تواصل الأجيال بين الأمس واليوم
تواصل الأجيال بين الأمس واليوم
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 23/12/2017
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
تبقى الأمم بخير ما بقى التواصل حيًّا فاعلاً بين أجيالها.. والتواصل أعرض وأعمق من مجرد الاتصال، فالاتصال واقع تفرضه ظروف الحياة وتبادل الاحتياجات، وتيسره على الواسع وسائل الاتصال الحديثة المتنوعة.
أما التواصل فهو بنية حيّة متضافرة ومتفاعلة ومتساندة ومتكاملة، فما من ابن إلاَّ وتلقى من أبيه وأمه، وما من تلميذ إلى وتلقى وتعلم من مدرسه، وما من طالب جامعي إلاَّ وعرف من أساتذته ما لم يكن يعرفه، وعَمَّقَ برؤيتهم وعلمهم مداركه، وما من مريد إلاَّ وله شيخ، وما من موظف في مستهل طريقه إلاَّ اكتسب الخبرة والدراية ممن سبقوه، وما من صبى في ورشة أو صناعة صغيرة إلاَّ وتدرب على « الأوسطى » هذا التواصل أوسع وأعرض وأعمق من ظاهره، ويحمل إلى جوار تلقى العلم والخبرة، مددًا إنسانيًّا به تنمو وتتعمق العلاقات حتى لتكاد تتجاوز في عراضتها وتأثيرها ما بين الابن وأبيه.
النيابة العامة
ولعل من أبلغ صور التواصل الوظيفي بالمعنى العريض، ما يقوم عليه بناء النيابة العامة، والذي أنتج ما يطلق عليه « عدم تجزئة » النيابة، فالنائب العام هو النائب عن المجتمع برمته، وهو يؤدى هذا الواجب العريض من خلال نوابه، وهذه النيابة تبدأ منذ الالتحاق بالنيابة، صعودًا من معاون ومساعد ووكيل النيابة، إلى رئيس النيابة والمحامي العام، والمحامي العام الأول والنائب العام المساعد، ويربط كل هؤلاء التساند الذي كفل ويكفل تلقى الخبرات من الأسبق والأعرض خبرة، وهو ما جعل النيابة العامة قادرة على تحقيق مبدأ أن النيابة لا تتجزأ.
في التعليم بصنوفه ودرجاته
حينما نكبر وننضج ندرك قيمة ما تلقيناه عن مدرسينا في مراحل التعليم وأنواعه المختلفة، ولذلك قال شاعرنا: قف للمعلم وفّه التبجيلاً: كاد المعلم أن يكون رسولاً.
ولم تقتصر صلتنا بمدرسينا على إطار المدرسة، فقد كانت ممتدة ومتأصلة، حتى إنى أتذكر لليوم أسماء وملامح كل مدرس تلقيت عنه العلم منذ المرحلة الابتدائية والثانوية، وظنى أن هذه الصلة قد تعرضت تحت ضغط ظروف معروفة، إلى شىء غير قليل من التهافت، إن لم يكن ما هو أكثر !
أما المرحلة الجامعية، وما يوازيها، ففيها تتسع دائرة التلقي والتأثر، ويبقى التلميذ مهما صار أستاذًا فيما بعد، على صلة وتوقير لأساتذته، كثيرًا ما يرجع إليهم وإلى مؤلفاتهم.. ولعل ما نصادفه في دراسة القانون والعمل به، صورة مجسدة لهذا التواصل الذي يبقى على مر السنين، وبعد اشتعال الأساتذة السابقين والقدماء إلى الرفيق الأعلى، فنحن مهما تقدم بنا العمر والخبرة، نحتاج مثلاً في القانون المدني للرجوع ـ مع حفظ الألقاب ـ إلى الأساتذة الكبار كامل مرسى، والسنهوري، وحشمت أبو ستيت، وسليمان مرقس، وعبد الفتاح عبد الباقي، ومحمد على عرفه، ووديع فرح، وعبد الحى حجازي وغيرهم من الأساتذة الذين لحقوا بهم ويملأون الدنيا من حولنا أطال الله في أعمارهم، وكذلك في شتى فروع القانون، ومنها ـ تمثيلاً ـ مازلنا نحتاج الرجوع إليه من مؤلفات السابقين في القانون الجنائي من الأساتذة الكبار: أحمد أمين، وعلى زكى العرابي، وجندي عبد الملك، ومحمود مصطفي، وعلى راشد، ومحمود نجيب حسنى، وغيرهم من الراحلين ومن الأحياء الذين لا يزال عطاؤهم ممدودًا يحيط بنا من حولنا.
ولعل من أبلغ صور هذا التواصل، ما يمر به خريجو كليات الطب حتى يصيروا أساتذة في السلك الجامعي، أو كبارًا فيما يوازيها.. فالمتخرج يبدأ بمرحلة الامتياز ولا يصير ممارسًا مسموحًا له إلاَّ بعد المرور به، فإذا بقى بعدها بكليته صار « نائبًا » للأستاذ، ويتدرج في هذا السلك متلقيًا العلم والخبرة عمن سبقوه، ومتواصلاً معهم في توقير وإكبار، وكثيرًا ما رأيت بحكم علاقاتي الاجتماعية أطباء أساتذة كبار لا يخاطبون أساتذتهم بأسمائهم، ويسبقونها بألقاب تعبر عن أن التواصل لم يكن صفحةً وانقضت، وإنما هو بنيةٌ حيّه ومحبةٌ وتقديرٌ واحترام.
في الفكر والأدب
عالم الفكر والأدب عالم فسيح، يدخل فيه أيضًا الصحافة والإعلام، وقد تميزت هذه المجالات بما أَطْلقتُ عليه سلفًا « الدوائر الحاضنة ».. ولا يوجد من لم يستفد في مرحلة من حياته بدفء هذه المظلة التي رأيناها تحيط الكثيرين بعنايتها.
وجيل الآباء ـ بالنسبة لجيلنا ـ حافل بقامات سامقة احتضنت من تلاها باهتمام ومودة، ولم ينقطع المدد بينهم وبين الأجيال.. حتى أن مفكرًا كالعقاد، ولم يكن في جامعة أو مجال يلتف فيه حوله طلابٌ ومتلقون، كان حريصًا أبلغ الحرص على التواصل بالأجيال، وكانت ندوته الأسبوعية تضم إلى جوار الأساتذة الكبار كزكي نجيب محمود وصلاح طاهر وعثمان أمين وعبد الرحمن صدقي وكامل الشناوي ومحمد خليفة التونسي وأترابهم، أجيالاً متعاقبة كان بعضهم لا يزال في مرحلة التعليم كما رأينا أنيس منصور ورفاقه وما رواه في كتابه البديع: « في صالون العقاد كانت لنا أيام ».. ولم يقتصر اهتمامه بالتواصل على ندوته الأسبوعية أو ما يكتبه ويتواصل به مع قرائه، وإنما كان يصبر على تلقى البريد ولا يهمل ما يرد إليه بل يبذل في التلاقي معه عناية يلمسها كل من يتابع حياة العقاد وإنتاجه.
كان طه حسين مثلاً حيًّا رغم ظروفه على هذا التواصل، رواه عنه تلاميذه من الأجيال المتعاقبة، وقد روى محمد مندور كيف تلقاه واهتم به منذ السنة الأولى التحضيرية التي كان يجتمع فيها طلبة الحقوق مع طلبة الآداب، ولمّا لمس الاستعداد الأدبي في طالب الحقوق محمد مندور، لم يتركه حتى أقنعه بأن يدرس الآداب بالتوازي مع دراسة الحقوق، وكفل له المجانية، وظل يرعاه بعد تخرجه حتى أنه ذهب بنفسه إلى رئيس الوزراء ليعرض عليه بعض إنتاجه ويستنفره للموافقة على إعفاء محمد مندور من شروط درجة الإبصار في الكشف الطبي، والتي كادت تعصف بلحاقه بالبعثة.
والواقع أنه تعددت الدوائر الحاضنة في الأدب، وفي الصحافة، فرأينا دوائر الأساتذة محمد التابعي، وكامل الشناوي، ومصطفي وعلى أمين اللذين لا يزال أبناء اليوم بدار أخبار اليوم يتغنون بما زرعاه، حتى الكبار كأمثال المرحوم الأستاذ أحمد رجب والقامات العديدة من الأحياء أمد الله في عمرهم.
ورأينا دوائر الأساتذة أحمد أمين، وسلامة موسى، ورشاد رشدي، ولويس عوض وغيرهم.. ورأينا حرص نجيب محفوظ على هذا التواصل حتى بلغ التسعين، وقرأت إكباره لموقف ليوسف السباعي في تقديم « ثلاثيته »: بين القصرين، والسكرية، وقصر الشوق. حين رفض الناشر نشرها لكبر حجمها وبعبارة آذت نجيب محفوظ وأحبطته، وإذ روى ما حدث ليوسف السباعي، أقبل رغم التنافس بين الأدباء على التكفل بنشرها مجزأة، وسلمه نجيب محفوظ أصولها التي لم يكن لديه سواها في زمن لم يكن التصوير قد شاع، ثقةً واطمئنانًا، فكان يوسف السباعي عند حسن ظنه، وتوالى نشر الثلاثية ـ وكانت عملاً واحدًا ـ حتى حَلَتْ في عين الناشر، فاتصل يطلب نشرها بعد تقسيم الرواية الكبيرة إلى الثلاثية المعروفة.
وهذه الدوائر الحاضنة كانت موجودة في الإذاعة بكثافة منذ أُنشئت عام 1934، ولمست ذلك وألمسه بنفسي في تعاملي العريض ومن قديم مع الإذاعة، ولحق بها التليفزيون ـ سيما في العصر الذهبي ـ اقتداءً بها، سيما والجيل الأول لتأسيس التليفزيون كان من الإذاعة، ننقل تقاليده إليه.
لماذا تآكلت الدوائر الحاضنة ؟!
لا يخطئ المتأمل في حياتنا بعامة، وفي الحياة الفكرية والأدبية والفنية والثقافية، أنه قد تآكلت ـ أو تكاد ـ الدوائر الحاضنة المعبرة عن تواصل وتساند الأجيال، وكانت في السابق تشمل بالرعاية والعناية الناشئة والمواهب، وتتبادل التساند والدعم فيما بينها.
فلماذا أجدبت الساحة من هذه الدوائر، ولماذا تراجع النقد الأدبي الذي كان ما يتناوله يضفي سخونة على الحياة الفكرية والأدبية، ولماذا تراجع الدور الذي كانت تؤديه الجمعيات والجماعات الأدبية والفنية، ولماذا نضبت الحياة الحزبية رغم تنامى عدد الأحزاب وتجاوزها المائة، أين ولت الحميمية التي كانت تقيم وتحفظ الجسور بين الكتاب والأدباء والفنانين، ولماذا تعثر العمل النقابي الجمعي الصالح في كثير من النقابات.
نضوب أو تراجع الدوائر الحاضنة الآن، ووهن التواصل بين الأجيال، يورى بالانكفاء على الذات والانحصار فيها.
ومصر أحوج ما تكون اليوم إلى استرداد هذا التواصل الحىّ، الذي به تقدم وثراء الحياة !