تعزيز المصطلح القانوني واللغة القانونية

 [ فصول في "اللُّغتين القانونية والأصولية "(الفصل 18) ]

بقلم/ الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني

[المحامي، وأستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة والقانون – الجامعة الإسلامية ]

 

نظرا لتوسع العلوم القانونية وتطور الدراسات اللغوية، ومع ظهور مصطلح “اللغة القانونية”” ومحاولات تأصيل معارفها فإنها تحتاج إلى مزيد من المبادرات والجهود النوعية في سبيل تعزيز تلك “اللغة العربية القانونية” لغة الدول العربية الرسمية وأحد أهم مقوماتها الوطنية ووعاء نظامها الدستوري والقانوني الوطني ولغة المحاكم، كما نص الدستور والقانون.

 

فالأصل في “لغة القانون” و”لغة التقاضي” وما يتعلق بهما هو “اللغة العربية” بنص دستور2014م وكذلك في الدساتير قبله 1972م، ودستور 2012م، ففي المادة (2): ” الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية”، وفي المادة ( 19) من قانون السلطة القضائية “لغة المحاكم هي اللغة العربية”.

ودلالات هذين النصين هو ما ذكرته محكمة النقض [الطعن 2333 لسنة 59 ق جلسة 16 / 1 / 1994 مكتب فني 45 ج 1 ق 34 ص 158] بقولها بعد إيرادهما أن هذا: ” يدل على أن المشرع عدَّ اللغة العربية من السمات الجوهرية والمقومات الأساسية التي ينهض عليها نظام الدولة، مما يوجب على الجماعة بأسرها حكومة وشعبا بحسب الأصل الالتزام بها دون أيه لغة أخرى كوسيلة للخطاب والتعبير في جميع المعاملات وشتى المجالات على اختلافها”.

وحرص المشرع على تقنين هذا الحكم في مجال القضاء بإيجاد نص صريح جلي المعنى قاطع الدلالة في أن اللغة العربية هي المعتبرة أمام المحاكم يلتزم بها المتقاضي والقاضي على السواء فيما يتعلق بإجراءات التقاضي أو الإثبات أو إصدار الأحكام.

ومن أهم طرائق تعزيز هذه “اللغة القانونية الشريفة” هو تدعيم “المصطلح القانوني” بمعناه الواسع، وفي هذا السبيل فإننا نقترح ما يلي من مشاريع عملية غايتها رفد المصطلح القانوني وألفاظ القانونيين بزاد لغوي قانوني من خلال معجم عملي وظيفي للغة القانونية، وفي الحقيقة إنهما معجمان وليس معجما واحدا أولهما : “المعجم القانوني الموسع”، وفكرته تتسم بالبساطة على رغم أهميتها، إذ تقوم على :

1-جمع مواد كل المعاجم القانونية القائمة.

2-استقراء العلوم القانونية ونصوص التشريع واستخراج جميع المصطلحات القانونية منها.

3- وضع خطة تصنيفية لهذا المجموع، وأقترح أن تُعتمد خطة مجمع اللغة العربية والتي أوردها في صدر ” معجم القانون”، طبعة  الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية 1420هــ- 1999م.وهو المعجم الذي كان محل تناول المقال الفائت باسم “المصطلح القانوني” ودور “مجمع اللغة العربية” نحوه [ فصول في “اللُّغتين القانونية والأصولية “(الفصل 17) ]

 

4- وضع تعريفات موجزة لكل مادة مع الإحالات والنص على المراجع لمن أراد الاستزادة .

5-تقفية المجموع بالمصطلحات المقابلة في اللغات الانجليزية والفرنسية وبما يناسب المجموع من لغات أخرى.

ولا يخفى ما لأهمية هذه الفكرة على بساطتها وسلاستها، وأظن أنها في ذهن الكثيرين ومن جملة آمالهم للنهوض بالاصطلاح القانوني وباللغة القانونية ولرفد القانونيين على تنوعهم ودراسي القانون والشريعة بحاجاتهم الاصطلاحية.

 

المعجم الثاني : “معجم اللغة القانونية” :

وتأتي فكرة هذا المعجم بناء على دواع كثيرة أهمها الضرورات الواقعية إذ تقضي ضرورات الواقع رفد القانونيين بمعاجم تيسر سبيل الصياغة والنظم القانوني للنصوص القانونية ومتعلقاتها أو للغات القانونية الرسمية أو البيانية على تنوعها وتعددها، وسبيل فهم هذا السيل الهائل من المصطلحات التشريعية أو العلمية أو الإجرائية الوظيفية في عالم القانون، وهذا ما يستدعي تأسيس معجم لغوي قانوني بنائي ودلالي معا يختص بــ”اللغة القانونية» أو باللغة العربية القانونية في عمومها من حيث:

1-اصطلاحاتها القائمة، تأصيلا وتحليلا .

2-ومن حيث مادتها اللغوية الجديدة (وهي تلك الألفاظ اللغوية الصالحة والقابلة لأن تكون قانونية بعد الوفاء بالشروط والأحكام العامة للمصطلحات القانونية).

وهناك متعلقات أخرى بخطة ونظام هذا المعجم سوف تتبين جملتها في طبات هذه السلسلة المقالية ، فمن ذلك مثلا مقترح ما  يزال النقاش قائما حوله:

هل يخصص هذا المعجم  باللغة القانونية الوضعية وحدها أو يكون لهذه وللغة الأصولية  ( لغة الأحكام الشرعية والقضائية وما يتعلق بها) معا ؟

وهل الأصلح أن يفرد لكل لغة منهما معجما خاصا..؟!

والأقرب إلى الواقع الوظيفي القانوني هو جمعهما معا في بعض الطبعات وفصلهما في طبعات أخرى لما للأمرين من أهمية .

وهذه بعض المسائل حول هذا المعجم:

المسألة الأولى: طبيعة هذا المعجم اللغوي القانوني المقترح :

لهذا المعجم طبيعة خاصة في أنه معجم عربي عربي ابتداء يعنى باللغة القانونية والشرعية نفسيهما لا باللغات المترجمة (فلها شأن آخر)، فيجمع المصطلحات القانونية القائمة كثيرة التناول والتداول والتوظيف، مع أصولها ومشتقاتها بالمعنى الواسع للاشتقاق ومأخوذاتها واحتمالاتها اللغوية.

وهذا من أهم المهمات للمعجم لأن كلمة “حق” مثلا هي مصطلح قانوني مركزي واشتقاقاته تزيد على العشرين مشتقا وجلُّ هذه المشتقات قابل للاستعمال غير انه معطل في عالم القانون والقانونيين فمثلا :

حق حقا وحقوقا

وأحق يحق إحقاقا.

 فهو محِق وذاك محَقّ .

 ومحقوق ومحيق وحاق وحقيقة .

واستحقاق ومحاققة ومحقق وتحقيق وتحاقق وحقيق وحقق ( صفة مشبهة …. ومشتقات كثيرة لا يعرفها القانونيون ولم يشجعهم أحد على استخدامها والتألق في النطق بها واستدعائها في كتاباتهم ….

فهم يشكون الفقر اللغوي والحبسة البلاغية والعجمة اللفظية وبين أيديهم كمز ثمين من المفردات اللغوية القانونية وتلك القانونية اللغوية …!!

ولعل هذا ما جاء المعجم في الأساس للعمل على حلها ومثيلاتها من المشكلات.

ومن ثم يمكننا تسميته بـ”معجم صناعة الكلمة القانونية” أو “معجم الثروة اللغوية للقانونيين” أو “معجم الالفاظ والتراكيب والجمل القانونية” أو “معجم الفصاحة في المرافعة والصياغة” أو ما يقارب ذلك من مسميات وجميعها من روافد تعزيز الاصطلاح القانوني ولغته القانونية وعليه يمكن النص على غاية هذا المعجم بأنها:

1- إثراء الثروة اللغوية القانونية للقانونيين .

2- تقريب المفردات والتراكيب والأساليب اللغوية القانونية والقانونية اللغوية على القانونيين.

3-إعطاء نماذج بنائية ودلالية للمصطلحات والتراكيب والجمل والعبارات اللغوية القانونية وتلك القانونية اللغوية للقانونيين.

 أما عن عنايته ومستهدفاته اللغوية فهي :

1-الألفاظ القانونية وتلك القابلة لأن تكون قانونية .

2- المشتقات بكل أنواعها وصورها وخاصة تلك القانونية ورديفتها القابلة لأن تكون قانونية .

3-التراكيب الجمل والعبارات القانونية بالفعل وتلك التي يمكن أن تكون قانونية .

وهذه المستهدفات الثلاثة هي غاية قصوى يرنو إليها كل قانوني أصيل حريص على تعزيز لغته القانونية وعلى إثرائها وتحقيق أعماله القانونية من خلالها كتابة وشفاهة ، كما أنه من واقع عملي واتصالي أراها ستساهم بطريقة كبيرة في إصلاح المنطق القانوني وتعزيز الاصطلاح القانوني فهما وتوظيفا واصطناعا، إضافة إلى ما يتوقع إعماله في استقامة اللغة القانونية. ويكفي في هكذا مقام التذكير بأنني لم أقف على كتاب واحد أو جزء من كتاب يتعلق بالتنمية اللغوية للقانونيين …وهذا وبحق من دواعي العجب والدهشة..!!

ولائتلاف عرض فكرة المعجم يمكننا إيراد تقويمه على أساس الجانب البنائي للغة حيث تأتي فكرة المعجم على المستوى البنائي لتجميع المفردات القانونية والمفردات القريبة منها وذات الصلة والمصاحبات لهذه المفردات ولكل مفردة قابلة لأن تكون قانونية مع مشتقاتها ومتعلقاتها لأهداف:

أولا: تحديد معناها اللغوي الوضعي أي المعنى الأساسي للكلمة كما وضعته العرب أو وضعها الواضع أيا كان واستعملتها العرب والعمدة فيه هو كتاب ابن فارس ” مقاييس اللغة ” ، وذلك المعنى المجازي وعمدته “أساس البلاغة للزمخشري” وذلك لمعرفة أصول اللفظة اللغوية ومدلولاتها وعلاقاتها، ووجه كونها قانونية أو ذات دلالة قانونية .

وكما سبق فإن المعنى الوضعي هو المعنى الأقرب إلى القانون ، والكلمات ذات المعنى الوضعي لها خصوصيتها في الاستعمال القانوني إلا إذا كانت مستقرة مجازيا وغلب معناها المجازي أو العرفي على معناها الوضعي -على ما سيأتي تفصيله في اللغة القانونية- فيستقر المعنى الغالب عليها ويصبح هو الأساس لها.

ثانيا: العناية التامة بالمشتقات والدلالات الاشتقاقية، فهي عصب معجم اللغة القانونية كما سبق بل لعلها الدافع الأول نحو إعداد هذا المعجم ، ومن ثم فقد حرصنا على استقصاء المشتقات وتعدادها وأخذنا في هذا السبيل بالمذهب الأوسع الذي يوصل مشتقات المفردة غير الجامدة إلى ما يزيد على عشرين مشتقا من كل مفردة قانونية رئيسة

[انظر د. صبحي إبراهيم الصالح : دراسات في فقه اللغة، ص 328: دار العلم للملايين الطبعة الأولى 1379هـ – 1960م ، ومنه “الفصل التاسع: صيغ العربية وأوزانها رأينا في أنواع الاشتقاق أن العربية أصابت ثروة لغوية واسعة بما تشعب عن أصولها من فروع، وما تكاثر في موادها من صنوف وألوان، فكان العمل الاشتقاقي حركة حية دائمة تلد للغتنا كل لحظة مولودًا جديدًا، وتلبي للأحياء أدق مطالب التعبير.، لكننا -سواء ألاحظنا قوالب المشتقات أم لم نلاحظها- لا يخفى علينا أن حركة الاشتقاق الدائمة تنشئ لمشتقاتها صيغًا مقدودة على قدها، مرسومة على حدها، لا شيء أكثر شبهًا بها من القوالب التي تصنع على مثالها السبائك الذهبية، ففي العربية إذن ظاهرتان متعاكستان، وهما على تعاكسهما متداخلتان بل متكاملتان: ظاهرة الحركة الاشتقاقية فيما تلده وتحييه، وظاهرة الصياغة القابلية فيما تسبكه وتبنيه. وكلتا الظاهرتين تعود على العربية بالغنى والثراء، وتهبها القدرة على التطور والنماء”].

ثالثا: تمييز المفردات ذات العلاقة القانونية والقابلة لأن تكون كلمات قانونية أصالة أو سياقا أو مع غيرها بهدف توسيع دائرة المصطلحات القانونية وللمساعدة على إيجاد قوالب لفظية للمعاني القانونية المعربة والمعاني القانونية المستجدة .

رابعا: الربط بين المعاني اللغوية والقانونية وهذا من جديد المعجم وهو من الأهمية بمكان أن نردَّ مباني ومعاني المفردات القانونية إلى أصول مبانيها ومعانيها اللغوية الأصلية وأن نبين كيفيات وآليات الجمع بينهما، ولا يخفى ما لهذا البيان والربط بين المعاني اللغوية والقانونية من أثر فاعل في الفهم والتفهيم والوقوف على مسارات المفردات القانونية لغويا وقانونيا.

خامسا: ذكر تصريفات المفردات القانونية ومآخذها ووجوه تصاريفها من حيث الجمع والإفراد والتثنية والتعريف والتنكير والتذكير والتأنيث ، بغرض تعميق المعرفة البنائية والدلالية بمفردات اللغة القانونية في مستوياتها الثلاثة الفنية القانونية ( لغة القاعدة القانونية ونصوصها)، واللغة القانونية الرسمية ( وهي ذلك المستوى الرفيع والرسمي من اللغة القانونية وهو ما يلي المستوى الفني) ثم المستوى البياني وهو ذلك المستوى المتوسع من اللغة القانونية.

وعلى المستوى الشخصي فقد شرعنا في تنفيذ ما سبق ذكره وقطعنا فيه شوطا كبيرا،  كل هذا بهدف القيام بفرض الكفاية وإثراء لغة القانونيين وتعزيز الثروة اللغوية للغة القانونية الوضعية وللغة الأصولية  الشرعية وتعظيمها، وفي ذلك معاونة كبيرة للقانونيين الأدباء اللغويين والمعنيين باللغة القانونية على الاختيار البنائي والإبداع الصوغي والتألق النظمي في الكتابات القانونية مستلهمين في ذلك من فيوض اللغة القانونية وأصولها ومن ثراء وسعة وغدق اللغة العربية التراثية مباشرة.

 

زر الذهاب إلى الأعلى