جريمة قتل نيرة أشرف.. إعدام القاتل مع عفو أولياء الدم
مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر
أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
في يوم الثلاثاء الموافق الثامن والعشرين من يونيو 2022م، قررت محكمة جنايات المنصورة إحالة أوراق المتهم محمد عادل، المتهم بقتل نيرة أشرف، طالبة جامعة المنصورة، إلى فضيلة المفتي، مع تحديد يوم جلسة الأربعاء الموافق الثامن من يوليو 2022م للنطق بالحكم. وفي الوقت الذي ينتظر به الرأي العام المصري قرار مفتي الجمهورية بشأن حكم الإعدام على القاتل، الذي سدد للمجني عليها عدة طعنات نافذة بمختلف أجزاء جسمها، ذكرت وسائل الإعلام أن أفراد أسرة القتيلة تلقوا عروض مالية للعفو عن قاتل ابنتهم، وذلك عبر رسائل إلكترونية عبر موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» من عدة حسابات مجهلة (راجع على سبيل المثال: بوابة جريدة الوطن الالكترونية، القاهرة، ملحق ألوان، الجمعة الموافق الأول من يوليو 2022م، خبر تحت عنوان «رسائل غامضة لأسرة طالبة المنصورة: عرض بـ 5 ملايين جنيه مقابل رقبة محمد عادل»؛ بوابة جريدة الوطن الالكترونية، القاهرة، الجمعة الموافق الأول من يوليو 2022م، خبر تحت عنوان «والدة نيرة أشرف تفجر مفاجآت بشأن طلب تعويض مليون جنيه ورسائل الفدية»؛ بوابة جريدة الوطن الالكترونية، القاهرة، الجمعة الموافق الأول من يوليو 2022م، خبر تحت عنوان «حملة لجمع دية نيرة أشرف.. والأسرة ترفض: دم بنتنا أغلى من كنوز الدنيا»).
وعلى الرغم من أن أسرة القتيلة قد ردت على تلك العروض بالرفض، فإن البعض تساءل عن حكم الشرع في هذه الحالة (راجع على سبيل المثال: بوابة جريدة الوطن الالكترونية، القاهرة، ملحق ألوان، الجمعة الموافق الأول من يوليو 2022م، عرض دية بـ 5 ملايين جنيه يثير غضب أسرة نيرة أشرف والأهالي.. ما حكم الشرع؟). وجاءت صيغة التساؤل في بعض الأحوال على النحو الآتي: هل يجوز دفع الدية في جريمة القتل العمد؟ (راجع على سبيل المثال: بوابة جريدة الوطن الالكترونية، القاهرة، الجمعة الموافق الأول من يوليو 2022م، خبر تحت عنوان «أثارتها قضية نيرة أشرف.. هل يجوز دفع الدية في جريمة القتل العمد؟»). وجاءت صيغة التساؤل أحياناً على النحو الآتي: ما هو موقف الدية في القانون المصري، وهل في حالة الحصول عليها يتم تخفيف حكم الإعدام (راجع على سبيل المثال: بوابة جريدة الوطن الالكترونية، القاهرة، الجمعة الموافق الأول من يوليو 2022م، خبر تحت عنوان: مصير قاتل نيرة أشرف في حال قبول الدية.. مفاجأة بـ «نص القانون»).
الأهمية القانونية للتساؤل عن الحكم الشرعي
رغم أن البعض يقول إن القانون الجنائي المصري لا يعرف نظام الدية أو الصلح في جرائم القتل العمد (راجع على سبيل المثال: د. محمد جبريل إبراهيم، لا دية ولا صلح في جرائم القتل العمد، موقع أوان مصر، القاهرة، مقالات وآراء، الجمعة الموافق الأول من يوليو 2022م)، فإن التساؤل عن الحكم الشرعي في حالة عفو أولياء الدم قد ثار فعلاً في بعض الدعاوى المنظورة أمام المحاكم المصرية، على أساس أن المادة السابعة من قانون العقوبات المصري تنص على أن «لا تخل أحكام هذا القانون في أي حال من الأحوال بالحقوق الشخصية المقررة في الشريعة الغراء»، الأمر الذي يبدو معه من الضروري بيان حكم الشرع في هذه المسألة.
كذلك، فإن البعض قد يطعن بعدم دستورية نصوص تجريم القتل العمد، في حالة عفو أولياء الدم، مبيناً وجه الطعن بأن المشرع قد أغفل بيان الحكم واجب التطبيق في حالة عفو أولياء الدم. ومن ثم، يبدو من الملائم محاولة الإجابة عن التساؤل سالف الذكر.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن المادة 381 الفقرة الثانية من قانون الإجراءات الجنائية المصري توجب على محكمة الجنايات قبل إصدار الحكم بالإعدام أن «تأخذ رأي مفتي الجمهورية، ويجب إرسال أوراق القضية إليه، فإذا لم يصل رأيه إلى المحكمة خلال عشرة الأيام التالية لإرسال الأوراق إليه حكمت المحكمة في الدعوى». وعلة هذا الإجراء أنه «يدخل في روع المحكوم عليه بالإعدام اطمئناناً إلى أن الحكم الصادر بإعدامه إنما يجئ وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، إلى جانب ما لهذا من وقع لدى الرأي العام الذي ألف هذا الإجراء طويلاً» (التقرير الثاني للجنة التشريعية بمجلس النواب تعليقاً على المادة 384 من مشروع قانون الإجراءات الجنائية التي صارت المادة 381 من القانون). وعلى حد قول بعض الفقع، «الأهمية الحقيقية لهذا الإجراء هي إقناع الرأي العام بأن المحكمة قد علمت بحكم الشريعة الإسلامية في الوقائع المطروحة عليها، وما إذا كانت تجيز الحكم بالإعدام، أو أنها على الأقل قد بذلت ما في وسعها لكي تحصل على هذا العلم، ومن المحتمل أنه إذا علمت المحكمة بحكم الشريعة أن تحرص على اتساق حكمها معه. ولا تجاوز أهمية الإجراء ذلك، فهو لا يقنع بأن الحكم بالإعدام يجئ حتماً مطابقاً للشريعة الإسلامية، ولو كان الشارع حريصاً على اتساق الحكم بالإعدام مع قواعد الشريعة الإسلامية، وحريصاً كذلك على أن يكون المفتي هو الذي يقرر ذلك، فقد كان عليه أن يجعل رأيه إلزامياً، وأن يوجب على المحكمة انتظاره للمدة التي يرى ضرورتها لدراسة الدعوى» (د. محمود نجيب حسني، شرح قانون الإجراءات الجنائية، وفقاً لأحدث التعديلات التشريعية، دار النهضة العربية، القاهرة، 2013م، الجزء الثاني، رقم 1022، ص 1027، هامش رقم 6).
