تسوية المنازعات التجارية بالوساطة في ظل الأزمات الاقتصادية

بقلم الدكتور/ محمد طرفاوى محمد المحامى

تزيد المنازعات التجارية خلال الأزمات الاقتصادية بسبب الضغوط المالية، وتحدث نتيجة لعدم الوفاء بالعقود، وانخفاض القوة الشرائية، والتقلبات في الأسعار. تشمل هذه المنازعات نزاعات العقود التجارية وحقوق الملكية الفكرية والتحديات التي تطرأ بسبب الإغراق التجاري وفرض التعريفات الجمركية المرتفعة. من الضروري إدارة هذه النزاعات بسرعة وبطرق فعالة، مثل التفاوض والتحكيم، مع التركيز على تقييم الوضع المالي بعناية ووضع خطط تعافٍ شامل.

عادة ما تكون المنازعات التجارية نتاج سوء فهم في التعاقد بين الطرفين، حيث يفسر كل طرف العقد وبنوده بشكل مختلف ما يؤدي إلى اختلاف وجهات النظر التي يبدأ من خلالها النزاع، وفي أوقات الأزمات تزيد فرص اختلاف وجهات النظر خاصة مع الضغوط المالية والاقتصادية للأزمة، مما يؤدي إلى كثرة النزاعات في هذه الحالة.

يناقش هذا المقال المنازعة التجارية في ضوء العقد المبرم بين الشركات متعددة الجنسيات أو الشركات المحلية والعقد المحلي بين الشركات المحلية بعضها البعض، وتتم عقود التجارة بالدولية إذا ما كانت بين طرفين من جنسيات مختلفة أو كانت تنفيذ بين أكثر من دولة، ولن يتطرق المقال إلى منازعات الدول كالحروب الجمركية أو خلافه مع بيان أثرها على العقود الأخري.

بناءً على ما سبق تظهر أهمية اختيار الوسائل البديلة لتسوية المنازعات، وتتعدد الأسباب الدافعة للأطراف لاختيار وسائل بديلة لفض النزاعات خارج أروقة المحاكم، ومن ذلك المحافظة على السرية، المحافظة على العلاقة الحسنة بين الأطراف، التحكم في التكاليف، اختيار شخص متخصص في موضوع النزاع، مرونة الإجراءات، سرعة حل النزاع، الاستفادة من الاتفاقيات الدولية بشأن التنفيذ في دول أجنبية؛ والأهم المحافظة على التعاقد فعادة ما تقوم الوسائل بدور لتسوية النزاع مع استمرار التعاقد وتعد تلك أهم ميزة للوسائل البديلة خاصة في وقت الأزمات الاقتصادية.

الوساطة هي إحدى الوسائل البديلة لحل المنازعات وبرزت في العقدين المنصرمين كوسيلة مهمة نظمتها الكثير من الأنظمة القانونية لاسيما في منطقة الشرق الأوسط، (يراجع د/عبدالله

راجح – النظام القانوني لاتفاق الوساطة في تسوية المنازعات – بحث منشور بمجلة العلوم التربوية والدراسات الإنسانية – العدد 46 – مايو 2025 – صفحة 320) وتأتي أهمية الوساطة في ظل الأزمات الاقتصادية من وجهة نظري في أكثر من جهة:

أولاً: قبل بداية الأزمة (الوقت الحالى)

للوساطة دوراً مهماً في الوقت الحالى، فمع توقع قيام الأزمة الاقتصادية في أي وقت طبقاً لتحليلات الكثير من المختصين تظهر الوساطة كوسيلة وقائية لأي نزاعات قد تنشب بسبب الأزمة الاقتصادية، وهنا يمكن للأطراف اللجوء للوساطة لوضع تصور يتم إلحاقه بالعقد لتنفيذ التعاقد وقت الأزمة الاقتصادية، فمع النظر إلى وضع السيولة المالية والوضع الاقتصادي العام وقت الأزمة يمكن توقع تخلف أحد الأطراف أو جميعهم عن تنفيذ بعض التزاماته أو التأخر في التنفيذ، وهنا يأتي دور الوساطة قبل بداية الأزمة في وضع تصور لكيفية التنفيذ في الحالة وشروطه وذلك من خلال إجراء بعض التسهيلات التى يتفق عليها الأطراف لتساعد الجميع على استمرار التعاقد في هذا الوقت.

يتم وضع القواعد المنظمة لتنفيذ التعاقد وقت الأزمة كإجراء وقائي لضمان استمرار تنفيذ التعاقد، ويتم إبرام العقد كملحق للعقد الأصلي لمناقشة حالة تنفيذ خاصة تنتج عن وضع اقتصادي خارج عن الإرادة للأطراف، وتكون الوساطة بذلك آداة فعالة في مواجهة الأزمة المتوقعة.

وبذلك نوصي الشركات التجارية بمواجعة تعاقداتها الحالية والتي تنفيذ على مراحل واللجوء لطريق الوساطة لتسوية أي منازعة متوقعة نتيجة أي أزمة اقتصادية قادمة في ظل التوقعات الحالية، ويمكن أن يقول البعض أن الحل غير مجدي حالياً لعدم وجود الأزمة وصعوبة توقع وقت البدء وهو أمر مردود بأن اللجوء للوساطة إحترازي للوقاية ولا ضير من اتخاذه في الوقت الحالي فلو كانت الأزمة كان الحل متاحاً واستمر تنفيذ التعاقد، ولو لم تكن لم نخسر الكثير خاصة في ظل انخفاض تكاليف الوساطة.

وتهدف الشركات من بحث عقودها إلى تحديد شامل لالتزاماتها وحقوقها ووضع خطة تعتمد على فكرة تنفيذ العقد في ظل الأزمة الاتقادية، ومنها وضع خطة عمل لتأجيل أو تعطيل بعض البنود خلال الأزمة، كذلك إمكانية التنازل عن بعض الحقوق مقابل سقوط بعض الالتزامات،

وذلك كله في إطار من وضع خطة مستقبلية لمواجهة الأزمة وضمان استمرار التعاقد، وهنا يأتي دور الوسيط الذي يحدد الالتزامات والحقوق لكل طرف مع تحديد الخطة لكيفية تنفيذ التعاقد من خلال ورشة عمل تتضمن مشروعاً للوساطة يحدد إجراءاتها ومدتها ونهايتها ثم تحديد وسائل التعامل مع النزاع المحتمل ووضع خطة العلاج مقدماً.

ويتم تفريغ مشروع الوساطة في ملحق للعقد يتم بموجبه تحديد أليات محددة لتنفيذ التعاقد عند بداية الأزمة، مع مراعاة أن الخطة يجب أن تتضمن هامشاً للتعديل في ضوء إجراءات الدول لمواجهة الأزمة، كذلك هامشاً وقتياً لمواجهة صعوبات الأزمة.

ثانياً: بعد بداية الأزمة:

يمكن القول أننا طبقاً لوجهة نظر اقتصاديون كُثر في المرحلة التمهيدية ما قبل الأزمة، ولو بدأت الأزمة ولم تتخذ الشركات الإجراء الاحترازي في الوقت الحالى هل يمكن التقاعل سريعاً مع معطيات الأزمة؟

يعتمد هذا الأمر من وجهة نظري على العقد ذاته، فلو كان التعاقد مما يثير تفاعلاً دولياً كعقود التوريدات الدولية (الاستيراد والتصدير مثلاً) فهنا توجد مشكلة كبيرة نظراً لأن الإجراء الأول الذي تلجأ إليه الدول عادة في وقت الأزمة هو رفع الرسوم الجمركية، وكذلك ما قد يصيب سلاسل الإمداد من أثر سلبي يؤثر على حركة التبادل التجاري، وهنا يجب التدخل فوراً لمحاولة التعامل مع الازمة في ضوء المعطيات المتاحة، وعلى الأطراف أن تتحلي بالشجاعة الكافة التي تؤدي إلى التضحية ببعض الشروط لضمان استمرار التعاقد، وهنا يظهر دور الوساطة فهي التي تحدد الشروط الواجب تعديلها كطرف محايد خارج أطراف النزاع، وبذات الطريقة يتم تحرير ملحق للتعاقد لتعديل التنفيذ في ضوء المعطيات الجديدة لضمان استمرار التعاقد.

وضع الوساطة في القوانين العربية حاليا:

يمكن القول أن دولة الإمارات العربية المتحدة قد قامت بعدة خطوات ثورية في مجالي الوساطة والتوفيق انتهت بصدور القانون رقم 40 لسنة 2023 الذي وضع أسساً واضحة ومحددة لكيفية بدء الوساطة وإجراءاتها ونهايتها، وقد حاولت بعض التشريعات الفرعية ببعض الدول كمصر إثارة الموضوع كقانون الإفلاس في مصر وقانون المحكمة الاقتصادية كذلك، إلا أن الحل في الفترة الحالية لصعوبة وضع تشريع شامل للوساطة والتوفيق في تلك الدول الأخذ

بالفكرة العامة للوساطة، وهي كونها اتفاق على تسوية نزاع بمعرفة طرف ثالث يشرف على التفاوض بين الطرفين خلال مدة محددة وينتج عنه ملحقاً للتعاقد ينهى النزاع بما تم الاتفاق عليه.

يمكن أن تساهم الدول حالياً في مساعد الأفراد والشركات على مواجهة الأزمة المرتقبة وذلك من خلال وضع بعض القواعد التنظيمية للوساطة وشروط الوسيط وتنظيم إجراءات محددة للوساطة ولو في صيغة لائحية مؤقتاً للتوفر السرعة في معالجة الأزمة وبذلك تساعد في تنظيم عملية الوساطة في الوقت الحالى بطريقة تساعد على تطوير عملية الوساطة، وحتي في الدول التي تضع تشريعاً مستقلاً للوساطة يمكن أن تكون اللوائح معتمدة على القواعد العامة ففي النهاية الوساطة مجرد توافق إرادتين على إحداث أثر قانوني معين وهو تكليف طرف خارجي بالإشراف والتوسط في عملية التفاوض وبطريقة محددة ومعايير متفق عليها كمعايير الأمم المتحدة ( اليونيسترال) على سبيل المثال.

التحديات التي تواجه عملية الوساطة:

تنفيذ الالتزامات التجارية يرتبط بشكل واضح بالتعاقد الموقع بين الأطراف، والظروف الخارجة عن إرادة الأطراف قد تنتج نزاعاً قضائياً يتم فيه محاولة استخدام نظرية الظروف الطارئة، وهنا تكمن أول صعوبة للوسيط فمن الممكن التعلل بتلك النظرية لمواجهة اتفاق الوساطة، إلا أن الوسيط يجب أن يتمتع بحجة قوية، فمن المعروف أن شروط إعمال النظرية قاسية نوعاً ما، كما أنها يمكن أن تنهى العقد، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فلا يمكن اعتماد النظرية بشكل تلقائي دون النظر في خطورتها وسلبياتها، ومع انتفاء السلبية باتفاق الوساطة تقريباً يكون من المنطق على الوسيط أن يواجه تلك الصعوبة.

صعوبة اجتماع الاطراف، وهنا يمكن اللجوء للوساطة بالطريق الالكتروني، وقد تعددت في الوقت الحالى الوسائل الالكترونية التي يمكن من خلالها عقد اجتماعات دون الحضور الشخصي، بل والتوصل لحلول والتوقيع على عقود دون المواجهة، وعلى الوسيط أن يكون فطناً في عملية التفاوض فيجب بداية أن يستمع للأطراف في مجمل النزاع أو مجمل العقد ثم ينفرد بكل طرف مناقشاً إياه في التعاقد من وجهة نظره، ثم يعقد جلسات حوارية بين الأطراف

حول وجهات النظر دون التفاوض، ويبدأ جلسات منفردة مع طرف للتفاوض وتقريب وجهات النظر، وينتهى للتفاوض الجماعي ليصل لمشروع التسوية.

سرعة تداعيات الأزمة العالمية – حال بدء الأزمة – يجب على الوسيط أن يواجه سرعة تداعيات الأزمة من خلال سرعة الإجراءات مع دقة التوصيف لكل حالة، وهنا يجب أن يتمتع الوسيط بحنكة قانونية كاملة لسرعة ترجمة أي اتفاق في صيغة تعاقد، كذلك يجب أن يعاون الوسيط مجموعة مختصصة في كل مجال فيجب أن يتوافر لدية عنصر مالي في الفريق وعنصر هندسي وعنصر اقتصادي حتى يقوم كل منهم بدوره في مجاله للوصول لآلية سرعية ومحددة وفي ذات الوقت تتسم بالدقة لتسوية النزاع.

النفقات، يجب على الوسيط في حالة التعاون مع الشركات حالياً في تصميم إجراء احترازي لمواجهة أزمة محتملة – وإن كانت قريبة من وجهة النظر الاقتصادية – أن يخفض بشكل أكبر نفقات الوساطة نظراً لكونها تناقش مسألة احتمالية وهي مجرد إجراء احترازي.

التعاون مع المؤسسات، يمكن أن تتم الوساطة من خلال مؤسسات سواء تابعة للدولة كالهيئات الاستشارية أو مراكز تحكيم، ويجب أن تتم عملية دمج في الفترة الحالية بين العمل المؤسسي والعمل الفردي في مجال الوسائل البديلة عامة لتسوية المنازعات حرصاً على توحيد الجهود في مواجهة الأزمة.

الخلاصة:

يجب أن يكون للوساطة في الوقت الحالى وعند بداية الأزمة الاقتصادية إن بدأت دوراً محورياً في مواجهة التحديات والصعوبات التي تواجه التجارة العالمية والمحلية على حد سواء لمحاولة الخروج منها بأقل الخسائر وذلك بالمحافظة على تنفيذ التعاقدات في ظل الأزمة وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى تقليل الخسائر إلى الحد الأدني ويساعد على الخروج الآمن من الأزمة، ويجب على الشركات أن تقوم بمراجعة شاملة لموقفها المالي وتعاقداتها الحالية وتلجأ للوساطة لوضع إطار تنفيذي للتعاقد إن بدأت الأزمة، وحال بدايتها يجب أن يتم اللجوء سريعاً لهذا الطريق لمحاولة تفادي المشكلات الكبيرة.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى