ثقافة الحمير
نشر بجريدة الوطن الجمعة 17 / 7 / 2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
لم أكن أتخيل قط أن هناك ثقافة للحمير !
لم يداخلني هذا الظن مع أنني تابعت ما كتبه أدباؤنا عن الحمار، مثلما فعل كاتبنا الفذ الأستاذ يحيى حقي في فصله الرائع: «وجدت سعادتي مع الحمير»، ضمن مجموعته الرائعة «خليها على الله».
جاء الحمار في الموروثات الشعبية والأمثال العامية، رمزا للغباء أو العناد أو الاستسلام لقاهرات المقادير.. «غلب حماري» تعبيرًا عن فراغ الوفاض !.. «زىّ الحمار ما يجيـش إلاّ بالنخس» مثلا لمن لا يطيع إلاّ بالشدة والوخز !.. «زىّ الحمار يحب يشيل التلاليس» تعبيرًا عن أثر الاعتياد في تحمل ما لا يطاق !.. «زىّ حمير التراسة يتلكك على قولة هس» لضرب المثل عمن يلتمس المعاذير للتوقف عـن العمل !.. «زىّ حمير العنب تشيله ولا تدوقه» تعبيرًا عمن يُسَخَّر فيمـا لا يعود عليه بأي نفع !.. «زىّ حمير الغجر ينهقوا وهم نايمين على جنبهم».. لضرب المثل على الاقتصار على الجلبة والصخب دون حركة ولا عمل !!
وأشهر أدبائنا في اتخاذ الحمار مادة للدراسة، أو سبيلا للاستعارة والكناية: يحيى حقي وتوفيق الحكيم.. لحق بهما كاتبنا الساخر المبدع محمود السعدني.
حين تتابع الأستاذ توفيق الحكيم، تراه مغرمًا باستخدام الحمار عنوانًا واستعارة منذ عام 1938، نشر مقالات صارت كتابًا بعنوان: «حماري قال لي» ثم كتب «حمار الحكيم» سنة 1940، في شكل رواية أو لوحة، وصدرت في إحدى طبعاتها بعنوان «حماري الفيلسوف» (1975)، إلى هذا الحمار أهدى توفيق الحكيم روايته فيقول: «إلى صديقي الذى ولد ومات وما كلمني لكنه.. علمني!».. تبدو الاستعارة في الكتاب من باب الفلفل والبهارات، أو من عناصر التشويق والجذب.. في تصدير اللوحـة ـ نقـلاً عـن أسطـورة قديمة ــ يتساءل حمار الحكيم «توما»: «متى ينصف الزمان فأركب، فأنا جاهل بسيط، أما صاحبي فجاهل مركب ؟!»، فقيل له: «وما الفرق بين الجاهل البسيط والجـاهل المركب ؟»، فقال: «الجاهل البسيط هو من يعلم أنه جاهل، أما الجاهل المركب فهو من يجهل أنه يجهل» !
استعارة «الحمار» وإناطته بأدوار وحوارات، وبمشاهد ومواقف، ظاهرة حاضرة في كتابات توفيق الحكيم.. مع السنين أضاف مقالات ولوحات إلى كتابه: «حماري قال لي»، وأعاد نشرها في كتابه: «حماري وعصاي والآخرون». ـ وعاود استعارة الحمار في قوالب مسرحية في فصول مسرحيته «الحمير».
ولكن أديبنا الفذ الأستاذ يحيى حقي يعلق بصراحة في الفصل الذى ألمحت إليه، أنه وجد سعادته مع الحمير، وتحت العنوان يورد لنا دراسة شيقة عن هذا الحيوان المسكين الذى تعاطف معه.. في هذه القصة الرائعة يحدثنا عن حمار الأجرة والحمار الملاكي، وعن درجات الحمير: حمير السبخ، وحمير الأجرة بمحطة السكة الحديد أكثر الحمير مكرًا .. ابن سوق محنك بالتجارب، وحمار الفلاح، وعلى رأس القائمة حمير الطبقة الأرستقراطية التي أوشكت الآن على الانقراض في الريف، حمارهم «فاره قوى، منتصب الرقبة مرفوع الرأس، راقص الخطوة، أكحل العينين، له بردعة من جلد ثمين أو قطيفة مزينة ، ولجام وركايب، أكله موفـور وتعبه قليل .. يضن به صاحبه إلاّ على كبار الحكام» !.. أما «مدرسة الحمير» فشيء لا ندركه إدراكًا حقيقيًا إلاّ من دراسة يحيى حقي، هي مدرسة بالفعل، عجيبة مختلطة .. «من تلاميذها أيضا الخيول والبغال من أصحابها من يطلبون تعليمها مشية الرهوان غرامًا بالأناقة والصبونة، ومن تلاميذها الحمير الأرستقراطية المطلوب أن تتعلم المشي كالرقص المكفول بأصول وقواعد تضمن بقاء الظهر كالبحر الهادئ رغم هدير الحركة الراقصة».
بالمدرسة قسم خارجي وآخر داخلي، في القسم الخارجي تلاميذ أو حمير الجيران، ينصرفون فور تلقى الدرس، أما القسم الداخلي فللآتين من بعيد، مع كل تلميذ زاده وزواده من الفول والتبن والدريس » !.. لا يتركك يحيى حقي دون أن يحدثك عن «حمير القاهرة»: الشعبية والأرستقراطية ، فلها خصوصيتها ، ولها ـ فى ذلك الأوان ـ مواقف انتظار بلافتات مثبتة على الأعمدة ، بعضها لثلاثة أو أربعة أو ستة حسب حركة النقل بالمكان . يذكر منها يحيى حقي لافتة سور حديقة الأزبكية أمام مدخل فندق الكونتننتال ، وموقف العتبة الخضراء الذى كان من زبائنه . أما « لصوص الحمير » ، و« نكت الحمارة » فعالم آخر لا يقل عنه طرافة « حمار السيرك » ــ وهو سلالة متطورة من حمار الحاوي، يختلط سحره ومواصفاته ومهاراته بسحر السيرك الذى كان جل متعة الناس في النصف الأول من القرن الماضي !
على أن أبدع ما كتبه يحيى حقي، هو الغوص النفسي، -ولا أبالغ – في دراسة أغوار هذا الحيوان الطيب .. يقول عنه يحيى حقي: لم أر كالحمار حيوانا تحس أنه أدرك أنه أُسقط فى يده ، أنه لم يقبل قدره عن عمى وغفلة أو تدليس عليه ، بل عن بصيرة وفهم بعد أن وازن بين حيلته وقدرة ظالمة ، وقاده ذكاؤه العملى إلى الاقتناع بأن كل أمل قد مات ، وأن لا فائدة ترجى من الثورة أو اللجاجة أو العناد ، فوضع إرادته وغرامه وبهجته ومرحه وحبه للعب والمعابثة فى حرز مكتوم فى قلبه ، وأحنى رأسه وأذنيه وسبّل ضهـره ، واستسلـم بلا قيد ولا شـرط .
أما الأستاذ محمود السعدني، فلم يضع حماره في قوالب فنية أو روائية أو مسرحية كما فعل الأستاذ توفيق الحكيم، ولا أتخذ من دنيا الحمار موضوعًا لدراسة كما فعل الأستاذ يحيى حقى ، وإنما جعل للحمار دولة ليمضي سالمًا ساخرًا فى جلد الذات والغير فى «حمار الشرق» و« عودة الحمار » !
طفت بكل هذا وكتبت عنه تفصيلاً من ثلاث عشرة سنة فى مجلة الهلال ( 1/7/2007) ، ولكنى لم أتخيل قط إمكان وجود « ثقافة للحمير » ـ صدمتنى هذه الحقيقة الفاجعة وأنا أطالع من 12 عامًا ــ ثورة تجار وأسر تجار لحوم الحمير الحية والنافقة وهم يستقبلون حكم القضاء بإدانة التجار وعقاب اثنين منهم بالحبس خمس سنوات ، وشريك لهما بالحبس سنتين !
ظني أنه لو كان القانون يسمح ، لربما حكم القاضي بالإعدام أو فى أقل القليل بالسجن المؤبد .. أليس يعاقب شاهد الزور بالإعدام إذا أدت شهادته المزورة إلى إعدام برئ ؟!
فلماذا إذن فوجئ تجار الحمير وأهاليهم بالحكم ؟! وما سبب هذه الثورة العارمة التي ثارها التجار وأهاليهم واعتدوا فيها على الصحفيين والمصورين فور صدور الحكم ؟! وهل كانوا ينتظرون وساماً أو نيشاناً من المحكمة لقاء إطعام عباد الله، لحوم الحمير، ولم يكفهم الحيّة، فاستخسروها فيهم ، وألقموهم النافقة ؟! ما سر هذه البلادة وفقدان الحس وانعدام الضمير وجهالة عدم تقدير شناعة الجريمة المنكرة التي ظلت ربما لسنوات تطعم مخاليق الله من لحوم الحمير حتى تم اكتشافها رغم أنوف الحمّارين !
لا معنى لهذه الثورة الجهولة فى استقبال الحكم، والاعتداء على الصحفيين والمصورين، إلاّ إذا كان الثوار على اقتناع بأنه لا بأس من أكل لحوم الحمير حتى وإن كانت نافقة أيضًا ! لو كانوا هم الذين طعموا ما شاء لهم من لحم الحمار، لكان يمكن أن يعزى ما فعلوه إلى حريتهم الشخصية! ولكنهم أطعموا الغلابة غشاً وخداعاً وألقموهم جيفاً لحمير وهم يظنون أنهم يأكلون لحوم ذبائح حلال وذبحت ذبحا حلالا !.. فهل لا بأس من ذلك ولا عليه ملامة ؟! تصرف التجار وأهاليهم ورد فعلهم العنيف يؤكد أن هذا هو اقتناعهم الحقيقي بلا تصنع أو افتعال !.. هم لا يرون بأساً ولا تثريبا ولا ملامة فيما يعتقدون أنه تجارة مباحة، فكيف أتاهم هذا الاعتقاد إلا أن تكون «ثقافة الحمير» قد طالتهم وشاعت فى فهمهم وصفحات وجدانهم وأمسكت بتلابيبهم فاختلط لديهم الحمار بالإنسان، أو ليس يوجد من يأكلون لحوم البشر، فماذا إذن لو أكلوا لحوم الحمير ؟! وكله واحد، طالما شاعت «ثقافة الحمير» !!
مشهد الثورة على الحكم بالجلسة، وتفريغ الغيظ منه في الصحفيين والمصورين، لا يعنى فقط أن كافة المعايير قد انبهمت وماعت، وإنما يحمل إنذاراً بأن « قافة الحمير» قد سادت وعمّت، وأن هذه ما هي إلاّ بشائر بأن الخيل والبغال والحمير لم تعد لركوبها وزينة كما قال القرآن المجيد ، وإنما هي قد صارت طعاماً للبطون ، وثقافة أيضا للعقول !