تهنئة من قلب المشهد الذي عشته
ذكرى انتصار العاشر من رمضان
بقلم الأستاذ/ رجائي عطية
قُيض لي أن أكون شاهدًا على العبور الذي عبرته مصر، بقواتها المسلحة، يوم العاشر من رمضان / السادس من أكتوبر 1973.. ولكن شهادتي تجاوز هذا العبور، إلى عملية العبور الواسعة التي قطعتها مصر منذ انكسارة نكسة يونيو 1967، حتى مشهد النصر الذي تجلى يوم العبور العظيم.
كان الجهد المطلوب هائلاً، والمهمة بالغة الصعوبة والدقة، تصدى لها قادة عظام
لم يطلبوا المجد لأنفسهم، ولا سعوا إلى دوائر إعلام، ولا إلى شعبية خادعة.. شملت الجهود بناء جدار الثقة، وإعادة النظام والضبط والربط، وإعادة التسليح لجيش فقد معظم طائراته وأسلحته ومدفعيته ومدرعاته ومركباته، وبات مطالباً بتعزيزات جديدة تلاحق آلة الحرب الإسرائيلية التي تواليها الولايات المتحدة بكل جديد في الترسانة الأمريكية وفى سخاء عجيب!!
كنا نراقب بإشفاق الجهود الرائعة المبذولة التي كانت عينها أيضًا على الإنسان المصري، تكفكف قلقه بدشم هناجر الطائرات التي تُبْنَى على جانبي طريق القاهرة / الإسكندرية الزراعي، وغيره، بعد أن تفشت أنباء ضرب الطيران المصري على الأرض، وتفشت أنباء محاكمة الذين غشوا في مواصفات وخرسانات الدشم التي كانت قد بنيت لحماية الطائرات.. وتابع الناس، وتابعت، سباق إقامة المطارات ومهابط وممرات الطائرات لسرعة الانتشار وتحقيقًا للمدى المطلوب للقاذفات، وبناء قواعد الدفاع الجوي في عمق مصر وعلى الضفة الغربية للقناة لتلبية مطالب حرب صحراوية مكشوفة تكون السيادة فيها للقوات الجويةـ وللدفاع الجوي الموكول إليه حمايتها ورد الطائرات المغيرة!! .. كنا في تجوالنا بربوع مصر، وميادين القتال، والأعماق المتوقعة، نعاين الجهود الهائلة لإنشاء شبكة طرق لازمة للعمليات، ووسائل التمويه لإخفاء ما يوضع تحت قنوات من المياه حتى لا تكشفه عيون الأرصاد.. ونتابع مع هذا كله المشاق البالغة في تسيير هذا كله مع مصاعب اقتصادية لم تكن خافية على العارفين، ومصاعب أكبر في التدريب ورفع مستوى المجندين، وفى تدبير وسائل التسليح وتنفيذ اتفاقياته ومغالبة تفوق بعض الأسلحة الأمريكية على الروسية في المدى أو في المواصفات، وتدبير التقنيات اللازمة لتجاوز هذه الفروق!!
تقطعت حبال الصبر ونحن نترقب معركة التحرير واسترداد الشرف والكرامة، والأيام تمضى بلا طحن ظاهر، حتى ساءت بالسادات الظنون، والرجل صامت يتعلل بتعلات غير الحقيقة المسكوت عنها حتى يصل والقوات المسلحة إلى الهدف المنشود وسط تلال من المشاكل والصعاب.
كنت أحمـل كل هـذا التاريخ وتلال المصاعب ومعها المرارة فـي صفحة وجداني وأنا أمارس في السادس من أكتوبر – العاشر من رمضان ـيـوم عمـل عادي بإدارة المحاكم العسكرية.. كنا نطوى القلوب على جراح انكسارة نكسة مُرة لم تندمل.. لم أتوقع كما لم يتوقع غيري، أن هـذا اليوم هـو اليوم الموعود لانفجار معركة استرداد الكرامة الجريحة.. حتى الساعة الثانية ظهرًا لم يكن اليوم يعنى بالنسبة لنا سوى أنه يوم عمل عادي من أيام شهر أكتوبر يوافق العاشر من رمضان، ولم أكن أعرف ولا عرف غيري من الضباط أنه قد حل بحلوله ميعاد استيفاء الحق، وأن هذا اليوم هو يوم فارق يتوج جهودًا رائعةً نجحت معها القوات المسلحة فـي إخفـاء هدفهـا التكتيكي بل والاستراتيجي إخفاءً تامًا حتى فوجئنا كما فوجئ العالم كله والقوات الإسرائيلية المحتلة ذاتها، بسماع بيان الهجمة الجوية الأولى على موجات الإذاعة المصرية ليتبعها دور القصف الصاروخي والمدفعي الذي هيأ للقوات البرية وتحت الغطاء الجوي عبور قناة السويس، ثم اجتياح تحصينات خط بارليف التي اندكت وتهاوت مع سقوطه الإرادة الإسرائيلية وأسطورة جيشها الذي لا يقهر، واستعادت القوات المصرية روحها وكرامتها وهي تخطو عبر القنال إلى التراب المصري الذى ظل تحت الاحتلال البغيض ستة أعوام !.
وقد قُيِّضَ لي شخصيًّا أن ألحق بميدان القتال، حيث نقلت إلى الجيش الثاني الميداني والحرب مندلعة على ضفتي القناة.. وفيما بين «أبو حماد» و«الإسماعيلية» ـ كانت رحلاتنا شبه اليومية تحت قصف المدفعية لعقد المحكمة العسكرية العليا بقرب خطوط.
النيران، حتى انتقلنا إلى قيادة الجيش الثاني بمعسكر الجلاء بالإسماعيلية.. لم يكن من الممكن أن أتخيل حجم وروعة ما حققته القوات المصرية المسلحة ما لم أشاهد وأرى من الخارج والداخل تحصينات دشم خط بارليف التي عصفت بها القاذفات والمدفعية ومشاة القوات المصرية!!.
يومها وقفت مبهوراً متهدج الأنفاس ينثال مني دمع سخين يغسل أتراحًا تجمعت في القلب على مدار سنوات !!.. لم يكن نصر العاشر من رمضان / السادس من أكتوبر الذى رأيت آياته أمامي لم يكن عبورًا فقط لهجمة جوية هدمت معاقل الاحتلال والعدوان، ولا كان عبورًا فقط لقوات برية ومدرعة ومحمولة، عبرت مياه القناة وانطلقت تطهر الأرض المصرية من الدنس الذي جثم عليها ست سنوات، وإنما كان في واقعه ومحصلته النهائية عبورًا للإرادة المصرية، واجتيازًا لحاجز رهيب جَرَّعَنا الهوان لسنوات، واستردادًا للكرامة والثقة، وآيةً على أن المصري حين يستقيم المناخ الذي فيه يعمل، وتنضبط وتخلص الإدارة التي تدير حركته وتنظم خطاه، قادرٌ أن يجتاز المحال، ويحقق الملاحم والمعجزات.
هذا النصر صنعه أبطال عظام وساهم فيه جنود بسطاء، بذلوا أرواحهم بسخاء، وروت دماؤهم مياه القناة ورمال الصحراء في سيناء.
يومها أدركنا، كما ندرك اليوم بعد العبور الثاني وشق القناة الموازية لقناة السويس، أن مصر قادرة، وأن مصر تستطيع بعزم رجالها أن تحقق ما تريد.