تطبيق أحكام القضاء أمن قومي
بقلم: أ. صالح حسب الله
بينما كانت طائرات الجيش البريطاني تمارس مهمتها الوطنية في بسالة للدفاع عن الوطن تقدمت ناظرة مدرسة بشكوى أمام القضاء البريطاني تطلب فيه بعدم السماح للطائرات الحربية البريطانية بالتحليق فوق المدرسة أثناء التدريبات العسكرية !!
وقالت في دعواها أن صوت الطائرات المزعج يُحدث ضوضاء وازعاج لطلبة المدرسة أثناء اليوم الدراسي، كما أن ذلك يجعل من تلك المنطقة هدفاً لهجمات العدو، وطالبت في دعواها بنقل المطار الحربي من هذه المنطقة إلى منطقة أخرى!!
كان الطلب غريباً في هذا الوقت بل ربما استخف به البعض في تلك الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد، في وقت كانت المؤسسة العسكرية تتمتع بكل الميزات والاستثناءات القصوى.
وجاء الحكم في الدعوى القضائية أشد غرابة، فقد قضت المحكمة البريطانية بنقل المطار الحربي إلى منطقة أخرى بعيدة عن العمران!!
حاولت المؤسسة العسكرية إيقاف تنفيذ حكم القضاء بشتى الوسائل فلم تفلح مما اضطرها في نهاية الأمر إلى التوسط لرئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل لإيقاف هذا الحكم بما لديه من سلطات واسعة، وذلك بدعوى أن نقل المطار سوف يؤدى إلى ضعف قدرات الدفاع الجوي أمام العدو النازي مما قد يؤدي إلى عواقب وخيمة إلا أن السيد تشرشل قال كلمته المشهورة: (لأن تخسر بريطانيا الحرب خيرٌ عندي من أن يقال أن بريطانيا لم تنفذ حكم القضاء!!).
استوقفني المشهد مقارنة بعالمنا العربي والإسلامي:
- لم تتردد تلك المرأة في التقدم بدعوى ضد أكبر سلطة في البلاد في ذلك الوقت العصيب – الحرب العالمية الثانية – وعزمت أن تأخذ إجراءات فعلية لتغيير واقع ترفضه، إنها ثقافة مجتمعية تجعل من الفرد فاعلاً وليس مفعولاً به، صانعاً للتغيير غير منتظر حدوثه بمعجزة من هنا أو هناك.
- اعتقاد المرأة أن السلطة القضائية في بلادها سلطة مستقله حقاً عن كافة السلطات التشريعية والتنفيذية، أوجد إيمانا داخلياً بإمكانية تنفيذ الحكم القضائي، واصراراً على المطالبة به.
- لم يتأثر القضاء البريطاني في هذا الوقت بحالة الحرب التي تمر بها البلاد، لم يضع في اعتباره أن هناك من سيتهمه بأن القضاء لا يراعي المصلحة العليا للبلاد، لكنه وضع المعايير القانونية مع تلك المصلحة المشروعة بألا يكون هؤلاء الأطفال الأبرياء هدفاً لضربات العدو.
- رغم أن المؤسسة العسكرية كان لها في ذلك الوقت سلطة التقدم على كافة مؤسسات الدولة خاصة في تلك الظروف الاستثنائية على أقل تقدير، إلا أنها لم تستطع أن توقف تنفيذ هذا القرار رغم ما قدمته من أدلة وبراهين وتبريرات مقنعة ولا دخل فيها لأي مصلحة شخصية.
كانت القوانين والمعايير هي التي تحكم المجتمع وليست الأوزان النسبية التي يبررها الأفراد والمؤسسات.
- جاءت كلمة رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل (لأن تخسر بريطانيا الحرب خير عندي من أن يقال أن بريطانيا لم تنفذ حكم القضاء) تتويجاً لهذه الملحمة القضائية والصورة المشرقة لاحترام القوانين والأحكام القضائية بل الأهم احترام المعايير التي يسير عليها المجتمع وعدم اهتزاز صورة تلك المعايير في نفوس الشعب والأمة.
فالمجتمع الذي يتحاكم فيه الجميع بمعايير واضحة تنفذ على الكبير قبل الصغير وعلى الغني قبل الفقير وعلى صاحب الجاه والسلطان قبل الفقراء مالاً والمغمورون جاهً هو فقط مجتمع النهضة.
وقد علمنا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه أسامة بن زيد حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفع للمرأة المخزومية التي سرقت في تطبيق الحد عليها.
فقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا وقال: “اتشفع في حد من حدود الله يا أسامة والله لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها).
إنها دعوة لتبني تلك الثقافة المجتمعية الايجابية ونشرها وتغلغلها في مساحات الفكر والعقل وبعث روح الأمل والقدرة على الفعل.