حجية الحكم الجنائي أمام قضاء الأحوال الشخصية

قد تستند الزوجة في إثبات وقائع اعتداء الزوج عليها ضربًا وسبًا إلى سبق صدور حكم جنائي ضده؛ لثبوت اعتدائه عليها بالضرب، فهل يكفي هذا الحكم لحمل القضاء لها بالتطليق على الزوج استنادًا إلى هذا الدليل وحده؟

والذي يثير هذا التساؤل أن إثبات وقائع الإضرار المتمثلة في اعتداء الزوج على الزوجة بالضرب إنما يشترط ثبوتها بمشاهدة العين، حيث لا يكفي إقامة الدليل عليها ببينة سماعية، وأن يشاهد تلك الوقائع رجلان عدلان أو رجل وامرأتان حتى تذكر إحداهما الأخرى.

في حين أن الحكم الجنائي الصادر بالإدانة ضد الزوج لاعتدائه عليها يستند غالبًا إلى مجرد ما جاء بأقوال المجني عليها وما ثبت بالتقرير الطبي المحرر بعد توقيع الكشف الطبي عليها، فهل يعد مثل هذا الحكم دالاً على نسبة الإصابة التي وجدت بالزوجة إلى الزوج لمجرد أنها ادعت باعتدائه عليها بالضرب؟

وهل يمكن للكشف الطبي الموقع عليها في إطار الدعوى الجنائية الجزم بأن الإصابات التي شوهدت بالزوجة لا تكون إلا من فعل الزوج؟ هذا لا يمكن القول به ومن هنا ظهرت مشكلة تعارض اختصاص الإثبات في مسائل الأحوال الشخصية بقواعد خاصة، وقاعدة حجية الحكم الجنائي أمام القضاء المدني، ومنه قضاء الأحوال الشخصية بطبيعة الحال.

هل يعد مثل الحكم الجنائي الذي صدر بإدانة الزوج لمجرد أقوال الزوجة المجني عليها وما ورد بالتقرير الطبي حجة دالة على نسبة إحداث إصابات الزوجة إلى الزوج في أمر يشترط لإثباته شرعًاً، أن يشاهده شاهدان عدلان مشاهدة العين؟

والإجابة على هذا التساؤل تنحصر في القول بأن الحكم الجنائي البات يقيد القضاء المدني فيما يتصل بوقوع الجريمة ونسبتها إلى المتهم، وأن هذا المبدأ يشمل نطاقه الدعوى المدنية بالمعنى الواسع، حيث يمتد إلى جميع الدعاوى المدنية مثل دعوى الطلاق المترتبة على جريمة الزنا.

وحقيقة الأمر في هذا المجال أن الضرر الواقع على الزوجة لا يقتصر أمر إثباته على البينة وحدها، إذ هو يثبت بكافة طرق الإثبات القانونية الشرعية، فهو يثبت بإقرار الزوج به، كما يثبت بالأوراق الرسمية والعرفية والقرائن، فضلاً عن البينة، أما إذا لجأت الزوجة إلى اختيار البينة وسيلتها لإثبات الضرر الموجب التطليق، تعين عليها الالتزام بقيود البينة الشرعية على الضرر، وهو شهادة رجلان أو رجل وامرأتان يشهدان برؤيتهما وقائع اعتداء الزوج على الزوجة مشاهدة العين كما سلف القول.

وعلى ذلك فإن الزوجة تستطيع أن تلجأ في إثبات وقائع إضرار الزوج بها إلى غير البينة الشرعية، ويدخل ضمن تلك الوسائل الأخرى ما عساه يكون قد صدر ضد الزوج من أحكام جنائية باتة تدينه لثبوت اعتدائه على الزوجة بالضرب مثلاً، وذلك شريطة أن يكون الحكم الجنائي ضد الزوج بالإدانة هو لعقابه عن ذات وقائع الاعتداء التي تستند إليها الزوجة في دعواها بالتطليق للضرر.

أما إذا اختلفت واقعة اعتداء الزوج والتي صدر ضده الحكم الجنائي بشأنها عن تلك التي تستند إليها الزوجة في دعواها بالتطليق انتفت حجية الحكم الجنائي المذكور لاختلاف المحل في كل منها.

وعلى ذلك فالحكم الصادر في الدعوى الجنائية – وعلى ما استقر عليه قضاء محكمة النقض – يجب أن تكون له حجية الشيء المحكوم فيه أمام المحكمة المدنية – ومنها محاكم الأحوال الشخصية.

وليست العلة في ذلك إتحاد الخصوم والموضوع والسبب في الدعويين، وإنما هي في الواقع لتوافر الضمانات المختلفة التي قررها المشرع في الدعاوى الجنائية ابتغاء الوصول إلى الحقيقة فيها لارتباطها بالأرواح والحريات بما يقتضي أن تكون الأحكام الجنائية محل ثقة الناس على الإطلاق، وأن تبقى آثارها نافذة على الدوام.

وهو ما يستلزم حتماً ألا تكون هذه الأحكام معرضة في أي وقت لإعادة النظر في الموضوع الذي صدرت فيه حتى لا يجر ذلك إلى تخطئتها من جانب أيا من جهات القضاء، ذلك أنه ليس من المقبول في النظام الاجتماعي أن توقع المحكمة الجنائية العقاب على شخص من أجل جريمة وقعت منه ثم تأتي المحكمة المدنية فتقضي بأن الفعل المكون للجريمة لم يقع منه.

وتأكيدا لهذا الاتجاه ذهبت محكمة النقض إلى أنه متى كانت الدعامة الأساسية – التي أقام عليها الحكم قضاءه بالتطليق هي ما ثبت للمحكمة من أن الطاعن قام بطرد زوجته – المطعون ضدها – من منزل الزوجية ودأب على سبها وهي تكفي وحدها لحمل الحكم، وكان يبين أن أحد الحكمين الجنائيين خاص باعتداء الطاعن على شخص لا صلة له بالدعوى، وأن الثاني انتهى إلى تبرئة الطاعن من تهمة الاعتداء بالضرب على المطعون عليها وكان الحكم لم يؤسس قضاءه على هذه الواقعة فإن التذرع بالحجية يكون لا سند له.

ويعد من نافلة القول الإشارة إلى أن إعمال مبدأ الحجية على النحو السابق شرحه تتولاه المحكمة من تلقاء نفسها، إذا ما انطوت الأوراق على حكم جنائي بات، حيث يتعين على المحكمة الاستناد إليه والقضاء على أساسه لكفايته وحده في هذه الحالة لحمل الحكم بالتطليق.

أما إذا لم يصل الحكم الجنائي إلى هذه المرتبة جاز لمحكمة الأحوال الشخصية الاستناد إليه في إثبات إضرار الزوج بزوجته ولكن كمجرد قرينة ضمن قرائن أخرى يتعين توافرها في الدعوى.

وقد أوجب المشرع على المحكمة أن تعرض الصلح على طرفي الدعوى قبل إصدار الحكم فيها فإن هي أغفلت ذلك وقضت في الدعوى اعتبر حكماً معيباً بالخطأ في تطبيق القانون مما ينحدر به إلى مرتبة البطلان – باعتبار أن شرطي الحكم بالتطليق للضرر هما ثبوت الضرر والعجز عن الإصلاح بين الزوجين.

زر الذهاب إلى الأعلى