تعليقاً على حكم المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم 100 لسنة 43 قضائية دستورية
بقلم: الأستاذ/ محمد شعبان
بجلسة الرابع من نوفمبر 2023 أصدرت المحكمة الدستورية العليا برئاسة المستشار/ بولس فهمي، حكمها في القضية رقم 100 لسنة 43ق دستورية والذي أسدلت به الستار على واحدة من أهم الإشكاليات التي كانت تهدد ضمانات الوظيفة العامة، والتي ثارت بمناسبة تطبيق الفقرة الأولى من المادة (64) من قانون الخدمة المدنية الصادر بالقانون رقم 81 لسنة 2016 والذي جرى نصه على أن: ” كل موظف يحبس احتياطا أو تنفيذ لحكم جنائي يوقف عن عمله بقوة القانون مدة حبسه، ويحرم من نصف أجره إذا كان الحبس احتياطا أو تنفيذ لحكم جنائي غير نهائي، ويحرم من كامل أجره إذا كان الحبس تنفيذ لحكم جنائي نهائي”.
وتدور وقائع تلك القضية حول قيام أحد موظفي الدولة بالطعن أمام المحكمة الإدارية المختصة، على قرار الجهة الإدارية “برفض صرف نصف أجره المحروم منه بسبب حبسه الاحتياطي على ذمة إحدى القضايا الجنائية التي صدر فيها حكم لصالحه بالبراءة”؛ واستندت الجهة الإدارية إلى نص الفقرة الأولى من المادة (64) من قانون الخدمة المدنية سالف الإشارة إليه، فطعن على هذا القرار، وقررت المحكمة المختصة -من تلقاء نفسها- إحالة نص المادة المذكور إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فيما ثار من شبهة عدم دستوريته.
وبعد تداول القضية أمام المحكمة الدستورية العليا قررت بجلسة 4 نوفمبر 2023 بعدم دستورية نص الفقرة الأولى من المادة (64) من هذا القانون؛ فيما تضمنته من حرمان الموظف الذي يحبس احتياطا من نصف أجره عن مدة حبس في مجال سريانه على حالات انتفاء المسؤولية الجنائية بحكم نهائي أو قرار قضائي لا يجوز الطعن عليه.
واشتمل حكم المحكمة المذكور على عدة مبادئ دستورية هامة؛
أولاً: النص المحال -في مجال سريانه على حالات انتفاء المسئولية الجنائية بحكم نهائي أو قرار قضائي لا يجوز الطعن عليه- أقام قرينة قانونية قاطعة على ثبوت مخالفة الموظف الذي يحبس احتياطياً، لالتزامه الوظيفي، وخروجه على مقتضى الواجب الوظيفي، بما يوجب مجازاته بجزاء تأديبيّ نهائي وهو الحرمان من نصف أجره خلال مدة حبسه، فلا يجوز سحبه أو إلغاؤه متى انتفت المسئولية الجنائية عن الفعل المنسوب إلى الموظف بحكم نهائي أو قرار قضائي لا يجوز الطعن عليه، حتى ولو لم يكن الفعل في ذاته مخالفة تأديبية؛ وهو ما يخالف مبدأ شرعية الجزاء -جنائياً كان أم مدنياً أو تأديبياً- والذي ينبغي أن يكون متناسباً مع الأفعال التي أثمها المشرع، ويعد -كذلك- افتئاتاً على مبدأ «العدالة»، الذي اعتمده الدستور النافذ، باعتباره إلى جانب مبدأي المساواة وتكافؤ الفرص، أساساً لبناء المجتمع وصون وحدته الوطنية.
كما يعد -أيضاً- افتئاتا على مبدأ افتراض البراءة، وعلى حق التقاضي الذي كفله الدستور، ومؤداه ألا يعزل الناس جميعهم، أو فريق منهم، أو أحدهم من النفاذ إلى جهة قضائية، تكفل بتشكيلها وقواعد تنظيمها ومضمون القواعد الموضوعية والإجرائية المعمول بها أمامها، حداً أدنى من الحقوق، التي لا يجوز إنكارها عمن يلجون أبوابها؛ ضماناً لمحاكمتهم إنصافاً.
ثانياً: افتات النص المحال على مبدأ العدالة -كذلك- باعتبار أن التنظيم القانوني لأجر الموظف العام لا يقتصر -فقط- على ما يؤديه من أعمال وواجبات وظيفية، وإنما يتقرر ليستوفي الموظف العام متطلباته الاجتماعية، ويقوم على إشباع احتياجاته الأسرية، وهو ما أكده المشرع في العديد من الاستثناءات، التي قررها على قاعدة الأجر مقابل العمل، وهي استثناءات ترنو في مضمونها إلى تحقيق غاية أسمى من التطبيق التلقائي للقاعدة المار ذكرها، حاصلها الحرص على الجوانب الإنسانية والاجتماعية والأسرية للموظف العام، من خلال منحه راتبه كاملاً، متى ثبت أن انقطاعه عن العمل كان لسبب يخرج عن إرادته.
ثالثاً: النص المحال افتقر إلى ضمانة الجوهرية مقررة لشغل الوظائف العامة هي حصوله على كامل أجره كل ما كان مهيئا لأداء العمل المنوط به، دون أن ينال من هذه الضمانة عدم أدائه العمل لحبسه احتياطيا، «ما دامت قد انتفت مسؤوليته الجنائية بصورة نهائية عن ارتكاب الفعل الذي نسب إليه»، ليغدو إهدار الضمانة الص السالف بينها إخلالا من النص المحال بكفالة الدولة لحقوق شاغلي الوظائف العامة، والتفاتة منه على ما أضفاه الدستور عليها من حماية.
رابعاً: النص المحال اتخذ من حبس الموظف احتياطيا قرينة قانونية قاطعة على ثبوت إخلاله بالتزامه الوظيفي، دون مراعاة لانتفاء الرابطة المنطقية بين الأمرين، مادامت قد انتفت عن الموظف المسؤولية الجنائية بصورة نهائية، مما يكون معه النص المحال قد أخل بأصل البراءة التي توثقها حجية الشيء المحكوم فيه، أو الأمر المقضي به، بحسب الأحوال.
خامساً: النص المحال قد قوض حق الموظف العام -الذي يحبس احتياطيا وتنتفي مسؤوليته الجنائية على نحو نهائي- في المطالبة باسترداد نصف أجره الذي حرم منه خلال مدة حبسه، جبراً للضرر المادي محقق الوقوع الذي أصابه، وهو ما يعد تعطيلاً للحق في التعويض عن الحبس الاحتياطي الذي تلتزم به الدولة وافتئاتاً على الملكية الخاصة؛ فالنص على تنظيم القانون لحالات استحقاق التعويض، الذي تلتزم الدولة بأدائه عن الحبس الاحتياطي، أو عن تنفيذ عقوبة صدر حكم بيت بإلغاء الحكم المنفذ بموجبه، الذي استحدثه دستور 2014 في المادة (54) منه، ضمن باب الحقوق والحريات والواجبات العامة، مؤداه أن التزام الدولة بالتعويض في الأحوال المار بينها صار أمراً مقضياً، يتربص صدور تشريع ينظم أحوال التعويض عن الحبس الاحتياطي، الذي تباشره السلطة القضائية في الدعوى الجنائية، التي تنتفي فيها المسؤولية الجنائية للمحبوس احتياطيا بصورة باتة.
ولا كذلك الحال لمن حرمه تشريع يحكم علاقات وظيفية للمخاطبين بقانون الخدمة المدنية، المعدودة من علاقات القانون العام، من استئداء نصف أجره الوظيفي المحروم منه، خلال مدة حبسه الاحتياطي، فيما لو انتفت مسئوليته الجنائية بصورة نهائية، عن الوقائع التي حبس عنها، إذ يغدو استرداد الموظف نصف أجري الذي حرم منه -والحال كذلك- بمثابة تعويض عما لحقه من خسارة، تلتزمه جهة عمل الموظف؛ إنفاذا للالتزام المنصوص عليه بالمادة (54) من الدستور، فيما يكون حصوله على باقي عناصر التعويض -في حالات استحقاقه- رهنا بصدور التشريع الذي عينه النص الدستوري ذاته، وإلا كان إقرار غير ذلك، افتئاتا على التزام الدولة بحماية الملكية الخاصة وصونها المنصوص عليه بالمادتين (33 و 35) من الدستور، وتلفتاً من تكامل أحكام الدستور، في وحدة عضوية متماسكة على النحو الذي تضمنه نص المادة (227) من الدستور ذاته.
وبصدور هذا الحكم فقد أضحى نافذاً بذاته وملزماً لكافة سلطات الدولة -بمجرد نشره بالجريدة الرسمية- دون حاجة لصدور أي تشريع آخر بتنفيذه، بما يترتب عليه من عدم جواز تطبيق النص المقضي بعدم دستوريته من اليوم التالي لنشر الحكم، وبالتالي يعود الأمر إلى ما كان عليه العمل في ظل قانون العاملين المدنيين بالدولة، بوقف صرف نصف أجر الموظف المحبوس احتياطياً أو تنفيذاً لحكم غير نهائي، ومتى قضي ببراءته نهائياً أو تقرر ألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية ضده، فإنه يحق له استرداد ما أوقف صرفه من أجره، دون الإخلال بمسئوليته التأديبية إن كان لها محل.
كما أضحى من حق كل موظف عام من المخاطبين بأحكام قانون الخدمة المدنية، رُفض طلبه باسترداد ما حُرم منه من أجره، بسبب حبسه الاحتياطي أو تنفيذاً لحكم جنائي غير نهائي، وقضي ببراءته أو بالا وجه لإقامة الدعوى بحقه، أن يتقدم إلى جهة عمله مرة أخرى طالباً رد ما استقطع من أجره، بشرط ألا يكون قد مر قرار الجهة الإدارية بعدم الصرف مدة ستين يوماً دون أن تقطعها إجراءات التظلم أو التقدم إلى لجنة فض المنازعات أو الطعن على هذا القرار.
أما إذا انقضت هذه المدة دون تظلم أو طعن على قرار الجهة الإدارية، فيسقط حق الموظف في طلب استرداد ما حرم منه كأثر لتطبيق النص المقضي بعدم دستوريته، على أساس أن الحكم له أثر القانون الجديد الذي لا يسري إلا في اليوم التالي من تاريخ صدوره، وطالما أن المراكز القانونية استقرت بتحصن قرار الجهة الإدارية التي أعملت النص المقضي بعدم دستوريته، فلا يجزئ الموظف أن يطعن على قرارها، حتى ولو كان ذلك استناداً إلى كونه قراراً سلبياً بالامتناع، لأن المركز القانوني الذي يكفل للموظف حق الاسترداد والذي يلزم الجهة بالرد لم ينشأ إلا بموجب الحكم الصادر في 4 نوفمبر 2023 وهو ما تكون معه القرارات التي تحصنت قبل هذا التاريخ -باستنفاد مدة الطعن عليها أو التظلم منها- صدرت صحيحة ومرتبة لآثارها قانوناً.