وإذا كان الاجماع الفقهي منعقد على أن رأي المفتي ليس إلزامياً للقاضي، فإن استقراء الحالات التي تم فيها استطلاع رأي المفتي تشير إلى أن المحكمة قد التزمت برأي المفتي فيما عدا قضيتين فقط. وتجد هذه الملاحظة تبريرها في أن المادة 381 الفقرة الثانية من قانون الإجراءات الجنائية المصري تنص في صدرها على أن «لا يجوز لمحكمة الجنايات أن تصدر حكماً بالإعدام إلا بإجماع آراء أعضائها». ومن ثم، يبدو مستساغاً أن يتخلف إجماع آراء أعضاء المحكمة حال انتهاء رأي المفتي إلى عدم جواز الحكم بالإعدام.
التساؤل عن مقدار الدية أم عن أثرها على عقوبة الإعدام
رداً على التساؤل عن الدية في خصوص قضية قتل الطالبة «نيرة أشرف»، يشير البعض إلى حكم الشرع في دية القتل العمد من أجل تخفيف حكم الإعدام، مؤكداً أن دار الإفتاء المصرية سبق وفسرت الأمر بناء على سؤال ورد إليها ينص على: «ما دية القتل العمد عند العفو عن القاتل؟ وحكم المطالبة بتقديم الكفن؟»؛ لتجيب أمانة الفتوى بأن الدية شرعاً هي المال الواجب في النفس أو فيما دونها، ودية القتل العمد تكون حال تنازل أولياء الدم جميعِهم أو بعضهم عن القِصاص، وتكون مغلظةً وحالّةً في مال القاتل. وأضافت دار الإفتاء أن مقدار دية القتل العمد على ما عليه الفتوى في مصر 47 كيلو و600 جراما من الفضة بقيمتها يوم ثبوت الحق رِضاء أو قَضاءً، مشيرة إلى أن تُوزَّع الديةُ على أولياء الدم على حسب أنصبائهم في الميراث الشرعي من القتيل، وإن عفا أحدهم عن نصيبه في الدية، فلا يسقط حقُّ الباقين في نصيبهم منها بحسب سهمه الشرعي في الميراث. كما استكملت دار الإفتاء فتواها، قائلة إن «أما ما اعتاده بعض الناس مما هو فوق ما أوجبه الشرعُ الشريف من قصاص أو دية فلا يَحِلّ ولا يُشرَع، بل نهى عنه الله تعالى وعَدَّه من الإسراف المذموم؛ فلا يحل لأهل القتيل، ويجب مطالبة أهل القاتل بتقديم الكفن على ملأ من الناس أو غير ذلك مما يزيد عن القصاص الذي يحكم به القاضي، أو الدية عند العفو عن القصاص».
والواقع أن الموضوع يثير مسألة أخرى أكثر أهمية، وهي مدى جواز إعدام القاتل على الرغم من عفو أولياء الدم. وقد سبق إثارة المسألة ذاتها في قضية قتل سوزان تميم، والتي شهدت تنازل أولياء دم المجني عليها وتصالحهم بعد تقاضيهم مبلغاً مالياً من الجاني، الأمر الذي أثار التساؤل في حينه عن مدى جواز الحكم بالإعدام رغم عفو أولياء المجني عليها، لاسيما وأن جريمة قتل المطربة اللبنانية قد وقعت على أرض دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث تطبق أحكام الشرع الإسلامي بشأن جرائم القصاص والدية.
ونعتقد أن الإجابة عن هذا التساؤل تستلزم بيان أمرين: أولهما، مدى جواز تعزير المحكوم عليه مع عفو أولياء الدم في القتل. أما ثانيهما، فهو مدى جواز التعزير بالإعدام مع عفو أولياء الدم.
مدى جواز تعزير المحكوم عليه مع عفو أولياء الدم في القتل
في هذا الشأن، نرى من الضروري الإشارة إلى فتوى صادرة عن دار الإفتاء المصرية، تحت عنوان «تعزير المحكوم عليه مع عفو أولياء الدم في القتل». وقد صدرت هذه الفتوى بتاريخ السابع عشر من ديسمبر 2015م، بشأن الخطاب الوارد من فضيلة الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية من قلم كُتَّاب المحكمة الدستورية العليا بالرد على موضوع طعن يطلب فيه الطاعن قبول الطعن شكلًا، وبصفة عاجلة وقف تنفيذ الحكم الجنائي الصادر من محكمة الجنايات، والقاضي بمعاقبة الجاني بالسجن المؤبد، وذلك على النحو الوارد بطلباته الختامية بصحيفة الطعن المرفق صورة منها.
ورداً على هذا التساؤل، أجاب مفتي الديار المصرية، الأستاذ الدكتور/ شوقي إبراهيم علام بأنه: «إذا تنازل ولي الدم عن القصاص من القاتل بالتصالح على الدية أو بالعفو مطلقًا فإن ذلك يسقط القصاص عن القاتل، إلا أنه يجوز لولي الأمر إذا رأى المصلحة في إنزال العقوبة بالجاني أن يفعل ذلك على وجه التعزير، ولو كان ذلك بعد عفو أولياء الدم». وفي التفاصيل، يذكر فضيلة المفتي: «اطلعنا على المرفقات، وفيها منازعة التنفيذ بشق مستعجل لوقف تنفيذ الحكم الجنائي الصادر في الدعوى الدستورية المشار إليها بمعاقبة المنازع بالسجن المؤبد، وإنهاء آثاره الجنائية، المقدمة إلى السيد المستشار رئيس المحكمة الدستورية العليا من محامي المتهم». ومُحَصَّلُها ما يلي:
أولاً: ذكر وصف وقائع الدعوى المذكور على لسان محكمة جنايات بني سويف، وفيها أنه قد ظهر لها أن المتهم قد بَيَّت النية وعَقَد العزم على قتل المجني عليه، وأَعَدَّ لهذا الغرض سلاحًا أبيض، وتربص له بالمكان الذي أيقن سلفًا مروره فيه، ثم طعنه عدة طعنات في مقتل عن عمد وقصد (قتل عمد مع سبق الإصرار والترصد)، مما يستدعي معاقبته بعقوبة الإعدام – بحسب ما تقتضيه نصوص قانون العقوبات المصري رقم (230)، (231)، (232) -، والتي خُفِّفَت إلى السجن المؤبد – بناءً على نص المادة (17) من القانون المذكور.
ثانياً: المطالبة بوقف تطبيق مواد قانون العقوبات تلك في مواجهة المحكوم عليه المنازِع، بعد أن تصالح مع أولياء الدم، وقاموا بالتنازل في محضر رسمي تم توثيقه في الشهر العقاري، وعفو أولياء الدم عن القصاص يتعارض شرعاً مع الاستمرار في عقوبة المحكوم عليه، كما أن عفو أولياء الدم يعيد المحكوم عليه إلى حالة البراءة الأصلية.
ثالثاً: إيراد كلام طويل للإمام القرطبي في تفسيره حول أحكام القصاص في القتل العمد وقبول أولياء الدم للدية، وأن هذا القبول هو العفو المذكور في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 178]، وأنه إذا وقع الرضا بدون القصاص من دية أو عفو فذلك مباح.
