جرأة العقل

جرأة العقل

نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 10/10/2020

بقلم: الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين

ما هي جرأة العقل ، وهل بينها وبين جرأة القلب فارق ؟.. جرأة العقل ألا تتردد في التفكير في أي شيء يخطر على بالك وفى تقليب النظر فيه ، تنتهى ما وسعك الجهد إلى ما تريد من يقين أو ترجيح دون أن يصدك المجهود أو تخيفك النتائج المحتملة .

وهذه الجرأة « موهبة » لا توجد في عموم الناس ، لأن الناس تخضع عادة لقانون « أقل مجهود » ، وتفضل الكسل وترضى بالموجود وتخاف الوقوع فيما يخالف المقرر أو السائد أو المتعارف عليه .. تخاف حتى فيما بينها وبين نفسها أن يخرجها من حدود هذا الأمان المفترض ـ واقع قوى جدا كشهوة مكتسحة أو غضب عارم !

ظني أن جرأة العقل تحتاج ككل موهبة إلى « فائض إحساس » غير عادى بحرية واحترام العقل والحقيقة مع العزم والشجاعة . بفضل هذا الفائض غير العادي من الإحساس ، والدوافع المحركة ، قامت التقاليد والعقائد والمصدقات التي حافظت على ما يسمى بالمبادئ والأصول والاتجاهات واستقرار قواعد السلوك والأخلاق وتثبيت الأذواق بقدر ما يمنع الناس من الإحساس بالانقلاب أو الثورة !

وبرغم ما في هذا الثبات من ركود الأرواح والعقول وشدة التفات الإنسان العادي إلى مشتهيات جسده ، فإن فيه وقاية من الفتن والقلاقل .. هذه الوقاية التي تعطى الفرصة المتسعة للبناء والتعمير ونشر المعرفة وتهذيب الذوق اللازم لقيام الدول والحضارات والثقافات وما نسميه مدنية الإنسان أو الإنسانية .

ولكن الجماعة الآدمية تفقد حاضرها ومستقبلها حتما ـ إذا فقدت جرأة العقل تماما .. لأنها عندئذ يعوزها من يداويها من الكساح الفكري ومن التفاهة والعجز عن مواجهة ظروفها وزمانها ـ مما لا قبل للتقاليد والمصدقات الموروثة بمكافحته فضلا عن مداواته وعلاجه !

أما جرأة القلب ، فهي ألا تتردد لأنك تعرف أنك لا تحسن أو يحسن بك التردد ، بل تقدم بكلياتك على فعل ما ترى أنه يجب أو يحسن بك ومنك فعله .. قابلاً بنتائجه حسنة كانت أو سيئة ، في شجاعة لا تشرك أو تحاول أن تشرك معك أحداً غيرك في تحمل نتائجها ومسئوليتها!

وقلما تجتمع في ذات الشخص جرأة القلب مع جرأة العقل .. لأن  جرأة القلب من الغرائز الشخصية ، وليست من المواهب الفكرية .. فإن اجتمعت جرأة العقل مع جرأة القلب كان اجتماعهما شيئا نادراً  فذًّا خطير الآثار في حياة الفرد وحياة جماعته وربما في حياة الجماعات الأخرى ! .. رأينا ذلك في حالة الإسكندر الأكبر المقدوني ، ويوليوس قيـصر ، ونابليون  .

ولأن جرأة القلب موضوعها ومجالها دائما الأفعال والتصرفات لا الأفكار ، كان أصحابها أكثر نسبيا من أصحاب جرأة العقل .. وهى تشاهد ـ أعنى جرأة القلب ـ في الذكور والإناث ، وفى العامة والطبقة العاملة بأكثر مما تشاهد في الطبقة المتوسطة .. حيث الأفراد أكثر التزاما وانضباطاً وتقيدا بأعراف وآداب واعتبارات وحسابات تحملهم على التحفظ والاحتياط وتجعله قيمة من القيم الاجتماعية التي تقيدهم ويحرصون على الالتزام بها !

وتبدو جرأة القلب في المدن في كثرة عدوان العوام بالألفاظ والأفعال بعضهم على بعض ، ثم في سرعة نسيانهم للشر مع استئنافهم للعشرة والمودة ، لأقل ما يدعو إلى استئنافها .. كأن جرأة القلب لديهم بقية باقية من الاندفاع أو سلامة الطوية المعهودة في الأطفال والصغار !

وجرأة القلب لا ترد على كل فعل أو أي عارض ، إنما على فعل جَرَّب فاعله مثله أو ما يشبهه من قبل . وهذا هو العنصر الذى ينبه جرأة القلب ويطلقها .. فالمقاتل الباسل يخوض الوغى ويجابه الموت كل لحظة أثناء القتال ، لكنه قد يتردد كثيرا في إجراء عملية جراحية صغيرة أو في تحمل وخزة إبرة حقنة ، وقد تزعجه حشرة تمشى على جسده أو فأرة تعدو بين قدميه !!!

تختلف عوارض وردود أفعال ما تواجهه جرأة العقل عن عوارض ما تواجهه جرأة القلب .. جرأة العقل لا ترضخ للموجود ، وتخالف المقرر أو المتعارف عليه ، وتقتحم الصعب، وإليها يرجع كل ما أنجزته البشرية في السالف والحاضر من إنجازات ، وبنته من حضارات.

زر الذهاب إلى الأعلى