تأملات في زمن الانتخابات
بقلم : محمد شعبان
نستشرف سباقين برلمانيين خلال الشهور القليلة القادمة؛ فمن المفترض أن يكون لمصر مع بداية العام 2021 مجلساً لنواب الشعب ينعقد لفصل تشريعي ثان، ليمارس سلطته الدستورية في التشريع والرقابة وإقرار السياسة العامة والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والموازنة العامة للدولة وفقاً للدستور، والمجلس الآخر للشيوخ، والذي من المفترض أن يكون مَعينُ الدولة لتوسيد دعائم الديمقراطية، ودعم السلام الاجتماعي، والمقومات الأساسية للمجتمع وقيمه العليا، والحقوق والحريات والواجبات العامة، وتعميق النظام الديمقراطي.
والمتأمل في هذه المعاني والعبارات التي اختارها المشرع الدستوري ليعبر بها عن طبيعة الدور الذي تؤديه هذه المجالس في خدمة الدولة، يستظهر أهمية وجسامة هذا الدور، سيما في هذه اللحظة الفارقة التي تعيشها مصرنا العزيزة في هذه الحقبة من الزمان.
تعلمنا في القانون أن عبارة المشرع متى كانت واضحةً فلا يجوز الانحرافُ عنها عن طريق تفسيرها للتعرف على إرادته، وهدياً بهذه القاعدة فإنه ولما كانت عبارات المشرع الدستوري التي عبر بها عن دور هذه المجالس النيابية واضحة بما يزيل أي لبس أو غموض حول حقيقة الدور الذي تلعبه في نطاق الحياة السياسية للدولة، فيتعين على المخاطبين بأحكامها الإلتزام والعمل بها، فضلاً عن إنزالها المنزلة التي تليق بها من الاحترام الواجب.
فالمشرع إذ أوجد مجلسي النواب والشيوخ، فكان سعيه من ذلك تدعيم نظام الحكم في الدولة بمجالس تضم بين جنباتها ممثلين عن الشعب صاحب السيادة في هذا الوطن، ليمارس هؤلاء المُمَثِلون دوراً نيابياً يعبرون من خلاله عن إرادة ناخبيهم، ليحمون سيادتهم، ويصونون وحدتهم الوطنية التي تقوم على مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، بما يحفظ لمصر استقرارها وتقدمها، ويكفل توسيد دعائم نظام ديمقراطي مدني لها، يضمن التعددية، ويكفل التداول السلمي للسلطة، ويحمي مبدأ الفصل بين السلطات، ويحفظ التوازن بينها، ويُقرّ مبدأ تلازم المسئولية مع السلطة، ويرسخ لاحترام حقوق الإنسان وحرياته، لتنطلق مصرُ نحو مقدمة الصفوف، متبوئةً المكانة التي تليق بها وبأبناءها، بين الدول الأخرى.
فكم تأخرت مصر عن ركب التقدم، وكم أثقلت خُطوات تقدمها مساعي بعضُ أبناءها الذين لم يرقبوا فيها إلّاً ولا ذمّة، فما رَغبوا إلا في قطف ثمارِ أشجارها، فتركوا خلفهم الفروع منكسرة، والأغصان منقطعة، والأوراق متمزقة، لِتُترَك مصرُ بعد ذلك كالهشيم المحتظر، الذي تذروه رياحُ الاستبداد، وتعصف به عواصف الفساد، والتي لا تُبقي للدولة هيبة ولا تَذَر لها مكانةً بين الأمم.
لقد كان في (الانتفاضة الشعبية الكبيرة) في يناير 2011 عبرة لأولى الألباب، فتَركَت دروساً غاية في الأهمية، ووجب على كل من تَقرر له – وفقاً للدستور والقانون- مباشرة حقوقه السياسية والمدنية في هذا الوطن أن يتدارس هذه الدروس، وأن يعيها جيداً، لكي يُدرِكُ حجم المأساة التي نجمت عن الإهمال والتقصير في ممارسة هذه الحقوق على نحو رشيد طيلة عقود، فوصل الحالُ بمصرَ إلى ما وصل في 2011، فازدادت هُوةُ التراجع، وطالت مدةُ التأخير كثيراً.
وها هي مصر قد بدأت حقبة جديدة انطلقت من فبراير 2011، ومرت بمراحل انتقال شديدة العنف والقسوة، فقدت خلالها مصرُ من أبناءها العديد، ونَزفت على أرضها دماءُ الكثير، ودُفع فيها الثمنُ الباهظُ على مختلف الأصعدة والمستويات. ولم تكن هذه التضحيات الثمينة كلها لإرضاء طموح المنتفعين الطفيليين، الذين لا يريدون إلا ليصنعوا لأنفسهم أريكةً يحملونها على ظهور البسطاء، فيستلقون عليها لينعموا براحتهم، أو ليجدوا لأنفسهم سُلماً يستعيدون من خلاله سابق نشاطهم في قطف الثمار اليانعة من فوق الشجرة المثمرة التي رُويت بدماء وعرق الصابرين من أبناء هذا الشعب المناضل الذي طالما صبر على الأذى والفقر والضيق مؤثراً على نفسه ولو كان به خصاصه، فوقى نفسَهُ شُحَّ نفسهِ لتبقى مصر عزيزة أبية ولتعود إلى سابق عهدها أماً للدنيا.
وأمام تلك التحديات باتت المسئوليةُ في رقبةِ الجميع؛ ابتداء بهذا الشعب المصري المثابر المكافح، الذي وجبت عليه المشاركة في الحياة العامة بإيجابية وموضوعية وبتجرد تام ودون هوى. فالمواطن الذي يجد في نفسه الكفاية والجدارة على تحمل المسئولية، فليتقدم ليحملها مؤدياً ما عليه في سبيل الزود عن مقومات ومكتسبات هذا الشعب الذي ناضل شبابه وثار لأجل حريته، متطلعاً لمستقبل مشرق تعيش فيه الأجيال القادمة حياة كريمة يمارسون فيها حقوقهم وحريتهم بلا خوف أو خجل.
أما المواطن الذي يُعرض عليه المرشحون، فينبغي أن يعتمد منهم ذوي الكفاية والجدارة، فلا يتردد لأن يختار ممثلاً له ولعموم الشعب كما يختار لابنته ولأخته ، فليقع الاختيار على القوي الأمين، الذي يُرجى فيه الحفاظ على هذه الأمانة التي عُرضت على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها.
وبقيت المسئولية كذلك على الأحزاب السياسية، والتي بدأت تستعد للمشاركة في السباق الإنتخابي، ولكن هذه المشاركة لم تبد كما كانت في عام 2011، فلتحرص الأحزاب على أن تتخذ من الحزب الوطني الديمقراطي عبرة وعظة، وإن أرادت أن تقود الوطن فلا ينبغي لها أن تقوده إلى حافة الهاوية، وإنما يتعين عليها أن تقوده إلى بر الأمان، ولن يكون ذلك إلا إذا كانت الممارسة السياسية رشيدة، والتزمت الموضوعية السياسية التي تُستقى من مبادئ الدستور الذي لم يُرَسِخَ العصمةَ لأحد، كائناً من كان، فيتعين على الأحزاب أن تُولّ وجهها شطر أصحاب السيادة الحقيقيين، فتعيرُهُم الاهتمام، عن طريق إرساء دعائم حياة سياسية حقيقية تكفل تعددية موضوعية لا شكلية، ولا تُصَعِرُ خدها لهم في هذا الجانب، ولا تمش على أرض السياسة مرحةً بأعمال البر والخيرات التي تخرج عن آليات عمل الأحزاب وتدخل في نطاق مؤسسات العمل الأهلي والخيري، فلئن كانت هذه الأعمال تجعل أمامها الأرض تبدوا وكأنها خصبة، نتيجة للفرح والسرور الذي تدخله على الفقراء والمساكين ممن أذلهم العوز، فالحذر كل الحذر من الركون إلى ذلك، وإلا صارت هذه الخصوبة في ميدان السياسة كالسراب الذي يحسبه الظمأن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
فالجميع أمام مسئوليته، فلا ينبغي أن نحقر من شأن العمل السياسي في هذه المرحلة الحرجة، ولا ينبغي أن نتجاهل أهمية الجدارة والكفاءة والأمانة في تولى المسئولية، وإلا فلا عبرة بعد ذلك لأن يَصُبَّ الناسُ جامَّ غضبهم على الحكومات، وهم في الأصل من أساءوا الاختيار، فبعضكم من بعض.
فكلما كان الاختيارموضوعياً مبنيٌ على تلازم المسئولية مع السلطة، كلما كانت الممارسات السياسية رشيدة، وكلما أتت الرقابة بثمارها.
وأخيراً عاشت مصر