رابعاً: إيراد ما حكمت به المحكمة الاتحادية العليا بإحدى الدول العربية في حكمها الصادر بجلسة 17/ 2/ 2014م بصدد الطعون أرقام 276/ 2009م، و73/ 2010م، و51/ 2011م؛ للاستئناس به على مطلبه؛ حيث قد ذهبت المحكمة المذكورة إلى أن العفو من أولياء الدم عن القصاص في الواقعة محل النظر والقضاء – بعد تأييد الحكم الابتدائي بقضاء الاستئناف وإقراره من المحكمة العليا والتصديق عليه من رئيس الدولة – يسقط القصاص شرعاً، وهو أمر يعلو على اعتبارات النظام العام وفق أحكام الشريعة الإسلامية الواجبة التطبيق، فحكمت على المتهمين في القضية المنظورة بسقوط القصاص عنهم، مع القضاء بحبس كل منهم ثلاث سنوات تعزيراً، وأن عليهم الكفارة بالصيام شهرين متتابِعَين توبة من الله.
خامساً: الاتكاء على المادة (7) من قانون العقوبات المصري، والتي تنص على أنه: [لا تخل أحكام هذا القانون في أي حال من الأحوال بالحقوق الشخصية المقررة في الشريعة الغراء]؛ على أساس أنه بناء عليها فلا بد من الاعتداد بتنازل أولياء الدم؛ لأنه من ضمن تلك الحقوق الشخصية.
سادساً: التمسك بالمادة (7) من الدستور المصري الصادر في العام 2014م؛ والتي تنص على أن: [الأزهر الشريف هو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية] اهـ.
والمادة (54) منه، والتي تنص على أن: [الحرية الشخصية حق طبيعي، وهي مصونة لا تُمَس… ولكل من تُقَيَّد حريته ولغيره حق التظلم أمام القضاء من ذلك الإجراء والفصل فيه خلال أسبوع من ذلك الإجراء، وإلا وجب الإفراج عنه فوراً] اهـ.
والمادة (95) منه، والتي تنص على أن: [العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون، ولا تُوقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون] اهـ.
والمادة (96) منه، والتي تنص على أن: [المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، تُكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه] اهـ.
باعتبار أن هذه القوانين هي من قبيل القانون الأصلح للمتهم، وقد نصت المادة (5) من قانون العقوبات المصري على أنه: [يعاقب على الجرائم بمقتضى القانون المعمول به وقت ارتكابها. ومع هذا إذا صدر بعد وقوع الفعل وقبل الحكم فيه نهائيًّا قانون أصلح للمتهم، فهو الذي يتبع دون غيره.
وإذا صدر قانون بعد حكم نهائي يجعل الفعل الذي حُكِم على المجرم من أجله غير معاقب عليه بوقف تنفيذ الحكم وتنتهي آثاره الجنائية.
غير أنه في حالة قيام إجراءات الدعوى أو صدور حكم بالإدانة فيها، وكان ذلك عن فعل وقع مخالفًا لقانون ينهى عن ارتكابه في فترة محددة، فإن انتهاء هذه الفترة لا يحول دون السير في الدعوى أو تنفيذ العقوبات المحكوم بها] اهـ.
وبناءً على ما سبق جميعه، فإن الطاعن يلتمس قبول المنازعة شكلاً، ووقف تنفيذ الحكم الجنائي الصادر ضد موكله بالسجن المؤبد في الجناية المذكورة، وإنهاء آثاره الجنائية بعد أن قضى ما يزيد على ثلاث سنوات ونصف سجيناً. (هذا هو مُحَصَّل ما جاء في المنازعة المذكورة).
ولا شك أن مقررات الشريعة الإسلامية أن القصاص من القاتل في القتل العمد هو الحكم الأصلي، وأن هذا حق لأولياء القتيل، ولكن مع ذلك ليس هو المسلك المتعين الوحيد؛ بل إن ولي الدم مخير في الجناية على النفس بين خصال: إما أن يقتص من القاتل، أو يعفو عنه إلى الدية أو بعضها، وإما أن يصالحه على مال مقابل العفو، أو يعفو عنه مطلقاً.
فإن اختار أولياء الدم استيفاء القصاص: كان على القاضي مساعدتهم حينئذٍ، وتمكينهم من نيل حقهم؛ كما قال عز وجل: ﴿وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ [سورة الإسراء: 33]؛ أي: مُعَانًا مِن قِبَل القضاء؛ فالمقتول منصور في الدنيا بثبوت القصاص بقتله وفي الآخرة بالثواب، ووليه منصور أيضاً؛ حيث أوجب الله تعالى له القصاص، وأمر الولاة بمعونته. انظر: «تفسير البيضاوي» (3/ 254، ط. دار إحياء التراث العربي).
وإن اختاروا – جميعاً أو بعضهم – العفو عن القصاص، أو المصالحة على الدية، وجبت لهم الدية حالَّة في مال القاتل، وكان عليه أداؤها إليهم دون مماطلة أو بَخْس، وإن اختاروا العفو مطلقاً فهو الأثوب والأكمل.
ودليل ذلك: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ [البقرة:178].
قال الإمام البيضاوي في «تفسيره» (1/ 122): [ما في الآية كأنه قيل: فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه؛ يعني: ولي الدم. وذكره بلفظ الأُخُوَّة الثابتة بينهما من الجنسية والإِسلام؛ ليرق له ويعطف عليه ﴿فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ﴾؛ أي: فليكن اتباع، أو فالأمر اتباع. والمراد به: وصية العافي بأن يطلب الدية بالمعروف؛ فلا يُعَنِّف، والمعفو عنه بأن يؤديها بالإِحسان؛ وهو أن لا يمطل ولا يبخس. وفيه دليل على أن الدية أحد مقتضى العمد، وإلا لما رتب الأمر بأدائها على مطلق العفو… ﴿ذلِكَ﴾؛ أي: الحكم المذكور في العفو والدية ﴿تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾؛ لما فيه من التسهيل والنفع. قيل: كُتِب على اليهود القصاص وحده، وعلى النصارى العفو مطلقًا. وخيرت هذه الأمة بينهما وبين الدية؛ تيسيرًا عليهم، وتقديرًا للحكم على حسب مراتبهم] اهـ.
ومن الأدلة أيضاً: قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾ [المائدة: 45]؛ أي: كفارة للعافي بصدقته على الجاني.
وكذلك قد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا يُودَى وَإِمَّا يُقَادُ».
وروى أبو داود عن أنس رضي الله عنه قال: «ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رُفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو».
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا».
ولأن القياس يقتضيه؛ فالقصاص حق لأولياء الدم، فإذا عَفَوا عن القصاص عفوًا مستوفيًا لشروطه: سقط القصاص بعفوهم، وجاز لهم تركه، كسائر الحقوق، بل إن العفو عن القصاص مندوب إليه شرعاً.
وقد وقع الإجماع على ذلك؛ قال ابن قدامة في كتابه «المغني» (8/ 352، ط: مكتبة القاهرة): [أجمع أهل العلم على إجازة العفو عن القصاص، وأنه أفضل] اهـ.
وكذلك فإن من مقررات الشريعة: أن ولي الأمر له السلطة في التعزير والعقوبة والتأديب على الجرائم دون الحَدِّيَّة. والحكمة منه: منع الجاني من معاودة الجريمة، ومنع غيره من ارتكابها، مع ما فيه من الإصلاح والتهذيب.
والدليل على جواز التعزير: ما رواه النسائي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الثمر المعلق، فقال: «مَا أَصَابَ مِنْ ذِى حَاجَةٍ غَيْرِ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَىْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَىْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ، وَمَنْ سَرَقَ شَيْئًا مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُئْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَمَنْ سَرَقَ دُونَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ».
والخبنة: هي معطف الإزار وطرف الثوب؛ أي: لا يأخذ منه في ثوبه. يقال: أخبن الرجل إذا خبأ شيئًا في خبنة ثوبه أو سراويله. والجرين: موضع تجفيف التمر.
وقد نقل ارتكاب التعزير أيضاً عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. انظر: «معالم القربة في طلب الحسبة» لضياء الدين بن الأخوة القرشي الشافعي (ص: 190-191، ط. دار الفنون كمبريدج).
قال الإمام الماوردي في «الأحكام السلطانية» (ص: 344-347، ط. دار الحديث، القاهرة): [والتعزير: تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود، ويختلف حكمه باختلاف حاله وحال فاعله؛ فيوافق الحدود من وجهِ أنه تأديب استصلاح وزجر، يختلف بحسب اختلاف الذنب، ويخالف الحدود من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّ تأديب ذي الهيبة من أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاءة والسفاهة؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَقِيلُوا ذَوِى الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ»، فتَدَرَّج في الناس على منازلهم: فإن تَسَاوَوا في الحدود المقدَّرة: فيكون تعزير مَن جلَّ قَدْرُه بالإعراض عنه، وتعزير من دونه بالتعنيف له، وتعزير من دونه بزواجر الكلام وغاية الاستخفاف الذي لا قذف فيه ولا سب، ثم يعدل بمن دون ذلك إلى الحبس الذي يحبسون فيه على حسب ذنبهم وبحسب هفواتهم؛ فمنهم من يحبس يومًا، ومنهم من يحبس أكثر منه إلى غاية مقدرة.
والوجه الثاني: أنَّ الحد وإن لم يجز العفو عنه ولا الشفاعة فيه، فيجوز في التعزير العفو عنه، وتسوغ الشفاعة فيه، فإن تفرَّد التعزير بحق السلطنة وحكم التقويم، ولم يتعلق به حق لآدمي: جاز لولي الأمر أن يراعي الأصلح في العفو أو التعزير، وجاز أن يشفع فيه من سأل العفو عن الذنب. روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِى اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ».
ولو تعلق بالتعزير حَقٌّ لآدمي – كالتعزير في الشتم والمواثبة – ففيه حق المشتوم والمضروب، وحق السلطنة للتقويم والتهذيب، فلا يجوز لولي الأمر أن يسقط بعفوه حق للمشتوم والمضروب، وعليه أن يستوفي له حقه من تعزيز الشاتم والضارب، فإن عفا المضروب والمشتوم كان ولي الأمر بعد عفوهما على خياره في فعل الأصلح من التعزير تقويمًا، والصفح عنه عفوًا.
والوجه الثالث: أن الحد وإن كان ما حدث عنه من التلف هدرًا، فإن التعزير يوجب ضمان ما حدث عنه من التلف. قد أرهب عمر بن الخطاب امرأة فأخمصت بطنها فألقت جنينًا ميتًا، فشاور عليًّا عليه السلام، وحمل دية جنينها] اهـ.
وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه عند عفو أولياء الدم عن القاتل، يجوز لولي الأمر تعزيره، خاصة إن كان القاتل معروفًا بالشَّر؛ ليكون زجرًا له عن إيذاء المجتمع، وبعضهم رأى أن التعزير يطبق على كل حال. وهذا هو مذهب الإمام مالك رضي الله عنه؛ جاء في “الموطأ”: [قال مالك في القاتل عمدًا إذا عفي عنه أنه يجلد مائة جلدة ويسجن سنة] اهـ.
قال شارحه العلامة أبو الوليد الباجي في «المنتقى» (7/ 124، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وهذا على ما قال؛ أن القاتل عمدًا يُجلَد مائة ويُسجَن سنة، وقال ابن الماجشون: روي ذلك عن أبي بكر وعن علي رضي الله عنهما. قال القاضي أبو محمد: وقد كان يلزمه العقل، فلما لم يقتل وجب تأديبه، وأُلْحِق بالزاني يُقْتَل مع الإحصان، فإذا لم يقتل لعدم الإحصان: ضرب مائة وحبـس سنة، وقد قال ابن الماجشون في المَوَّازِيَّة والمجموعة: إنه لما عفا عنه مَن له العفـو، وبقيت لله عقوبة جعلناها كعقوبة الزنا البكر؛ جلد مائة، وحبس سنة، والله أعلم] اهـ.
وقال ابن أبي زيد القيرواني في «الرسالة» (2/ 185 – مع شرح الفواكه الدواني للنفراوي -، ط. دار الفكر): [ومَن عُفي عنه في العمد: ضُرِب مائة، وحُبس عامًا] اهــ.
ونقل الحافظ ابن عبد البر في «الاستذكار» (8/ 181، ط. دار الكتب العلمية) هذا المذهب عن أهل المدينة، وحكاه أيضاً هو والقرطبي عن الإمامين الليث بن سعد والأوزاعي.
ونقل القرطبي عن أبي ثور – واستحسنه – أن القاتل الذي يعفو عنه أولياء الدم إن كان يُعْرَف بالشر: فيؤدبه ولي الأمر على قدر ما يرى أنه يردعه. انظر: «الجامع لأحكام القرآن» (3/ 84، ط. مؤسسة الرسالة).
والذي يظهر والعلم عند الله أن مقصد التعزير: هو جعله وسيلة لتأديب الجاني من ناحية، وردع غيره عن أن يُقْدِم على مِثْل فِعْله من ناحية أخرى.
وتحديد التعزير بالقدر المذكور في مذهب مالك وغيره هو تحديد اجتهادي لا نص فيه، وليس مقصوداً في نفسه، بل إن مرجعه إلى تحقيق المصلحة الخاصة والعامة، وتحديد تلك المصلحة مَرَدُّه إلى ولي الأمر الذي لا يكون تصرفه على الرعية إلا منوطاً بالمصلحة – كما هو مقرر في قواعد الفقه. انظر: «الأشباه والنظائر» (ص: 121، ط. دار الكتب العلمية)، ولذلك جعل أبو ثور تحديد القدر الرادع في حق مُعتاد الشر أمرًا تقديريًّا لولي الأمر.
ومن هذا المنطلق قد قضت المحكمة الاتحادية العليا بإحدى الدول العربية في حكمها الصادر بجلسة 17/ 2/ 2014م بصدد الطعون أرقام 276/ 2009م، و73/ 2010م، و51/ 2011م بسقوط القصاص عن المتهمين في القضية بعد عفو أولياء الدم عنهم، مع حبس كل واحد منهم ثلاث سنوات تعزيراً، وأن عليهم الكفارة بالصيام شهرين متتابِعَين توبة من الله.
مع الأخذ في الاعتبار أن المنصوص عليه في المادة رقم (1) من الباب التمهيدي والقواعد العامة من قانون الإجراءات الجزائية لدولة الإمارات أنه: [تُطَبَّق أحكام هذا القانون في شأن الإجراءات المتعلقة بالجرائم التعزيرية، كما تُطَبَّق في شأن الإجراءات المتعلقة بجرائم الحدود والقصاص والدِّيَة فيما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية] اهـ، مما يدل على أن المحكمة المذكورة قد رأت أن حكمها السالف الذكر هو الذي يحقق الردع المطلوب، وفي نفس الوقت لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.
والمتأمل في النصوص الفقهية بوجه عام يجد أن ملحظ تحقيق الانزجار هو مدار التعزير حتى عند من لم يرَ مشروعية عقوبة القاتل الذي عفا عنه أهل الدم؛ أو لم يرَ أنه يجوز أن تبلغ العقوبة قدر الحد، فنجدهم قد اتفقوا في التأصيل، ثم بعد ذلك قد اختلفوا في التطبيق لمعانٍ أخرى أرجح عندهم.
فيقول العلامة الكاساني من الحنفية في «بدائع الصنائع» (7/ 64، ط. دار الكتب العلمية): [من مشايخنا من رتب التعزير على مراتب الناس؛ فقال: التعازير على أربعة مراتب: تعزير الأشراف؛ وهم الدهاقون -أي: رؤساء القرى- والقواد، وتعزير أشراف الأشراف؛ وهم العلوية والفقهاء، وتعزير الأوساط؛ وهم السوقة، وتعزير الأَخِسَّاء؛ وهم السِّفْلة. فتعزير أشراف الأشراف: بالإعلام المجرد؛ وهو أن يبعث القاضي أمينه إليه فيقول له: بلغني أنك تفعل كذا وكذا، وتعزير الأشراف بالإعلام والجر إلى باب القاضي، والخطاب بالمواجهة، وتعزير الأوساط بالإعلام والجر والحبس، وتعزير السفلة: بالإعلام والجر والضرب والحبس؛ لأن المقصود من التعزير هو الزجر، وأحوال الناس في الانزجار على هذه المراتب] اهـ.
وجعل الحنفية تقدير المدة في التعزير بالحبس راجعاً لولي الأمر؛ قال ابن نجيم في «البحر الرائق» (5/ 46، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وتقدير مدة الحبس راجعة إلى الحاكم] اهـ.
وجاء في «أوضح المسالك إلى مذهب الإمام مالك» و«الشرح الصغير» عليه للشيخ أحمد الدردير (4/ 503، 504، ط. دار المعارف): [(وعزر الحاكم) باجتهاده – لاختلاف الناس في أقوالهم وأفعالهم وذواتهم – (لمعصية الله) تعالى؛ وهي ما ليس لأحد إسقاطها؛ كأكل في نهار رمضان، وتأخير صلاة (أو لحق آدمي)؛ وهو ما له إسقاطه؛ كسَبٍّ، وضرب، وكل حق لمخلوق، فله فيه حق. وليس لغير الحاكم تأديب، إلا للسيد في رقيقه، والزوج في زوجته، أو والد في ولده غير البالغ، أو مُعَلِّم، ولا يجوز لحاكم أو غيره لعن ولا سب للمؤدب أو لوالديه، أو ضرب على وجه، أو شَين عضو. ويكون التعزير (حبسًا) مدة ينزجر بها بحسب حاله (ولومًا) ينزجر به؛ كتوبيخ بكلام… (وبالقيام من المجلس وبنزع العمامة) من فوق رأسه (وضرباً بسوط وغيره)؛ كقضيب ودِرَّة، وصفع بالقفا، وقد يكون بالنفي؛ كالمزورين، وبإخراج من الحارة؛ كمؤذي الجار، وبالتصدق عليه بما غش به] اهـ.
وقال الإمام الماوردي الشافعي في «الأحكام السلطانية» (ص: 344، ط. دار الحديث، القاهرة): [والتعزير…تأديب استصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف الذنب] اهـ.
وقال الإمام النووي في «روضة الطالبين» (10/ 174، ط. المكتب الإسلامي): [باب التعزير: هو مشروع في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة، سواء كانت من مقدمات ما فيه حد – كمباشرة أجنبية بغير الوطء، وسرقة ما لا قطع فيه، والسب والإيذاء بغير قذف -، أو لم يكن – كشهادة الزور والضرب بغير حق، والتزوير، وسائر المعاصي – وسواء تعلقت المعصية بحق الله تعالى، أم بحق آدمي، ثم جنس التعزير من الحبس أو الضرب جلدًا أو صفعًا إلى رأي الإمام، فيجتهد ويعمل ما يراه من الجمع بينهما والاقتصار على أحدهما، وله الاقتصار على التوبيخ باللسان على تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في «المغني» (9/ 149، ط. دار إحياء التراث العربي): [ما كان من التعزير منصوصاً عليه – كوطء جارية امرأته، أو جارية مشتركة – فيجب امتثال الأمر فيه، وما لم يكن منصوصاً عليه، إذا رأى الإمام المصلحة فيه، أو علم أنه لا ينزجر إلا به: وجب؛ لأنه زجر مشروع لحق الله تعالى، فوجب، كالحد] اهـ.
بل زاد بعض الفقهاء فأجاز التعزير بالقتل في بعض الأحوال؛ كأن تقتضي المصلحة العامة ذلك؛ كقتل المفسد إذا تكرر منه الفساد، وتعين القتل لدفع فساده، ولم يندفع بغيره.
قال العلامة ابن فرحون في كتابه «تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام» (2/ 297، ط. مكتبة الكليات الأزهرية): [وإذا قلنا: إنه يجوز للحاكم أن يجاوز الحدود في التعزير، فهل يجوز أن يبلغ بالتعزير القتل أو لا؟ فيه خلاف، وعندنا يجوز قتل الجاسوس المسلم إذا كان يتجسس للعدو، وإليه ذهب بعض الحنابلة، وأما الداعية إلى البدعة المفرق لجماعة المسلمين فإنه يُسَتَتاب، فإن تاب وإلا قتل. وقال بذلك بعض الشافعية في قتل الداعية؛ كالجهمية، والروافض، والقدرية، وصرح الحنفية بقتل من لا يزول فساده إلا بالقتل، وذكروا ذلك في اللوطي؛ إذا كثر منه ذلك: يقتل تعزيرًا] اهـ.
وقال المحقق ابن الهُمَام في «فتح القدير» (5/ 397، ط. دار الفكر): [من رأى الإمام قَتْلَه؛ لما شاهد فيه من السعي بالفساد في الأرض، وبُعْد الطباع عن الرجوع، فله قتله سياسة] اهـ.
وجاء في «كشاف القناع» للبهوتي الحنبلي (6/ 124، ط. دار الكتب العلمية): وقال – يعني: البعلي- في الاختيارات – يعني: كتابه: «الاختيارات الفقهية لابن تيمية» -: [إذا كان المقصود دفع الفساد، ولم يندفع إلا بالقتل: قتل، وحينئذٍ فمَن تَكَرَّر منه جنس الفساد، ولم يرتدع بالحدود المقدرة، بل استمر على الفساد: فهو كالصائل لا يندفع إلا بالقتل، فيُقْتَل] اهـ.
وعليه: فلا يُسَلَّم الدفع بأن تصالح الجاني مع أولياء الدم وإن أسقط الحد عن الجاني، فإنه يلزم أن يُسْقِط عنه أيضًا أي عقوبة أخرى؛ عسى أن يرى القاضي تعزيره بالعقوبة المناسبة.
وإسقاط الحق الشخصي لا يلزم منه دائماً سقوط الحق العام؛ الذي هو حق المجتمع – مُمَثّلاً في الدولة – في معاقبة الجاني؛ الذي قد أخل بأمن المجتمع وسلامته واستقراره بجرمه الذي ارتكبه.
وأما محاولة الاستئناس بالحكم السالف الذكر للمحكمة الاتحادية العليا بإحدى الدول العربية لتقرير أن العقوبة قد سقطت عن الجناة في القضية التي كانت تنظرها تلك المحكمة، فغير سديد؛ لأن الذي سقط عنهم فيها هو خصوص القتل حدًّا، وذلك لم يمنع المحكمة أن تحكم عليهم فيها بالحبس ثلاث سنوات تعزيرًا، فانتفى الحد وبقي التعزير المناسب الذي ارتآه القاضي.
ومن هذا يُعْلَم أن الاتكاء على المادة (7) من قانون العقوبات المصري – والتي تنص على أنه: [لا تُخِلُّ أحكام هذا القانون في أي حال من الأحوال بالحقوق الشخصية المقررة في الشريعة الغراء] اهـ؛ على أساس أنه بناء عليها فلا بد من الاعتداد بتنازل أولياء الدم؛ لأنه من ضمن تلك الحقوق الشخصية – غير سديد أيضاً؛ لأن معاقبة الجاني بالعقوبة المناسبة مع عفو أولياء الدم لم يسلب عنهم حقهم في العفو ألبتة، بل قررته، وانطلقت من حق ولي الأمر في التعزير وإن عفا أصحاب الحق.
ومثل هذا يقال في الاستناد للمادة (54) من دستور 2014م، والتي تنص على أن: [الحرية الشخصية حق طبيعي، وهي مصونة لا تُمَس…ولكل من تُقَيَّد حريته ولغيره حق التظلم أمام القضاء من ذلك الإجراء والفصل فيه خلال أسبوع من ذلك الإجراء، وإلا وجب الإفراج عنه فورًا] اهـ.
وأما المادة (95) منه، والتي تنص على أن: [العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا تُوقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون] اهـ، والمادة (96) منه، والتي تنص على أن: [المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، تُكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه] اهـ: فلا يظهر كونهما من قبيل القانون الأصلح للمتهم؛ بحيث يقال: إن الفعل الذي حكم على الجاني من أجله يصير غير معاقب عليه، ويُوقَف تنفيذه وتنتهي آثاره الجنائية؛ لأن العقوبة الواقعة عليه شخصية؛ ولم تمتد إلى غير الشخص المسؤول عن الفعل الإجرامي، وقد تم إدانته وتجريم فعله وعقوبته عليه بحكم قضائي، وهو ما حكمت به محكمة جنايات بني سويف بجلسة 8/ 4/ 2012م، وكان هذا الحكم بناءً على قانون سابق للجناية محل النظر، وهذا القانون هو ما جاء في المادة (230)، (231)، (232) من قانون العقوبات المصري رقم (58) لسنة 1937م، والتي تستدعي معاقبته بعقوبة الإعدام، وهي كما يلي:
المادة (230): [كل مَن قتل نفسًا عمداً مع سبق الإصرار على ذلك أو الترصد يُعاقَب بالإعدام] اهـ.
مادة (231): [الإصرار السابق: هو القَصْد المُصَمَّم عليه قبل الفعل لارتكاب جنحة أو جناية يكون غرض المُصِرِّ منها: إيذاء شخص معين، أو أي شخص غير معين، وجده أو صادفه، سواء كان ذلك القصد معلقًا على حدوث أمر، أو موقوفاً على شرط] اهـ.
مادة (232): [الترصد: هو تربص الإنسان لشخص في جهة أو جهات كثيرة مدة من الزمن طويلة كانت أو قصيرة؛ ليتوصل إلى قتل ذلك الشخص، أو إلى إيذائه بالضرب ونحوه] اهـ.
ثم خففت تلك العقوبة إلى السجن المؤبَّد بناءً على ما تسمح به المادة (17) من قانون العقوبات، والتي تنص على أنه: [يجوز في مواد الجنايات إذا اقتضت أحوال الجريمة المقامة من أجلها الدعوى العمومية رأفة القضاة تبديل العقوبة على الوجه الآتي:
– عقوبة الإعدام بعقوبة السجن المؤبد أو المشدَّد.
– عقوبة السجن المؤبد بعقوبة السجن المشدَّد أو السجن.
– عقوبة السجن المشدَّد بعقوبة السجن أو الحبس الذي لا يجوز أن ينقص عن ستة شهور (مستبدلة بالقانون رقم 95 لسنة 2003م).
– عقوبة السجن بعقوبة الحبس الذي لا يجوز أن ينقص عن ثلاثة شهور] اهـ.
والخلاصة: أن ولي الدم إذا تنازل عن القصاص من القاتل بالتصالح على دية أو بالعفو مطلقًا، فإن ذلك يسقط القصاص عن القاتل، وأنه يجوز لولي الأمر إذا رأى أن المصلحة في إنزال العقوبة المناسبة بالجاني أن يفعله على وجه التعزير، ولو كان ذلك بعد عفو أولياء الدم.
مدى جواز التعزير بالإعدام مع عفو أولياء الدم
في حكمها الصادر بتاريخ التاسع عشر من مارس 2012م، وبمناسبة الطعن رقم 97/ 2012 جزاء، قضت محكمة تمييز دبي بأن «المقرر أن الشريعة الإسلامية قد أعطت لولي الأمر فرض عقوبات تعزيرية بالنسبة للجرائم الخارجة عن نطاق القصاص والتي يري فيها ظروفا خاصة بالنسبة لصالح المجتمع واستقراره، والنيابة العامة هي القوامة على الدعوى العمومية التي تقام على المتهمين دون حاجة لدعوة أولياء الدم في مثل هذه الجرائم التعزيرية، ولما كان ولي الأمر وهو المشرع في الدولة قد رأى أن جريمة القتل العمد إذا ما اقترنت أو ارتبطت بجرائم أخرى حق على المتهم الإعدام تعزيراً لتعلق هذه الجريمة بأمن المجتمع ذاته. وإذ كانت النيابة العامة قد طلبت عقاب الطاعنين بمقتضي المواد (1، 61، 102/1، 103، 121/1، 313 مكرر، 331، 332، 333، 381، 382، 386/1) من قانون العقوبات وكانت الجرائم المعاقب عليها بمقتضي هذه المواد جرائم تعزيرية وضع لها المشرع عقوبة تعزيرية حمايةً لأمن المجتمع فمن ثم فهي بوصفها جريمة قتل عمد مقترن بجناية السرقة ليلاً مع التعدد وحمل سلاح لا تعتبر من جرائم القصاص في الشريعة الإسلامية وإن اتفقت معها في بعض أركانها وعلى الأخص قصد إزهاق الروح عمداً وأنها تقع على المجتمع الذي رأى ولي الأمر حمايته من مثل هذه الجريمة المشددة ومن ثم فلا مجال لإعمال عفو أولياء الدم وتطبيق الفقرة الثالثة من المادة 332 من قانون العقوبات إذ أن المشرع لم يطلب ذلك فيما وضعه من نصوص تعاقب على الجرائم بعقوبات تعزيرية وهو ما يتماشى مع قواعد العدالة والمنطق والقول بغير ذلك يجافي قصد المشرع وقواعد الشريعة إذ أنه لو اعتبرنا جريمة القتل المقترن من جرائم القصاص التي تنطبق عليها أحكام الشريعة الإسلامية والفقرة الثالثة من المادة 332 لترتب على ذلك أمور تتنافى مع العقل والمنطق فإذا كانت جريمة القتل مقترنة بجريمة السرقة ليلاً مع التعدد وحمل سلاح – كما في دعوانا الماثلة – واعتبرت جريمة قصاص يعاقب عليها بمقتضي الفقرة الثالثة من المادة 332 وهي الحبس مدة لا تقل عن سنة في حين أن الجريمة لو كانت جريمة سرقة ليلاً مع التعدد وحمل سلاح فقط يعاقب عليها بالسجن المؤقت مما لا يمكن قبوله عملاً بقواعد العدالة والتفسير الصحيح للقانون. لما كان ذلك، وكان الحكم المطعون فيه قد التزم هذا النظر وانتهى بحق إلى أن الجريمة الأولى المسندة للطاعنين ليست جريمة قصاص وإنما يعاقب عليها تعزيراً فإنه يكون قد صادف صحيح القانون ويكون منعي الطاعنين في هذا الشأن غير سديد».
وتتلخص وقائع هذا الحكم في أن النيابة العامة اتهمت شخصين بأنهما بتاريخ الحادي والعشرين من أغسطس 2009م، بدائرة اختصاص مركز شرطة المرقبات: أولاً: قتلا عمداً مع سبق الإصرار والترصد المغدور به، وذلك بأن بيتا النية على قتله وخططا لذلك وأعدا العدة بشراء سكين وشوال وما أن ظفرا به في مسكن المتهم الثاني حتى نفذا مكنون نيتهما عليه وغدرا به بأن سقياه مشروبات كحولية حتى يتمكنا منه وباستلقائه إنهالا عليه بطعنه في صدره وأخري في بطنه وثالثة في ظهره قاصدين إزهاق روحه، فأحدثا به الإصابات الموصوفة بتقرير الصفة التشريحية، والتي أودت بحياته، ومن ثم وضعاه بداخل كيس بلاستيكي وأخفياه في صندوق سيارته، وقد ارتبط القتل بجريمة أخري، وهي أنهما في ذات الزمان والمكان سرقا ليلاً، وكان أحدهما يحمل سلاح (سكين) محفظة المغدور به والتي تحتوي على مبلغ 500 درهم وهاتفه المتحرك وهي جناية السرقة ليلاً من شخصين أحدهما حاملاً سلاح والمؤثمة بالمادة 386/1 من قانون العقوبات الاتحادي. ثانياً: تعاطيا المشروبات الكحولية في غير الأحوال المصرح بها قانوناً.
وبناء على ذلك، طلبت النيابة العامة معاقبتهما بالمواد 1، 61، 102/1، 103، 121/1، 313 مكرر، 331، 332، 333، 381، 382، 386/1 من القانون الاتحادي رقم 3 لسنة 1987 بإصدار قانون العقوبات والمعدل بالقانونين الاتحاديين رقمي 34 لسنة 2005، 52 لسنة 2006.
وبجلسة السابع والعشرين من فبراير 2011م، حكمت محكمة أول درجة حضورياً وبإجماع آراء أعضائها بمعاقبة المتهمين بالإعدام عما أسند إليهما، وذلك بعد أن عدلت وصف التهمة الأولي باعتبارها جناية قتل عمد مقترن بجناية السرقة المؤثمة بالمادة 386/1 من قانون العقوبات.
لم يرتض المحكوم عليهما هذا الحكم، فطعنا عليه بالاستئناف، كما عرضت النيابة العامة هذا الحكم بالاستئناف رقم 1618/ 2011 بتاريخ العاشر من مارس 2011م. وبجلسة الخامس من فبراير 2012م، حكمت المحكمة الاستنئافية بقبول الاستئنافات الثلاثة شكلاً، وفي موضوع الاستئناف المقام من النيابة العامة برفضه، وفي موضوع الاستئنافات المقامة من المتهمين بالاكتفاء بمعاقبتهما بالسجن مدة خمس عشرة سنة وبتأييده فيما عدا ذلك.
طعن المحكوم عليهما في هذا الحكم بالتمييز الماثل بموجب تقرير مؤرخ في الخامس من مارس 2012م، مرفقاً به مذكرة بأسباب الطعن موقع عليها من محاميهما الموكل طلبا فيها نقضه. وينعى الطاعنان على الحكم المطعون فيه الخطأ في تطبيق القانون والقصور والتناقض في التسبيب، ذلك أنه قضي بإدانة الطاعنين إعمالاً لنص الفقرة الثانية من المادة 332 من قانون العقوبات رغم تقديمهما تنازلاً من أولياء الدم بما كان يستوجب إعمال الفقرة الثالثة من المادة 332 سالفة الذكر والقضاء عليهما بعقوبة الحبس الذي لا يزيد حده الأقصى على ثلاث سنوات طبقا لنص المادة 69/2 من قانون العقوبات، هذا إلى أن الحكم المطعون فيه أحال إلى أسباب الحكم الابتدائي رغم تناقضه معه إذ أورد الحكم الابتدائي أن أثار الدماء في موقع الحادث للمتهم الثاني اختلطت بدماء المجني عليه بينما أورد الحكم المطعون فيه أن المتهم الأول لحقت به إصابة بيده اليسرى وأخري باليمني من جراء فعلته النكراء. وذلك بما يعيب الحكم ويستوجب نقضه.
