تعليق على بيان النيابة العامة بشأن قضية سيد التونسي

بقلم: أ/ محمد شعبان:

طالعتُ بيان النيابة العامة المنشور مساء يوم الأربعاء الموافق 07/12/2022 على صفحتها الرسمية على مواقع التوصل الاجتماعي بشأن القضية المتهم فيها رجل الأعمال سيد التونسي بالاستيلاء على ما قيمته أربعة مليارات جنيه مصري من الأموال المعدودة وفقاً لقانون العقوبات أموالاً عامة والمملوكة لجامعة 6 أكتوبر والمساهم فيها أشخاص اعتبارية تعتبر أموالها في حكم الأموال العامة.

وقد استوضح هذا البيان حقيقة الاتهامات المسندة إلى المتهم المذكور، وما بنيت عليه من أدلة ظاهرة الجدية، والتي بررت القبض عليه وإصدار قرار بحبسه احتياطياً على ذمة القضية.

ومن بين ما أشارت إليه النيابة العامة في بيانها، ذلك الطلب الذي تقدم به المتهم، والذي أبدى فيه رغبته في إثبات تصالحه مع شركة قناة السويس لتوطين التكنولوجيا إحدى الشخصيات الاعتبارية المساهمة في ملكية الجامعة، والإقرار بملكيتها للجامعة مع تمكينه من توثيق هذا الإقرار، وهو الطلب الذي سارعت النيابة العامة بتلبيته، وحضر إليه بناء على ذلك أحد موثقي الشهر العقاري ووثق بدوره هذا التنازل، وتقدم دفاع المتهم به إلى عضو النيابة العامة المختص بالتحقيق، وهو ما انتهت معه النيابة العامة إلى أن الأموال العامة التي أضر بها المتهم واستولى عليها قد تم صونها وردها بهذا التنازل، الأمر الذي ارتأت معه النيابة العامة انتفاء مبررات الحبس الاحتياطي بحق المتهم، ومن ثم قررت إخلاء سبيله مع استمرار التحقيقات.

وأول تعليق يمكن إبداؤه على هذا البيان؛ أنه استظهر حقيقة واقعة الاستيلاء المسندة إلى المتهم، وكان المفهوم مما بيَّنه أن هذا الاستيلاء لم يكن استيلاءً فعلياً، أي أن المتهم لم دخل في حوزته بالفعل ما قيمته أربعة مليارات جنيه نقدية، وإنما كانت هذه القيمة عبارة عن «قيمة تقديرية» لإجمالي الحقوق المالية العينية والمعنوية التي آلت إلى ذمته المالية بفعل التلاعب في المستندات والميزانيات الخاصة بالجامعة والبيانات المالية الخاصة بإحدى الشركات المساهمة في ملكية الجامعة، وهي شركة قناة السويس لتوطين التكنولوجيا، ولعل ما يؤكد هذه الحقيقة هو اعتبار النيابة العامة لإقرار التنازل الموثق والصادر عن المتهم بمثابة دليل كاف على جبر الأضرار التي حاقت بالمال العام.

وثاني تعليقاتي على هذا البيان؛ أن النيابة العامة لم تستظهر فيه سندها القانوني في إمهالها المتهم فرصة إثبات تصالحه مع الجهة المجني عليها، واتخاذ ما يلزم لجبر الأضرار التي حاقت بالمال العام، وهو أمر واجب الإيضاح للرأي العام، سيما وأن هذا البيان يخاطب العامة لا المتخصصين في القانون وعلومه فحسب؛ ذلك أنه وفقاً لنص المادة (18 مكرراً “ب”) من قانون الإجراءات الجنائية المضافة بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 16 لسنة 2015، صار لكل متهم الحق في طلب إثبات التصالح في الدعوى الجنائية الناشئة عن أي من الجرائم المنصوص عليها في الباب الرابع من الكتاب الثاني من قانون العقوبات، وهي جرائم الاعتداء على المال العام والعدوان عليه والغدر، وهذا التصالح مما تنقضي به الدعوى الجنائية، وذلك متى تم وفقاً للأوضاع وفي نطاق الحدود المقررة بنص القانون، وأن النيابة العامة وهي بصدد التحقيقات في هذه الجرائم لا تملك -مطلقاً- أن تحول دون المتهم واختيار هذا الطريق في إنهاء الدعوى الجنائية، وأنه متى أبداه وجب عليها أن تلبيه وتمنحه الفرصة في إنهاء إجراءات التصالح.

وثالث تعليقاتي على هذا البيان؛ أنه على الرغم من وجوبية استجابة النيابة العامة لطلب المتهم في إثبات تصالحه مع الجهة المجني عليها، إلا أن ذلك ليس من شأنه أن يمنح النيابة العامة أو أي سلطة تحقيق أخرى، أي سلطة تقدير بخصوص البت فيما إذا كان هذا التصالح منتجاً لآثاره من عدمه، وذلك لأن المشرع في نص المادة (18 مكرراً “ب”) وإن أجاز التصالح، إلا أنه رسم له طريق شكلي واجب الإتباع، بأن جعله معقوداً بيد لجنة يصدر بتشكيلها قرار من رئيس مجلس الوزراء، كما رسم المشرع إطاراً شكلياً لإجراءات عمل تلك اللجنة في قبول وإثبات طلبات التصالح، وبحثها، ودراستها، والبت فيها، تمهيداً للعرض على مجلس الوزراء لاعتماد محضر التسوية، وقد علق المشرعُ نفاذ التصالح على تمام هذا الاعتماد، والذي يعد توثيقاً له، ويصير محضر التسوية من بعد هذا في عداد السندات التي لها قوة السند التنفيذي.

 لذلك فإنني أرى أن هذا البيان فيما تضمنه من عبارة (الأمر الذي تكون معه الأموال العامة التي أضر بها المتهم واستولى عليها قد تم صونها وردها بهذا التنازل والإقرار المقدم من المتهم … إلخ)، كان محل نظر؛ لأن هذه العبارة تحمل إفصاحاً من النيابة العامة عن اتجاهها لدى التصرف في الأوراق، بما بدا من البيان من أنها اعتبرت «الإقرار الموثق» من المتهم يعد تصالحاً منتجاً لآثاره، على الرغم من أن الاختصاص بتقرير ذلك منحسر عنها تماماً، ومعقود بيد سلطة أخرى، وهي مجلس الوزراء بناء على توصية لجنة التسوية المختصة.

وقد يعترض البعض -وأنا منهم- على حسر هذا الاختصاص عن النيابة العامة بالبت في الدعوى الجنائية، كونها الأمينة عليها وصاحبة الاختصاص الأصيل بالتحقيق والتصرف فيها. إلا أن هذا الاعتراض لا يعدو أن يكون مجرد اجتهاد، وإن كان له محلّه، إلا أنه بإزاء صراحة عبارة النص التشريعي أضحى هذا الاجتهاد ممتنعاً، وبات من الواجب بل ومن الضروري مراعاة الإجراءات والقواعد الشكلية التي أورد المشرع النص عليها وقيد بها سلطة النيابة العامة في هذا المجال؛ فمن المتعين -لكي ينتج هذا التصالح أثره قانوناً- أن توجه النيابة العامة دفاع المتهم للتقدم بطلب تصالح إلى اللجنة المختصة والمشكلة وفقاً لأحكام قرار رئيس مجلس الوزراء 2873 لسنة 2015 لكي تنظر في هذا الطلب وفقاً للضوابط المعمول بها بموجب أحكام قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 2874 لسنة 2015 تمهيداً للعرض على مجلس الوزراء، والذي ينعقد له الاختصاص بمفرده في إقرار هذا التصالح متى رأى أنه جبر الضرر الذي حاق بالمال العام، أو رفضه في حال ثبوت العكس، وذلك على ضوء ما سينتهي إليه رأي اللجنة المختصة في توصيتها بعد استيفاء إجراءات التصالح.

ولا مُشاحَّة في سلطة تقدير النيابة العامة للاعتبارات الواقعية التي استجلت من خلالها توافر مبررات الحبس الاحتياطي بحق المتهم من عدمه؛ فإن هي رأت فيما أقدم عليه المتهم من إجراءات ما ينم عن جديته في إصلاح الضرر الذي حاق بالمال العام، واستقام لديها ما ينفي مبررات الحبس الاحتياطي بحقه، واطمأنت من خلال ذلك على مجريات التحقيق وإجراءاته وعدم وجود ثمة ما يؤثر عليه بالسلب، فقررت إخلاء سبيله، فلا مندوحة لها عن هذا الإجراء، على أساس أن الحبس الاحتياطي هو في حقيقته إجراء احتياطي قُصد به صيانة مجريات التحقيق، ومن ثم فهو ليس بعقوبة، ولا يسوغ أن يكون كذلك، ومن ثم فإن قرارها بإخلاء سبيل المتهم جاء متفقاً وصحيح الواقع والقانون.

 وأنه متى استوفى طلب التصالح سائر أوضاعه الشكلية على النحو المقرر قانوناً، وأعتمده مجلس الوزراء، فإنه ينتج أثره على الفور ويترتب عليه انقضاء الدعوى الجنائية عن الواقعة محل التصالح بجميع أوصافها، حتى وقائع التزوير المرتبطة بوقائع الاستيلاء، وكذا وقائع الكسب غير المشروع التي من شأنها أن تثور، فجميعها تنقضي الدعوى الجنائية عنها بهذا التصالح، ويتولى مجلس الوزراء إخطار النائب العام لإعمال شئونه في الدعوى الجنائية والتقرير في الأوراق بألا وجه لإقامة الدعوى لانقضائها بالتصالح.

والله من وراء القصد،،،

زر الذهاب إلى الأعلى