جرائم القتل “الجزء الرابع “

بقلم : ياسر الحسنين القواس

استكمالا للمقال السابق، أتحدث اليوم عن موضوع { إثبات سبق الإصرار ، وتقدير توافر سبق الإصرار}،  إقامة العدالة خيراً من إزهاق روحها ، قولت المحامى وهو سيفها، لا يكبلا دفاعه إلا بسيف القانون ، إن تمكين المحامى من الدفاع هو أمراً ومبدأ نصت عليه دساتير العالم وشرائع وقوانين دول العالم ، بحيث لايقيد بقيد ولا يشترط عليه شرط ولا تفرض عليه عبارات ولا يمنعه أحداً، إلا طبقاً لما نص عليه القانون  فإن القانون اليوم هو جواد كل محامى باحثاً عن الحقيقة ومدافعا عن الحق ومطالباً بتحقيق العدل.

– سلطة محكمة الموضوع ، فى تقدير توافر سبق الإصرار :-
– فلمحكمة الموضوع بدايتا بخصوص تقدير توافر الظرف ، أن تكون عقيدتها بما تطمئن إليه من أدلة وعناصر الدعوى وأن يستخلص حسبما يؤدى إليه إقتناعها وأن تعرض عما يخالف من صور أخرى مادام إستخلاصها سائغا ومستندا إلى أدلة مقبولة فى العقل والمنطق ولها أصلها فى الأوراق ، ولها فى سبيل ذلك أن تستمد إقتناعها من أى دليل تطمئن إليه طالما أن هذا الدليل له مأخذ صحيح من الأوراق ، إذ من سلطة القاضى الجنائى أن يأخذ بأى دليل يرتاح إليه من أى مصدر شاء مادام مطروحاً على بساط البحث ، كما أن للمحكمة الجنائية أن تأخذ بالدليل الذى تطمئن إليه والذى يتوائم مع باقى الأدلة التى عول الحكم عليها فى أى مرحلة من مراحل الدعوى ، كما أنه تأسيسا على هذا المبدأ فإن القاضى الجنائى فى المواد الجنائية إنما يستند فى ثبوت الحقائق القانونية إلى الدليل الذى يقتنع به وحده ولا يجوز أن يؤسس حكمه على غيره .. ومن بعض الأمثلة :-
” لما كان ذلك ، وكان من المقرر فى تفسير المادة 231 من قانون العقوبات أن سبق الإصرار وهو ظرف مشدد عام فى جرائم القتل والجرح والضرب يتحقق بإعداد وسيلة الجريمة ورسم خطة تنفيذها بعيداً عن ثورة الإنفعال مما يقتضى الهدوء والروية قبل إرتكابها ، لا أن تكون وليدة الدفعة الأولى فى نفس جاشت بالاضطراب وجمح بها الغضب حتى خرج صاحبها عن عن طوره ، وكلما طال الزمن بين الباعث عليها وبين وقوعها صح إفتراضه ، وليست العبرة فى توافر ظرف سبق الإصرار بمضى الزمن لذاته بين التصميم على الجريمة ووقوعها _ طال الزمن أو قصر بل العبرة هى بما يقع فى ذلك الزمن من التفكير والتدبير وتقدير الظروف التي يستفاد منها به قاضيه بغير معقب مادام إستخلاصه سائغا ”
[ الطعن رقم 53603 لسنة 75ق ، جلسة 11/6/2006 ] _____

– متحدثاً عن نية القتل .. نية القتل يستدل عليها بالمظاهر الخارجية ، وهى عديدة :- فقد تكون إستعمال ألة ، أو إصابة المجنى عليه فى موضع من جسمه يعد مقتلا ، وقد تكون شدة الطعن وتعدد مراته ، أو مجرد ضغينة مشهورة بين الجانى والمجنى عليه أو سبق تهديد له بالقتل ، فنية القتل أمر داخلى يبطنه الجانى ويضمره فى نفسه ولا يستطاع معرفته إلا بمظاهر خارجية من شأنها أن تكشف عن قصد الجانى وتظهره ، ومن ثم يكون إستظهار نية القتل مسألة موضوعية بحتة لقاضى الموضوع تقديرها بحسب مايقوم لديه من الدلائل ، والمظاهر الخارجية التى يستدل بها على وجود النية فهى الظروف التي وقع فيها الإعتداء والغرض الذى كان يرمى إليه الجانى ووسائل التنفيذ وموضوع الإصابة وجسامتها / نقض 5 أكتوبر سنة 1954 مجموعة أحكام النقض س 6 رقم 12 ص 27، 19 أكتوبر سنة 1954 رقم 34 ص 99 ، وما إلى ذلك ، وقد يكفى أحدها للدلالة على نية القتل ، فقد يستدل على النية من الآلة التي إستعمالها الجانى ولو فى غير مقتل / نقض 6 ديسمبر سنة 1928 مجموعة القواعد القانونية ج1 رقم 41 ص 66 ، 20 نوفمبر سنة 1950 مجموعة أحكام النقض رقم 81 ص 207 ، أو من إصابة المجنى عليه فى مقتل ولو بألة لاتؤدى بطبيعتها إلى الموت / 27 أكتوبر سنة 1941 ج5 رقم 289 ص562 ، كما يصح الإستدلال على نية القتل بخطورة الإصابة التى أحدثها المتهم / نقض 18 ديسمبر سنة 1944 مجموعة القواعد القانونية ج 6 رقم 426 ص 563 ، وقد يصح الإستدلال على نية القتل ، ولو كانت إصابة المجنى عليه قد قصدها فى مقتل جسم المجنى عليه ، لكن أصابت مكان أخر فأدت لإزهاق روحه / كمن يصوب عياراً إلى القلب فيصيب الذراع الأيسر بسبب عدم إحكام الرماية ، أو بسبب حركة المجنى عليه فتعتبر الواقعة قتلا عمداً رغم أن الإصابة فى غير مقتل لاينتفى معها قانوناً توافر نية القتل / نقض 11/1/1955 أحكام النقض س6 رقم 140 ص 425
______

” إثبات وتقدير توافر سبق الإصرار”
– فتقدير وجود وتوافر ظرف سبق الإصرار أو عدمه يدخل في سلطة قاضى الموضوع كسائر العناصر الأساسية التي تتكون منها الجريمة .. لما كان الحكم المطعون فيه قد إستظهر توافر نية القتل وظرف سبق الإصرار لدى الطاعن فى قوله ” وكان اليقين مماهو ثابت بالواقعة كما بينتها المحكمة أن نية القتل متغلغلة فى نفس المتهم تموج في جوانحه معقودة برسوخ فيها يدل على ثبوتها من الأوراق … ، لما كان ذلك ، وكان سبق الإصرار ثابت فى حق المتهم مماهو ثابت بالأوراق وماشهد به شهود الإثبات من أنه إذا علم بهرب المدعو …. من السجن الذى سيق إليه بإتهام أنه قتل شقيقه …. وظن أنه قتله عقاباً له عما إقترف من قبل والثأر منه وأعد خطة بلوغ مأربه فأعد سلاحاً نارى قاتلاً بطبيعته – الطنبجة المضبوطة – واستأنس بالفوضى العارمة والإنفلات الأمنى الذى صاحب الأحداث سالفة البيان وصمم علي ما إنعقد عليه عزمه وترسخ فى نيته لتنفيذ خطته وبلوغ غايته الآثمة فخرج يقصد منزل غريمه بعد أن أرخى المساء أستاره شتاء فى …. على عقيدة أن غريمه لابد عاد لمنزله وقد كان بابه مفتوحاً فأطبق على الجالسين بغرفة بمدخله وهم المجنى عليهم ووجه شرور إعتدائه إليهم جميعاً لقتلهم ومنهم قاتل شقيقه من الثأر لمقتله …. ، لما كان ذلك ، وكان من المقرر أن قصد القتل أمر خفى لايدرك بالحس الظاهر وإنما يدرك بالظروف المحيطة بالدعوى والإمارات والمظاهر الخارجية التى يأتيها الجانى وتنم عما يضمره في نفسه واستخلاص هذه النية من عناصر الدعوى ، موكول إلى قاضى الموضوع فى حدود سلطته التقديرية ، كما أنه من المقرر أن البحث في توافر ظرف سبق الإصرار من إطلاقات قاضى الموضوع يستنتجه من ظروف الدعوى وعناصرها مادام موجب تلك الظروف وهذه العناصر لايتنافر عقلاً مع ذلك الإستنتاج ، وإذ كان ماأورده الحكم فيما سلف يكفى فى إستظهار توافر نية القتل ويتحقق به ظرف سبق الإصرار حسبما هو معرف به في القانون / الطعن رقم 9592 لسنة 81 ق جلسة 21 / 11/ 2012
______
[ حالات إستظهار القصد وتوافر الظرف ]

