا يغل يدها عن التحقيق في ذات المخالفات طالما أن الدعوي التأديبية لم تسقط بمضي المدة.

ثالثا .. إصدار قرار الحفظ بعد إنتهاء النيابة الإدارية من التحقيق

تصرف النيابة الإدارية بعد إنتهائها من التحقيق بينته المواد  197 من الدستور ، و المواد 12 ، 14 ، 15 ، 16 ، 17 من القانون ١١٧ لسنة ٩٥٨ ، والمادة 60 من القانون 81 لسنة 2016 هي اما إصدار قرار من المستشار رئيس هيئة النيابة الإدارية بالحفظ أو الجزاء فى المخالفات المحالة إلى النيابة ، أو إحالة القضية إلى المحكمة التاديبية المختصة ، أو إحالة القضية إلى جهة الإدارة للتصرف في المخالفات التى تخرج عن الإختصاص الولائى لرئيس هيئة النيابة الإدارية بالتصرف فيها ، أو أن يطلب السيد المستشار رئيس هيئة النيابة الإدارية فصل الموظف بغير الطريق التأديبي ، أو تطلب النيابة الإدارية الإحالة إلى  مجلس التأديب المختص ،  و أخيراً الإحالة إلى النيابة العامة و إدارة الكسب الغير مشروع .

وقرار الإحالة إلى المحكمة التأديبية تتخذه النيابة الإدارية بسلطتها التقديرية المطلقة دون الرجوع إلى جهة الإدارة ودون الحصول على موافقتها على ذلك سواء موافقة صريحة أو ضمنية.

إذا أحالت النيابة الإدارية القضية إلى جهة الإدارة وطلبت منها مجازاة المتهمين إلا أن جهة الإدارة خالفت رأي النيابة وأصدرت قراراً بحفظ التحقيق ، فهل قرار الحفظ ذلك له حجية في مواجهة النيابة الإدارية يحول دون قيامها التصرف في ذات المخالفات مرة ثانية بأن تصدر قراراً بإحالتها إلى المحكمة التأديبية.

أرست المحكمة الإدارية العليا مبدأ هاماً إذ قضت بأن ” إذا ما رأت النيابة الإدارية حفظ الأوراق ، أو أن المخالفة لا تستوجب توقيع جزاء أشد من الجزاءات التي تملك الجهة الإدارية توقيعها وأحالت الأوراق إليها فإنها بذلك تكون قد استنفدت سلطتها بإصدارها قراراً بهذه الإحالة ولا يكون لها بعد ذلك الرجوع فيه  ” .

( المحكمة الإدارية العليا – طعن 8156 لسنة 49 ق جلسة 27/5/2006)

 

مع مراعاة  حق النيابة الإدارية المقرر في سحب أوراق القضية من جهة الإدارة واستكمال التحقيق فيها والتصرف فيها بالإحالة إلى المحكمة التأديبية إذا رأت وجهاً لذلك بشرط  ألا تكون جهة الإدارة قد أصدرت قرار بالتصرف في التحقيق ، فإذا ما كانت الأوراق ما زالت في حوزة الجهة الإدارية ولم تكن قد تصرفت فيها بعد فإن للنيابة الإدارية الحق في إعادة النظر فيما انتهت إليه من رؤى سابقة بالحفظ ولها أن تتصدي بالفحص والتحقيق لما يطرح أمامها من أوراق ومستندات لم تكن تحت نظرها عند التصرف في أول الأمر علي ضوء ما يقدمه إليها من اعتراضات من ذوي الشأن على نتيجة التحقيق. ولا يجوز لذوي الشأن في هذه الحالة التحجج بسبق حفظ النيابة الإدارية للمخالفات لأن قرار النيابة الإدارية في هذا الصدد لا يحوز أي حجية ولا يمنع النيابة الإدارية من العدول عن قرار الحفظ وإعادة التحقيق على ضوء ما يقدم  لها من مستندات لم تكن تحت نظرها بادئ الأمر مادام أن ذلك سابقا لقرار الجهة الإدارية بالتصرف في نتيجة التحقيق فالنيابة الإدارية لا تغل يدها ولا تستنفد ولايتها إلا بعد صدور قرار الجهة الإدارية الحفظ أو توقيع الجزاء حسب الأحوال . ( المحكمة الإدارية العليا – الطعن 1798 لسنة 34 ق جلسة 6/2/1996 ).

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى