تعدد درجات التقاضي مضيعة للوقت أم ضمانة للحقوق (نظرة على موقف النظم والتشريعات من هذا المبدأ)

كتبه: عمر محمود عبد الصمد, المحامي
يرجع مبدأ التقاضي على الدرجتين إلى قديم العصور حتى أنه عُرف في قضاء مصر الفرعونية؛ فكان القضاء العام يتم على درجتين وهما محكمة المحافظة ثم محكمة الاستئناف.

وكما هو مستقر عليه أن السلطات تتوزع في كل دولة بين سلطة تنفيذية وسلطة تشريعية وأخرى قضائية، وكل سلطة من هذه السلطات لها اختصاصاتها، والتي تختلف عن غيرها من السلطات، وإن كانت تتداخل فيما بينها وتتكامل مع بعضها، بحيث نصل في النهاية إلى نوع من التوازن بينهم.

والسلطة التشريعية -كما هو معروف- تصدر التشريعات والقوانين التي تضبط المجتمع وتنظمه، والتنفيذية والتي تتمثل في الحكومة عليها أن تنفذ هذه القوانين، وتأتي السلطة القضائية لتكون حلقة الوصل بين السلطتين فتحكم بين الناس بالقانون الذي أصدرته الأولى وتنفذه الثانية، ومن هنا يبرز لنا الدور الجوهري والمؤثر الذي تتقلده السلطة القضائية .
ولاشك ولاريب أن السلطة القضائية التي تضطلع بمهمة الحكم بين الناس، بل في بعض الأحيان القضاء بين الأفراد العاديين والدولة (محاكم مجلس الدولة)، لابد أن يكون لها من الضمانات التي تبعث إلى الثقة في أحكامها واحترام قضائها، وأن يكون لها من المبادئ التي تسير عليها ولا يشغلها عنها شاغل مهما عظم قدره أو قويت شوكته، لأن القضاء يكون _في كثير من الأحيان_ الملاذ الأخير أوالوحيد لأفرد المجتمع إذا ما وقع عليهم ظلم أو إجحاف أو نقصان حق من أي طرف.

وهناك مبادئ يقوم عليها القضاء تمثل أسساً عامة، وأساساتاً قوية يقوم عليها التنظيم القضائي في مختلف الأنظمة والدول في العالم أجمع؛ كمبدأ استقلال القضاء وكفالة حق الدفاع والمساواة أمام القضاء ومجانيته, ومبدأ التقاضي على درجتين, وهذا الاخير هو محل الحديث الآن في مدى جدواه ونطاق تطبيقه وموقف التشريعات المختلفة منه, وهل هو معتمد فعلا لدى النظام القضائي الاسلامي!.

ويعني هذا المبدأ تمكين الخصوم في الدعوى من الطعن على الحكم بعد إصداره من محكمة الدرجة الأولى، وحقهم في عرض النزاع مرة ثانية أمام محكمة أعلى لتفصل فيه من جديد. يتضح من ذلك أن أحد الخصوم إذا ما رأى أن الحكم الصادر من أول درجة لم ينصفه، ولم يستجب لطلباته، أو أنه غير مطابق لصحيح القانون، فقد أتاح له القانون فرصة أخرى لعرض دفاعه ودفوعه، وتدارك ما فاته من أوجه الدفاع أمام محكمة الدرجة الأولى، وتوضيحها لمحكمة الدرجة الثانية.

والوسيلة العملية لتطبيق هذا المبدأ هي الاستئناف, وتقوم محكمة الاستئناف بنظر الدعوى المطروحة عليها والتأكد من تطبيق _حكم محكمة أول درجة_ القانون قاضية بتأييد الحكم أوتقضي بالغائه أو تعديله حسبما يترأى لها، وحكم الاستئناف يحل محل حكم أول درجة، ويكون هو الحكم الوحيد في القضية.
ويلاحظ أن وجود درجتين للمحاكمة لايعني خضوع محكمة الدرجة الأولى في توقيف الدعاوى وإصدار أحكامها لسلطة محكمة الدرجة الثانية وتوجيهها، بل يعني فقط إمكان رفع التظلم إلى محكمة الدرجة الثانية وهي أعلى رتبة في الملاك العدلي من محكمة الدرجة الأولى؛ وبالتالي أكثر خبرة وفي بعض الأحوال أكثر عددا من قضاة الدرجة الأولى.

ويتقرر مصير النزاع بما تقرره محكمة الاستئناف ويحوز حكمها قوة الأمر المقضي فيه بعد أن تتدارك العيوب (إن وجدت) أو ما قد فات على حكم المحكمة الأولى. واللجوء إلى قضاء محكمة الاستئناف أو محكمة الدرجة الثانية هو حق للمتقاضين وليس واجب فليس ثمة إلزام على الخصم الخاسر لدعواه بالطعن على الحكم.

وفكرة تعدد درجات التقاضي فكرة لها أصولها في الفقه الإسلامي مع الوضع في الاعتبار أن قواعد الشريعة لا تمنع من المقارنة والإطلاع على كافة النظم القانونية لتبحث عن الحلول العلمية النافعة للمشاكل التي تجد على المجتمعات، على اعتبار أن العلم -أينما وجد – هو فيض من الله على الإنسان المجتهد الذي يأخذ بأسباب التقدم، وهذه مسألة تشترك فيها البشرية بأكملها.

التقاضي على درجتين في القرآن:
قال تعالى ((وداود وسليمان اذ يحكمان في الحرث اذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكما وعلماً وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين )) الآية 78, 79 من سورة الأنبياء. فنتبين من الآية أن غنماً أتلفت حرثاً فقضى داود عليه السلام بالغنم لصاحب الكرم, فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله, قال: وما ذاك , قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ودفعت الغنم إلى صاحبها. فيتضح من هذا الموقف القرأني العظيم أن نبي الله داود حكم في قضية ما فعدّل النبي سليمان عليه السلام من الحكم الأول.
قصة الحفرة التي حفرها الناس للأسد سنة تقريرية للتقاضي على درجتين:
واستئناف الحكم برفعه إلى قاضي أعلى درجة فكرة لها أصولها في القضاء الإسلامي، فقد روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما ولي أمر اليمن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حدث أن حفر الناس حفرة لأسد ليقع فيها، فلما وقع الأسد بالحفرة تزاحم الناس حوله لينظروه ، فوقع واحد منهم في الحفرة ، فأمسك بثاني فوقع والثاني بالثالث والثالث برابع حتى وقع الأربعة في الحفرة وقتلهم الأسد، فاحتكم أهل القتلى إلى علي رضي الله عنه ، فقضي للأول بربع الدية ، وللثاني بالثلث وللثالث بالنصف وللرابع بدية كاملة، وأوجب هذه الديات على عواقل المزدحمين حول الحفرة. فلم يرتح أهل القتلى لهذا الحكم، وأتوا الرسول صلى الله عليه وسلم في موسم الحج ، وعرضوا عليه الأمر فأقر صلى الله عليه وسلم قضاء علي وقال: هو ماقضي بينكم. ويبين لنا ذلك كيف أن رسول الله قبِل النظر في قضاء سيدنا عليه رضي الله عنه و لم يمنعه مانع من أن يقر هذا القضاء. وفي القوانين المعاصرة والمعتمدة لمبدأ التقاضي على درجتين يكون لمحكمة الدرجة الثانية تأييد محكمة أول درجة، أو أن تعدل فيه وتلغيه .

رسالة سيدنا عمر بن الخطاب للقضاء:
وقد ثبت عن الصحابة وخلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم تشددهم، أوتمسكهم بالقضاء في مرته الأولى، حتى ولومن القاضي نفسه الذي حكم, فعمر بن الخطاب رضي الله عنه يبعث لقاضيه أبي موسى الأشعري ويقول له: لايمنعك قضاء قضيته فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك، أن ترجع فيه إلى الحق فإن الحق قديم لا يبطله شئ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
هل يضيع التقاضي على درجتين حقوق الناس؟
ورغم أن هذا المبدأ يقوم على الرغبة في تحقيق العدالة على أحسن وجه, وذلك لأنه يبعث الاطمئنان في نفوس المتقاضين ويعطيهم فرصة لطرح نزاعهم مرة أخرى أمام محكمة هي أكثر خبرة من الأولى، فضلا عن قدرتهم إضافة ما غفلوا عنه في دفاعهم ودفوعهم أمام محكمة الدرجة الأولى, إلا أنه لم يجمع الفقه على هذا المبدأ فظهر من يوجه له النقد والاعتراضات حيث أنه يؤدي إلى إطالة أمد التقاضي بعرض النزاع على محكمة أخرى مما يضيع الوقت في تأخير الفصل في النزاع، ويعد طرح نفس النزاع على محكمة جديدة غير التي سبق وأن حكمت فيه إهداراً لحجية الأحكام القضائية.

ويضيف معارضوا هذا المبدأ أنه لا شيئ يضمن صدور حكم الاستئناف أكثر مطابقة للقانون من حكم محكمة الدرجة الأولى. ولماذا لايكون التقاضي باللجوء إلى قضاة الدرجة الثانية مباشرة طالما هم أقدر على تطبيق القانون في الأحكام؟ كما أن الحق في الانتفاع واستخدام التقاضي على درجتين سيتفيد منه فقط الأغنياء، وأصحاب القدرات المالية لأنه يكلف مزيدا من النفقات. وقد يستخدم البعض مكنة الطعن بالاستئناف استفادة من مبدأ التقاضي على درجتين استخداما يخرج ويتنافى مع مكنون المبدأ في الوصول إلى الحقيقة والقضاء بين الناس بالحق قدر المستطاع. فنجد من يستأنف الأحكام الصادرة من المحاكم الابتدائية أو الجزئية (محاكم الدرجة الأولى) ليس لاقتناعه بعدم صحة الحكم ومطابقته لصحيح القانون, وإنما طمعا في استهلاك المزيد من الوقت وكيدا في خصمه لدفعه إلى الملل والندم على اللجوء للقضاء, وما أكثر التقاضي الكيدي الذي يستغل فيه أحد الأطرف المتنازعة القوانين والضمانات المقررة لصالح العدالة لاثقال كاهل الطرف الأخر إضراراً به وإيذاءً له.

استئناف الأحكام ضمانة جوهرية لا يمكن الاستغناء عنها:
ولكن الاعتراضات على تطبيق هذا المبدأ رغم واقعية بعضها إلا أن ضرورة هذا المبدأ ومزاياه تربو على عيوبه وانتقاداته. فبالنسبة للقول بأن التقاضي على درجتين يزيد من أمد التقاضي فذلك من دواعي حسن سير العدالة حتى يفتح الطريق ويعطى بصيص من الأمل للمتقاضي الذي خسر دعواه ويتشكك في صحة الحكم الذي يُحتمل أنه قد جانب الصواب، وعرض النزاع على محكمة أخرى وما يستنفذه من وقت لثمن زهيد لضمان صحة الحكم والثقة فيه، كما أن المشرع لم يجز الاستنئناف في كافة الدعاوى. بالاضافة إلى أنه كثيرا ما يستشعر الخصم الذي خسر القضية أمام محكمة الدرجة الأولى ضعف مركزه فيحجم عن الطعن في الحكم بالاستئناف، وبذلك ينتهي الكثير من المنازعات أمام محاكم الدرجة الأولى.

أما القول بالالتجاء إلى محكمة الدرجة الثانية مباشرة فهذا غير صحيح، والقول بأن حكم أول درجة قد يكون أوفق في تطبيق القانون من حكم الاستئناف قول غير دقيق, فإنه إذا كان صحيحا أنه من غير المؤكد أن أحكام محكمة ثاني درجة أعدل من أحكام الدرجة الأولى، إلا أن فرصة تحقيقها للعدالة دائما أكبر, لأن فائدة اللجوء الى محاكم الاستئناف أنها تصدر حكمها في قضية سبق مناقشتها وتحليلها أمام أول درجة أي أن الحكم يأتي بعد دراستين للنزاع وهذا يقلل فرصة الخطأ، فضلا عن زيادة عددهم _في بعض الحالات_ وخبراتهم الأكبر وقلة عدد القضايا المعروضة عليهم مقارنة بأول درجة.

“أما القول بأن الالتجاء لمحاكم الدرجة الثانية يكون للقادرين (الأغنياء) فهو تنقصه الدقة, وذلك لأن المشرع لم يهمل حق الفقير في الالتجاء إلى القضاء ومكنه من طلب المعونة القضائية من المحكمة وتتمثل هذه المعونة في الإعفاء من الرسوم أمام أي من درجات التقاضي.

موقف الدول المختلفة من مبدأ التقاضي على درجتين:
و العديد من الدول المختلفة حرصت على الأخذ بمبدأ التقاضي على درجتين _مع وجود بعض القيود _ كالقانون الفرنسي والقطري وكذلك القانون اللبناني الذي قيد الاستئناف ببعض الأمور حيث أن رفع الطعن أمام محكمة الدرجة الثانية ليس مطلقا من أي قيد, بل هو مقيد بنصاب قيمي _ مثال ذلك الحكم الصادر من القاضي المنفرد في دعوى لا تزيد قيمتها عن ثمانمائة ليرة فهذا الحكم قطعي لايقبل الاستئناف أما اذا زادت قيمة الدعوى عن ذلك أو كانت غير مقدرة القيمة فإن الاستئناف يكون جائزا. ويلاحظ أن القاضي المنفرد في القانون اللبناني يختص بنظر الدعوى التي لاتزيد قيمتها عن عشرة ملايين ليرة, أما غرف محكمة الدرجة الاولى فتنظر الدعاوى التي تتعدى هذا المبلغ ويكون حكمها قابلا للاستئناف على الدوام.

وقد نص القانون الجزائري صراحة على العمل بالتقاضي على درجتين في المادة 6 من القانون الجزائري رقم 9 لسنة 2008 بشأن الاجراءات المدنية والادارية والتحكيم. وكفل أيضا القانون السعودي بالمادة 192 من القانون السعودي رقم 2 لسنة 1435هـ بشأن نظام الاجراءات الجزائية. لأطراف النزاع عرض حكم أول درجة على محكمة أعلى للمحكوم عليه وللمدعي العام وللمدعي بالحق الخاص؛ طلب استئناف أو تدقيق الأحكام الصادرة من محاكم الدرجة الأولى خلال المدة المقررة نظاما. وعلى المحكمة التي تصدر الحكم إعلامهم بهذا الحق حال النطق بالحكم. وأكد على هذا المبدأ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في المادة 14منه الفقرة 5 “لكل شخص أدين بجريمة حق اللجوء، وفقا للقانون، إلى محكمة أعلى كيما تعيد النظر في قرار إدانته وفى العقاب الذي حكم به عليه”
استئناف الأحكام ودرجات المحاكم في مصر:
وفي مصر توجد محاكم الدرجة الأولى التي تنظر النزاع لأول مرة ويتم الطعن عليها ويعرض ذلك على محكمة الاستئناف، كل ذلك في أغلب الأحوال تحت رقابة محكمة النقض فيما يتعلق بمسائل القانون_وهي ليست درجة ثالثة_والمحكمة الدستورية العليا من ناحية دستورية القوانين، وإلى جوار جهات القضاء العادي توجد جهات القضاء الاداري، وجهة ثالثة تسمى بالقضاء العسكري ينظمها قانون خاص بها.

وينقسم القضاء العادي في مصر إلى :

1- محاكم الدرجة الأولى وهي : أ- المحاكم الجزئية ب- المحاكم الابتدائية.
2-محاكم الدرجة الثانية وهي أ- المحاكم الابتدائية بهيئة استئنافية ب- محاكم الاستئناف العالي .
ومحاكم الدرجة الثانية هي التي تتولى نظر الطعون في الأحكام القابلة للاستئناف من محاكم الدرجة الأولى “والقاعدة طبقا للفقرة الأولى بالمادة 219 من قانون المرافعات هي أن جميع أحكام الدرجة الأولى تقبل الاستئناف، ولكن المشرع رأى أن هناك بعض الدعاوى لا تستحق نظرا لضآلة قيمتها الاقتصادية أن يفصل فيها أكثر من مرة، فاكتفى بالنسبة لها بالتقاضي على درجة واحدة، واعتبر الحكم الصادر فيها انتهائيا أي غير قابل للطعن فيه بالاستئناف.

والنصاب الانتهائي بالنسبة للمحاكم الجزئية هو خمسة آلاف جنية، وبالنسبة للمحاكم الابتدائية أربعين ألف جنية، وبذلك وخروجا على القاعدة العامة لا يجوز الطعن بالاستئناف على الأحكام من محاكم الدرجة الأولى في حدود المبالغ السابقة، وفيما عدا ذلك فإن المحاكم الابتدائية بهيئة استئنافية تنظر الأحكام الصادرة من المحاكم الجزئية والتي تتجاوز قيمتها الخمسة آلاف جنية، ومحاكم الاستئناف العالي تختص بالأحكام الصادرة من المحاكم الابتدائية المجاوزة قيمتها أربعين ألف جنية، وبالاستثناء أيضا من القاعدة العامة يعطي المشرع لمحاكم الدرجة الثانية (الاستئناف) الحق بنظر الدعاوى بوصفها محكمة أول درجة كطلبات رد ومخاصمة القضاة.

والحكم في الجنح يكون من خلال محكمة الجنح كدرجة أولى ويستأنف أحكامها أمام محكمة الجنح المستأنف ليصير الحكم نهائيا مع وجوب تنفيذه.

هل يجوز استئناف الأحكام الصادرة من محكمة الجنايات:
أما بالنسبة للجنايات فلم يعرف نظام الاجراءات الجنائية في مصر استئناف الجنايات اذا يكتفى بما تحكم به محكمة الجنايات ويكون حكمها حين ذاك نهائيا، وتتوافر ضمانة جوهرية للمحكوم عليه بالطعن بالنقض، وما لمحكمة النقض من سلطة مراقبة تطبيق القانون, والتي بدورها تُعيد القضية إلى محكمة الجنايات بهيئة مغايرة إذا ما رأت توافر سبب من أسباب الطعن بالنقض، وقد تتحول محكمة النقض في نظرها للجناية لمحكمة موضوع ووقائع وليست محكمة للقانون وفقط، وذلك في حال نقض الحكم مرة أخرى بعد أول مرة وقبولها لهذا النقض.
من ناحية أخرى نجد أن هناك بعض القوانين والتي نصت على استئناف الاحكام الصادرة من محاكم الجنايات و وضعت لها آلية إجرائية كاملة و محاكم استئنافية لنظر تلك القضايا، أي أنها طبقت آلية العمل بالتقاضي على درجتين في الجنايات، و من تلك التشريعات نجد قانون الإجراءات و المحاكمات الجزائية الكويتي رقم 17 لسنة 1960، و قانون اتحادي(الامارات العربية المتحدة) .

وقد نصت المادة 199 في قانون الاجراءات والمحاكمات الجزائية الكويتي السابق الاشارة إليه على أنه “يجوز استئناف كل حكم صادر بصفة ابتدائية، بالبراءة أو الإدانة، من محكمة الجنح أو من محكمة الجنايات، سواء صدر الحكم حضورياً، أو صدر غيابياً وانقضى الميعاد دون أن يعارض فيه ، أو صدر حكم في المعارضة ”
وبصدور الدستور المصري 2014 والذي نص في المادة 96 منه نص على أنه: “….  وينظم القانون استئناف الأحكام الصادرة في الجنايات….”، وبالتالي يتضح لنا أن الدستور ولأول مرة جعل للأحكام الصادرة في الجنايات استئنافا، غير أن قانون الإجراءات الجنائية لم ينظم بعد تلك المسألة. وقد جاء في المادة من240 الدستور أنه: “تكفل الدولة توفير الإمكانيات المادية والبشرية المتعلقة باستئناف الأحكام الصادرة في الجنايات، وذلك خلال عشر سنوات من تاريخ العمل بهذا الدستور، وينظم القانون ذلك “. لكن هل هناك إمكانيات كافية لتنظيم ذلك؟!
خلاصة القول: أن مبدأ التقاضي على درجتين من المبادئ القديمة والركينة يمتد جذره من عصر الفراعنة المصريين, وقد أكده النظام التشريعي الاسلامي ويتجلى ذلك من خلال الحوادث والأحداث المنقولة لنا من السنة بل في القرآن وزيادة في التراث الاسلامي ولمواقف خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اذ لا يستقيم أن نترك مصير الناس ومصالحهم ونزاعاتهم تحت يد محكمة واحدة ولا يتاح من فرصة للخصوم بأن يطعنوا على هذا الحكم ويصرحوا بعواره وهناته لمحكمة أخرى لها من الخبرة والعلم _وأحيانا من العدد_ ما يفوق محكمة أول درجة, ولا يخفى عن متابع ولا يغيب عن مطلع أن حكم المحكمة الأولى قد يوجه أحد الخصوم إلى موضع القصور في دفاعه وينبهه إلى علة أوحجة كانت ذات شأن في تغيير وجهة رأي المحكمة وهو لم يفطن إليها معتقدا عدم جديتها وتأثيرها فيتداركها ويضع لها حسابها أمام محكمة الاستئناف. ولا ينال من قيمة ونزاهة محكمة الدرجة الأولى أن يعرض حكمها على محكمة أخرى لأنهم على أية حال بشر لهم طباعهم من الخطأ والصواب، وفي يوم من الأيام فإن القاضي في المحكمة الجزئية أو الابتدائية سيؤؤل به تدرجه الوظيفي إلى محكمة أعلى.

وهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو إمام المرسلين والمبعوث للعالمين يقول “إنكم تختصمون إلي وقد يكون بعضكم ألحن بحجته من غيره فمن قضيت له بحق ليس له فإنني أقطع له قطعة من جهنم فلا يأخذها” النبي وهو سيد المتقين وأعدل البشر العادلين يخشى على من يحكم له بشيئ ليس من حقه لكنه امتلك من قوة الحجة والبرهان والدليل والبيان مالم يمتلكه صاحب الحق الحقيقي غير العالم بطريقة الزود عن نفسه وحقه بالوجه الذي ينبغي لذلة في لسانه أو لقلة حيلة ليس له ذنب فيها، فيخطف الأول الأذهان إلى جانبه بلباقته وقدرته على الاقناع والابداع، ومن باب أولى فإن القضاة دون أن نشكك في شرفهم او حيدتهم لابد أن يكون هناك من طريق بل طرق تؤكد على هذا الحكم وتراجعه وتنظره نظرة أخرى متأنية بعد نظرة سابقة تمهد لهم وتسهل عليهم مداخل النزاع ومعضلاته، فيأتي حكم الاستئناف مطلقا الثقة والاطمئنان في نفوس المتقاضين بعد أن تم عرض دعواهم على محكمتين مختلفتين بأشخاص مغايرين. وبالتوازي ينبغي مواجهة بطء الاجراءات و التقاضي الكيدي بتوفير الامكانات اللازمة وتعديل بعض القوانين.

زر الذهاب إلى الأعلى