أولاً :- { سبق الإصرار والقصد الجنائى } :- لايؤثر نفى أو توافر سبق الإصرار عن القتل فى توافر قصد القتل ، فسبق الإصرار كما تحدثنا من قبل ، هو ظرف مشدد يستقل عن قصد القتل ولكن يلحق به فيدفع القاضى عند إثبات توافره من تشديد العقوبة على المتهم ، فلا تلازم بين قيام القصد الجنائى وظرف سبق الإصرار ، فقد يتوافر القصد الجنائى وينتفى فى الوقت ذاته سبق الإصرار، متى كان الحكم قد تحدث عن نية القتل واستظهارها من ظروف الواقعة وتعمد الطاعنين إحداث إصابات قاتلة ، فإنه لايقدح في ذلك أن يكون المتهمان قد إستعمالا فى القتل آلة غير قاتلة بطبيعتها وهى عصا غليظة ، مادامت هذه الآلة تحدث القتل / نقض 1/1/1953 أحكام النقض س 4 ق128 ص 332
____
” لما كان قصد القتل أمر خفى لايدرك بالحس الظاهر وإنما يدرك بالظروف المحيطة بالدعوى والإمارات والمظاهر الخارجية التى يأتيها الجانى وتنم عما يضمره في نفسه واستخلاص هذا القصد من عناصر الدعوى موكول إلى قاضى الموضوع فى حدود سلطته التقديرية ، وأن إصابة المجنى عليه فى غير مقتل لاتنتفى معه قانوناً توافر نية القتل ، ومتى كان الحكم قد تحدث عن نية القتل واستظهارها من ظروف الواقعة وتعمد الطاعن إحداث إصابات المجنى عليه ، وأنه لايقدح في ذلك __ أن يكون الطاعن قد إستعمل فى الشروع في القتل آلة غير قاتلة بطبيعتها — مادامت هذه الآلة تحدث القتل ، ومادام الطبيب قد أثبت حدوث إصابة المجنى عليه نتيجة تلك الآلة ، هذا فضلاً على أن السكين آلة قاتلة بطبيعتها إذا مااستعملت كوسيلة للاعتداء – كما هو الحال في الدعوى .
[الطعن رقم 2720 لسنة 81 ق جلسة 13/2/2012 ]

– وحيث أنه عن ظرف سبق الإصرار فإنه لما كان هذا الظرف يستلزم بطبيعته أن يكون الجانى قد فكر فيما إعتزمه وتدبر عواقبه وهو هادىء البال فإذا لم يتيسر له التدبر والتفكير وارتكب جريمته وهو تحت تأثير عامل الغضب والهياج كماهو الحال فى الدعوى فلايكون سبق الإصرار متوافرا ذلك بأن المتهمة قد قارفت فعلتها بقتل المجنى عليه مدفوعة بعامل الغضب والانفعال بعد مشاجرتها مع والدته .
{ الطعن رقم 11373 – لسنة 71 ق – تاريخ الجلسة 19/1/2003 }
…ويدفعنا الأمر للتحدث عن الأمر والحالة الثانية …
______

الحالة الثانية :- { سبق الإصرار والإستفزاز } فالأصل أن توافر سبق الإصرار يعنى أن الجانى بعيداً عن سيطرة الإستفزاز ، ولكن قد يتوافر سبق الإصرار ، رغم أن الجانى واقعاً تحت تأثير الإستفزاز ، كالزوج الذى يرتاب فى سلوك زوجته ويجمع رأيه على قتل شريكها حين مفاجأتهما متلبسين الزنا ، فلما تأكد له ذلك نفذ ماصمم عليه ، فى هذه الحالة فأصر الزوج من قبل على القتل ، وكان هذا الإصرار معلقاً على شرط هو ارتباط تنفيذه بواقعة ضبط الزوجة وشريكها متلبسين بالزنا ، وتحول الشك في سلوك الزوجة إلى واقع حقيقى وحقيقة راسخة وثابتة ، وقد اتفقت مع حديثى أحكام محكمة النقض المصرية – حيث قد إعتبرت محكمة النقض المصرية _ القتل هنا مقترنا بسبق الإصرار ، يشترط لتوفر سبق الإصرار فى حق الجانى أن يكون فى حالة يتسنى له فيها التفكير فى عمله والتصميم علية فى رؤية وهدوء / نقض 19/5/1969 – س 20 – رقم 151 -743
_______
الحالة الثالثة :- { سبق الإصرار والدفاع الشرعى } أن الدفاع الشرعى يفترض المفاجأة بالإعتداء والاضطرار العاجل إلى إتيان فعل الدفاع ، على العكس من سبق الإصرار الذى يعنى التدبير الهادىء غير المتعجل للفعل الإجرامى ، وعلى ذلك قضت محكمة النقض المصرية بأنه :- متى أثبت الحكم توفر سبق الإصرار ، كان معنى ذلك أن المحكمة إستبعدت مادفع به المتهم من أنه كان في حالة دفاع شرعى ، وكون المتهم بالقتل العمد فى حالة دفاع شرعى لاينفى عنه توافر نية القتل ، ولو توافرت لحالة الدفاع الشرعى جميع أركانها القانونية/ نقض 18/11/1958 أحكام النقض س 9 رقم 234 ص 961 ، وحيث أنه عما أثاره المدافع عن المتهم بأنه كان فى حالة دفاع شرعى عن النفس فمردود بأن من المقرر أن حق الدفاع الشرعى لم يشرع إلا لرد الإعتداء عن طريق الحيلولة بين من يباشر الإعتداء وبين الإستمرار فيه وأن قيام حالة الدفاع الشرعى مشروط بأن يكون قد وقع فعل إيجابي من المجنى عليه ، وقوع جريمة ضده وأن يكون المتهم قد إعتقد بوجود خطر على نفسه ويكون فعله لرد هذا الخطر هو الوسيلة الوحيدة لرده كما أنه من المقرر أن حالة الدفاع الشرعى لاتتوافر متى ثبت التدبير للجريمة بتوافر سبق الإصرار أو التحيل لإرتكابها إذ بذلك ينتفى حتما موجب الدفاع الشرعى الذى يفترض ردا حالاً لعدوان حال دون الإعداد وأعمال الخطة لنفاذه / الطعن رقم 59033 لسنة 75 ق جلسة 15/5/2008 ، وهذا يدفعنى للتحدث عن :-
” التصميم والتدبير السابق والعذر والدفع اللاحق ”
– يتصور أن يصمم أحدهم على قتل شخصاً ، وبيت النية على إزهاق روحه ، وأعد وسيلته ورسم خطته لتنفيذ فعله ، فإذا به عند الذهاب لمكان تواجد المجنى عليه ، يفاجىء بهجوم المجنى عليه قاصداً قتله ، وإذا به تفرض عليه ظروف الحال رد هذا الإعتداء من المجنى عليه فقتله ، ثم يتصور ويتوهم الحاضر فى مسرح الجريمة بأن الجانى كانت تتوافر لديه عند إرتكابه جريمة القتل حالة الدفاع الشرعى ، فمتى أثبت التصميم والتدبير السابق على إرتكاب الجريمة ، فليس للدفاع الشرعى وجوده ، فلايكفى لقيام حالة الدفاع الشرعى أن يكون هناك خطر من جريمة ، وإنما يلزم أن يكون هذا الخطر حالاً ، ذلك أن حلول الخطر هو الذى يبرر الدفاع الشرعى ، فإذا لم يكن الخطر حالاً بل كان مستقبلاً ، فليس للدفاع الشرعى وجوده ، وينبنى على ماتقدم أن الخطر إذا كان مستقبلًا ، أى منذر بوقوع إعتداء فى المستقبل فإن الحق فى الدفاع الشرعى لايقوم / نقض 16ديسمبر سنة 1958 ، مجموعة أحكام النقض س 9 ق 265 ص 1095 ذلك أن الخطر المستقبلى يمكن تداركه بالالتجاء إلى السلطات العامة ” وليس لهذا الحق وجود متى كان من الممكن الركون فى الوقت المناسب إلى الإحتماء برجال السلطة العمومية ( 247 عقوبات )” ، كما يقصد بسؤ النية تعمد المدافع إحداث ضرر أشد مما يستلزمه الدفاع وهذا يقتضى أن يكون المدافع قد قدر الموقف على وجهه الصحيح ، سواء من حيث جسامة العدوان الواقع أو قدر الدفاع اللازم ، ثم أفرط مع ذلك فتجاوز عامدا حد الإعتدال وانتهز الفرصة ليوقع بالمعتدى ضرراً أشد ممايلزم . وهذا المسلك من جانبه يعتبر إعتداء صريحاً لا علاقة له بالدفاع الشرعى ، وحيث أنه عن ظرف سبق الإصرار فإنه لما كان هذا الظرف يستلزم بطبيعته أن يكون الجانى قد فكر فيما إعتزمه وتدبر عواقبه وهو هادىء البال / الطعن رقم 11373 71ق جلسة 19/1/2003 ، وأخيرًا … كما أنه من المقرر أن حالة الدفاع الشرعى لاتتوافر متى ثبت التدبير للجريمة بتوافر سبق الإصرار / الطعن 59033 ، 75 ق ، جلسة 15/5/2008 .. وللحديث بقية إن شاء الله .

زر الذهاب إلى الأعلى