ورداً على هذا النعي، ذكرت محكمة تمييز دبي أن الحكم الابتدائي المؤيد لأسبابه والمكمل والمعدل بالحكم المطعون فيه بين واقعة الدعوى بما تتوافر به كافة العناصر القانونية للجريمتين اللتين دان الطاعنين بهما وأورد على ثبوتهما في حقهما أدلة سائغة لها معينها الصحيح من أوراق الدعوى ومن شأنها أن تؤدي إلى ما رتبه الحكم عليها مستمدة من اعتراف المتهمين بتحقيقات النيابة العامة، ومما ثبت من معاينة السيارة والجثة، وتقارير الأدلة الجنائية، وتقرير المختبر الجنائي، وتقرير الصفة التشريحية. لما كان ذلك، وكانت المادة 332 عقوبات المعدلة تنص على أنه: ((1)) من قتل نفساً عمداً يعاقب بالسجن المؤبد أو المؤقت ((2)) وتكون العقوبة الإعدام إذا وقع القتل مع الترصد أو كان مسبوقاً بإصرار أو مقترناً أو مرتبطاً بجريمة أخري أو إذا وقع على أحد أصول الجاني أو على موظف عام أو على مكلف بخدمة عامة أثناء وبسبب أو بمناسبة تأديته وظيفته أو خدمته او إذا استعملت فيه مادة سامة أو مفرقعة ((3)) وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل على سنة إذا عفا أولياء الدم عن حقهم في القصاص في أية مرحلة من مراحل الدعوى أو قبل تمام التنفيذ)) كما تنص المادة الأولي من قانون العقوبات على أنه (تسري في شأن جرائم الحدود والقصاص والدية أحكام الشريعة الإسلامية وتحدد الجرائم والعقوبات التعزيرية وفق أحكام هذا القانون والعقوبات التعزيرية الأخرى) لما كان ذلك، وكان من المقرر أن الشريعة الإسلامية قد أعطت لولي الأمر فرض عقوبات تعزيرية بالنسبة للجرائم الخارجة عن نطاق القصاص والتي يري فيها ظروفا خاصة بالنسبة لصالح المجتمع واستقراره، والنيابة العامة هي القوامة على الدعوى العمومية التي تقام على المتهمين دون حاجة لدعوة أولياء الدم في مثل هذه الجرائم التعزيرية، ولما كان ولي الأمر وهو المشرع في الدولة قد رأي أن جريمة القتل العمد إذا ما اقترنت أو ارتبطت بجرائم أخري حق على المتهم الإعدام تعزيراً لتعلق هذه الجريمة بأمن المجتمع ذاته. وإذ كانت النيابة العامة قد طلبت عقاب الطاعنين بمقتضي المواد (1، 61، 102/1، 103، 121/1، 313 مكرر، 331، 332، 333، 381، 382، 386/1) من قانون العقوبات وكانت الجرائم المعاقب عليها بمقتضي هذه المواد جرائم تعزيرية وضع لها المشرع عقوبة تعزيرية حماية لأمن المجتمع فمن ثم فهي بوصفها جريمة قتل عمد مقترن بجناية السرقة ليلاً مع التعدد وحمل سلاح لا تعتبر من جرائم القصاص في الشريعة الإسلامية وأن اتفقت معها في بعض أركانها وعلى الأخص قصد إزهاق الروح عمداً وأنها تقع على المجتمع الذي رأي ولي الأمر حمايته من مثل هذه الجريمة المشددة ومن ثم فلا مجال لأعمال عفو أولياء الدم وتطبيق الفقرة الثالثة من المادة 332 من قانون العقوبات إذ أن المشرع لم يتطلب ذلك فيما وضعه من نصوص تعاقب على الجرائم بعقوبات تعزيرية وهو ما يتمشى مع قواعد العدالة والمنطق والقول بغير ذلك يجافي قصد المشرع وقواعد الشريعة إذ أنه لو اعتبرنا جريمة القتل المقترن من جرائم القصاص التي تنطبق عليها أحكام الشريعة الإسلامية والفقرة الثالثة من المادة 332 لترتب على ذلك أمور تتنافي مع العقل والمنطق فإذا كانت جريمة القتل مقترنة بجريمة السرقة ليلاً مع التعدد وحمل سلاح – كما في دعوانا الماثلة – واعتبرت جريمة قصاص يعاقب عليها بمقتضي الفقرة الثالثة من المادة 332 وهي الحبس مدة لا تقل عن سنة في حين أن الجريمة لو كانت جريمة سرقة ليلاً مع التعدد وحمل سلاح فقط يعاقب عليها بالسجن المؤقت مما لا يمكن قبوله عملاً بقواعد العدالة والتفسير الصحيح للقانون. لما كان ذلك، وكان الحكم المطعون فيه قد التزم هذا النظر وانتهي بحق إلى أن الجريمة الأولي المسندة للطاعنين ليست جريمة قصاص وإنما يعاقب عليها تعزيراً فأنه يكون قد صادف صحيح القانون ويكون منعي الطاعنين في هذا الشأن غير سديد. لما كان ذلك، وكان من المقرر أن المحكمة الاسئتنافية إذا ما رأت تأييد الحكم المستأنف للأسباب التي بني عليها فليس في القانون ما يلزمها بأن تذكر تلك الأسباب في حكمها بل يكفي أن تحيل عليها إذ الإحالة على الأسباب تقوم مقام إيرادها وتدل على أن المحكمة قد اعتبرتها أسباباً لحكمها كما أنه من المقرر أن التناقض الذي يعيب الحكم هو الذي يقع بين أسبابه بحيث ينفي بعضها ما أثبته البعض الآخر ولا يعرف أي الأمرين قصدته المحكمة. لما كان ذلك، وكان الحكم المطعون فيه فيما أحال إليه من أسباب إلى الحكم الابتدائي وما أورده من أسباب مكملة لقضائه ليس فيه ثمة تناقض – على عكس ما يدعي الطاعنان بأسباب طعنهما – فأن ما يثيره الطاعنان في هذا الصدد لا يعدو أن يكون منازعة في تقدير الأدلة المطروحة في الدعوى ومن ثم فأن منعاهما في هذا الخصوص يكون في غير محله. لما كان ما تقدم، فإن الطعن برمته يكون على غير أساس متعين الرفض.
وعلى هذا النحو، ورغم أن محكمة تمييز دبي قد انتهت إلى رفض طعني المحكوم عليهما، بما مؤداه تأييد الحكم الصادر من محكمة الاستئناف بالسجن مدة خمس عشرة سنة، فإن الأسباب التي ذكرتها المحكمة الكائنة على قمة القضاء الدبوي تجعل من الجائز الحكم بالإعدام تعزيراً على المتهمين بالقتل، في حالات معينة، وذلك على الرغم من عفو أولياء دم القتيل.