تأثير البيئة على المسؤولية الجنائية
مقال بقلم الدكتور أشرف نجيب الدريني
جاءت كتابة هذا المقال بعد انتشار مقطع مرئي عبر منصات التواصل الاجتماعي، يُظهر طفلًا يقود مركبة “توكتوك”، وقد قام بالاصطدام بسيارة ملاكي، ثم ترجل منها ليعتدي على مالك السيارة بألفاظ نابية، ممسكًا في يده مفكًا يلوّح به مهددًا، معربًا عن عدم اكتراثه بتوثيق الواقعة، بل متحديًا تصويره بكلمات تنمّ عن تمرد وثقة مكتسبة من الشارع لا من القانون. فما كان من مالك السيارة إلا أن نشر الفيديو، لتتدخل وزارة الداخلية بسرعة وتلقي القبض على الطفل.
هذا المشهد الصغير، في دلالته لا في حجمه، دفعني إلى التفكير والتساؤل: هل يمكن أن تتشكل نية الإنسان الإجرامية بتأثير محيطه البيئي؟ وهل يُعد الفقر والجهل والتهميش عوامل مفسّرة للسلوك الإجرامي أم مبررات له؟ أين يقف القانون الجنائي بين حتميّة الظروف وحرية الإرادة؟ وهل يملك القاضي أن يُدخل البيئة ضمن معادلته عند تقدير المسؤولية؟ وما حدود التوازن بين عدالة النص وتجليات الواقع؟
هذه الأسئلة لا تُطرح من باب -التنظير الفلسفي المجرد- وإنما تنبع من معايشة دقيقة لما تكشف عنه الملفات الجنائية يومًا بعد يومٍ، حين نجد متهمًا لا تُجادل أدلته، لكنه نشأ في بيئة لا تعرف القانون، وترعرع في ظل الجهل، وارتكب فعلًا مؤثمًا تحت ضغط الإقصاء والفقر والتنشئة المهزوزة. هل نحاكم الفعل فقط، أم نحاكم القصة من بدايتها؟!
إنّ المسؤولية الجنائية كما عرفها القانون تقوم على إرادة حرة مدركة تتجه إلى ارتكاب فعل مجرّم بنص قانوني، وهي بذلك تفترض عقلًا راشدًا، ونفسًا مستقلة، وسلوكًا متزنًا اختار الانحراف رغم توفر البدائل. لكن الواقع في كثير من الأحيان لا يُسعفنا بهذا النموذج المثالي. فكثير من المتهمين خضعوا منذ طفولتهم لبيئات حاضنة للجريمة، سواء بسبب الإهمال المجتمعي، أو انهيار المنظومة التعليمية، أو تفشي العنف الأسري، أو “الطرد الاقتصادي”. بيئات اختطفت الوعي قبل أن يُدرك، وشكّلت الضمير قبل أن ينضج، وأقنعت الإنسان بأن الجريمة ليست خيارًا، بل أحيانًا “حلًا” أو مخرجًا أو “قدرًا”.
هذا الواقع يطرح تحديًا على الفكر الجنائي التقليدي الذي يفصل بين الإنسان وظروفه، ويضعه دائمًا أمام النص مجردًا. لكن الإنسان لا يأتي إلى المحكمة فارغًا، بل يحمل تاريخه، وألمه، ونمط تربيته، وسياقه البيئي كله. وإذا تجاهلنا ذلك، سنبني أحكامًا قانونية قد تكون صحيحة شكلاً، لكنها جائرة معنًى.
لا يعني ذلك تبرير السلوك الإجرامي، ولا التنصل من مبدأ المحاسبة، ولكن يعني أن العدالة الجنائية لا تكتمل إلا إذا أدركت التأثير البيئي ضمن تحليلها للمسؤولية، لا سيما في القضايا التي يظهر فيها أن الفعل نتيجة لسلسلة من الانحدارات الاجتماعية أكثر منه تمردًا على القانون.
كما أن المسألة لا تقف عند النطاق الاجتماعي، بل تمتد إلى” البيئة المادية” أيضًا: فازدحام المدن، وتفشي العشوائيات، وتردي المرافق، كلها عوامل تخلق مناخًا ضاغطًا يهيّئ للعنف، ويُسرّع من اندلاع السلوك الإجرامي، ويجعل من الانفجار الفردي رد فعل أكثر من كونه هجومًا مدروسًا.
العدالة الجنائية “المعاصرة” لم تعد تكتفي بالنص، بل باتت مطالبة بأن تُنصت لصوت “الواقع”، وأن تراعي السياق، وأن تُوازن بين الحتمية الاجتماعية والحرية الفردية، فتُدين الفعل وتفهم أسبابه، وتُوقع العقوبة وتُبقي على باب الإصلاح مفتوحًا.
ولعل أعظم ما يمكن للقاضي أن يفعله اليوم، ليس فقط أن يقرأ ملف الدعوى، بل أن يقرأ “الواقع” الذي أنتجها. فالعدالة لا تنبع فقط من سطور القانون، بل من إنسانية الفهم، وعمق التحليل، وجرأة التقدير. وكلما ازداد وعي القاضي بدور البيئة، أصبحت أحكامه أكثر إنصافًا، وازدادت قدرة المجتمع على تقويم أفراده لا مجرد معاقبتهم. والله من وراء القصد.