حتمية الانبعاث الجديد
بقلم: أ. محمد شعبان
من سنن الكون الخالدة أن كل هبوط يتبعه صعود، وكل كساد يتبعه انتعاش، وكل غروب يتبعه شروق. لذلك فمن المتعين عندما تُشرق الشمس، أن تجدَ أُناساً يستنيرون بنورها، ويستقوون بطاقتها. ويقيني بأن هذا السكون البادي في مجتمعنا سيتبعه حتماً انبعاث جديد !! نعم.. هذا الانبعاث منبعه الطموحات والآمال، والإيمان الصادق بمستقبل الوطن، وبأهمية الإنسان في رسم معالمه، ومحاورِ ارتكاز نهضته.
لهذا حينما يحين وقت الانبعاث فينبغي أن يكون هذا الإنسان موجوداً، ومهيئ فحتماً ستتغير المعادلة، ولن تستمر حالة الفانتازيا الاجتماعية، وسيعود كل شيء لواقعيته، ولكنّ ذلك مرهونٌ بشيء واحد. هو الإنسان!!
نعم الإنسان.. الإنسان الذي على كاهله تُبنى الأوطان، فيَسير في طرائقها المظلمة، حاملاً مشعل النور في يده ليُذهِب به ظلماتُ الجهل والفساد، ويستعيد من خلاله الأمل، بالعلم والعمل الجاد والأمين.
وإذا كان الانبعاث الجديد حتمي، إلا أن تحدياته جسيمة وعظيمة، وأهم هذه التحديات على الإطلاق هو ذلك الإنسان.
لذلك فأولويات التمهيد للانبعاث الجديد، تتمثل في إعارة هذا الإنسان الاهتمام، وحمايته من مخاطر اليأس والقنوط.
فإصلاح الأوطان لا يتسنى أن توقِفَ مسيرتَها عثراتُ الإحباطِ واليأسِ والقنوط، وإنما تحتاج هذه المسيرة لذلك الإنسان، ذا الإيمان القوي، والعزم الفتيّ.
ونقصد بالإيمان في هذا المقام تلك القوة المعنوية الداخلية التي تدفعُ الإرادة نحو تحقيق موجبات الانبعاث الجديد.
وهذا الإيمان يتدرج، فينطلق من الإيمان بالله الواحد الذي خلق الأرض واستعمر الإنسان فيها وأمره بالإصلاح لينظر كيف يعمل، وكذا الإيمان برسالاته التي نَزَلت على الرسلِ جميعاً لتَخُطَ تخومَ الحق، وتحفظَ على البشرِ أعراضَهم ودمائَهم وأموالَهُم ونَسلَهم، ومن قبل كل هذا ايمانهم بخالقهم وبالغاية التي أوجدهم من أجلها على ظهر البسيطة. ويأتي على مدارج الإيمان كذلك، الإيمان بالإنسان كعامل من عوامل الانبعاث الجديد.
لذلك فحري بمن يحلُمون بالانبعاث الجديد، أن يسعوا لتغيير الإستراتيجية، وإعادة توجيه الدفة إلى ذلك الإنسان.
فالوطن الآن يحتاج إلى صياغة منظومة قيم جديدة، أو بتعبير أدق يحتاج إلى تجديد حقيقي في منظومة القيم المجتمعية فقيمة المواطنة بما تتضمنه من معاني التفاعل والمشاركة والتكافل والتضامن والمواساة والتعايش وقبول الآخر، تحتاج إلى تجديد وترسيخ لقيم الأخلاق والدين كوازعين حقيقيين يسهمان بفعالية في توجيه سلوك الإنسان، فيجعلانه يبني ولا يهدم، ييسر ولا يُعَوِق، يشارك ولا يغالب، مأخوذاً في ذلك بمرجعيته التي ترتكز على إعلاء قيمة الوطن الذي يعيش فيه، والذي سيكون محضنا آمنا له يباشر فيه كل أنشطته الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية بكل حرية واقتدار، ليخرج من ذلك بفلسفة جديدة نحو بناء حضارة نباهي بها الأمم .
لنضع إذن نصب أعيننا على الإنسان. فكل منا إنسان، وحتماً لابد أن يبدأ بنفسه ليُقوي دعائمها، فإن كان في قبله فساد فهو أعلم بنفسه، فيسعى إلى إصلاحه، مستهدياً في ذلك بقيم الدين وما يفرضه من وازع يلجم صاحبه عن اتيان المعاصي والخطايا. وإن كان في سلوكه اعوجاج وعدم تكيف مع منظومة القيم المجتمعية النابعة من النظام العام السائد في المجتمع، فليُلجم وساق نفسه، ويلزمها باحترام منظومة الأخلاق، وفي حالة ما إذا رغب في مباشرة حق من حقوقه أو التمتع بحرية من الحريات المكفولة له، فليتوقف بهما عند حريات وحقوق الآخرين.
ويأتي بعد بناء الإنسان قيمياً وأخلاقياً، أن يمتلئ بالثقافة، وهو ما يستدعي أهمية القراءة. بما يوجب أن نضع نصب أعيننا على قراءة التاريخ، وتتبع آثار السابقين، ففي ذلك دراية كبيرة بكيفية التعامل مع الحاضر، وكما قالوا من ليس له ماضي ليس له حاضر، كما يتعين مدارسة تجارب الدول الناجحة التي نهضت وسطرت أروع صور الملحمة في مؤلفات الحضارة، وشيدت صروحها على أكتاف الإنسان. فمن المهم الوقوف أمام هذه التجارب لنتعلم كيف تنهض الأمم، ولتتحقق الاستفادة من تجاربها الناجحة، والعمل على بلورتها وتكييفها مع ظروف مجتمعنا.
ومن المهم إلى جانب ذلك كله العمل على إيجاد المحاضن الثقافية التي من شأنها أن تساعد على إبراز الإبداع والابتكار الثقافي والفكري، بما يلفت النظر إلى أهمية إعادة فكرة (الصالونات الثقافية) في المدن والأحياء وداخل صروح التعليم كالجامعات والمدارس، فهذه الصالونات تُزكي حرية التعبير والإبداع الثقافي والفكري، وتُرسخُ من قيمِ التعايش وقبول الآخر، وتضعُ التعددية والحوار ونبذ العنف والإيمان بالرأي والرأي الآخر موضع التطبيق الفعال.
وينبغي كذلك التركيز على التعلم والتعليم، فكل منا مُعلم وتلميذ، يُعلم ويتعلم. فليكن كل إنسان في هذا الوطن ظهيراً لأخيه يتعلم لينقل إلى غيره، فيعلمهم ويزكيهم. فبهذا تُخلق قيم التكافل وتَخْفُت قيم الحقد والضغينة المرذولة.
وإلى جانب ما سبق، يتعين كذلك التركيز على قيمة العمل، والحث على إتقانه وتحقيق جودته، لأن العمل المُتقن هو الطريق إلى الإنتاج ورفع معدلات النمو الاقتصادي بما ينعكس على سائر معدلات النمو الأخرى. وتحقيق الجودة في العمل يستلزم التخلي عن اللامبالاة والبيروقراطية، وإعلاء قيم الشفافية والمشاركة والمساءلة ومحاربة الفساد، وأن يستشعر كل فرد في المجتمع أنه على ثغر، وأن تحت يده أمانة وهذه الأمانة ينبغي أن تُؤدى إلى مستحقيها.
واستخلاصاً مما تقدم، يمكن القول بأن الانبعاث الجديد الذي ستشرق معه شمس نهضة هذا الوطن، لن يكون إلا بالعبور عبر طريق الإنسان، بإصلاحه عقدياً واخلاقياً واجتماعياً وثقافياً. وهذا الإصلاح هو البوابة الرئيسية لتحقيق أي تغيير اجتماعي أو سياسي ترتكز عليه محاور الانبعاث الجديد.
لذلك فلم أعد أؤمن بالفكر الثوري الذي يسعى إلى التغيير الاجتماعي والسياسي الجذري المفاجئ، من خلال الثورة والاحتكام لصوت الجماهير التي غالباً ما تبني قناعاتها من منطلق الحماسة الفوارة والعواطف المتهورة، والتي غالباً ما لا تستطيع الصمود أمام رغباتها الفئوية، فسرعان ما يتبدل سلوكها ويتغير، فنراها قد ارتدت على أعقابها، مرتضية عودة الأوضاع التي ثارت من أجلها، مُعرضةً من كانوا يُنَظِّرون لها لخطر الإقصاء والإبعاد الاجتماعي، وما ذلك إلا لتجاهل الركن الجوهري من أركان التغيير وهو الإنسان الصالح الذي ينصلح به المجتمع.
وعدم إيماني بفكرة التغيير بالثورة مستمدٌ من النظر إلى ظروف المجتمع الحالية، ومنظومة أخلاقه المهترئة التي من شأنها أن تجعل الفوضى حليف أي عمل ثوري، نتيجة لكون الفوضى دائماً ما تُولَدُ من رحمِ الأخلاق الفاسدة التي تؤثر المصالح الخاصة على المصلحة العامة، حتى لو كان الضحية هو الوطن ذاته، فضلاً عن أنه في الغالب أن يكون لكل ثورةٍ ثورةٌ مضادة تسعي لإخمادها، مستخدمةً في ذلك قوة المال والسلاح، بالنظر إلي أن الجماهير الثائرة ربما لم يكن لديها الوعي الكافي الذي تؤمن بمقتضاه بأهداف ثورتها مثلما حدث في الحالة المصرية.
لذلك فالرهان كل الرهان على بناء الإنسان والنهوض به وإيقاظ الوعي المُخدر لديه. فالإنسان الواعي صاحب الفكر الثاقب والموضوعية المتجردة هو الصخرة التي تتحطم عند أعتابها أفكار الاستبداد.
فبالإنسان الواعي المستبصر المستنير الموضوعي، ستترسخ منظومة النهضة التي تقوم على قيم الديمقراطية والحكم الرشيد التي تجعل من الحاكم مسئولاً ومن المحكوم مسئولاً، أمام هذا الوطن الذي يحتاج من الجميع الغيرةُ على مقدراته ورفع رايته ليشق طريقه وينثر اشعاع حضارته ويضيء الطريق ليكون مثالاً يحتذي بين الأمم بعد أن يتحقق له انبعاثه الجديد.