بين هرم الموسيقى ، محمد عبد الوهاب وهرم المحاماة والسياسة مكرم عبيد (4)
من تراب الطريق (1246)
نشر بجريدة المال الاثنين 24/1/2022
ــ
بقلم : رجائى عطية
ـــــــــ
يستأنف عبد الوهاب قائلًا : « وكان غريبًا أن يجد مكرم عبيد فى حياته المزدوجة المزدحمة بالقضايا المعقدة كمحام , وبالقضايا العامة كسياسى , مكانًا للهدوء والسكون والانطلاق النفسى والروحى فى عالم الفن .
« كان بيت مكرم عبيد بالطبع لا ينقطع عنه الرواد والوفود . ولكن فى صالة الدور الأول , تحت السلم الخشبى الصاعد إلى الدور الثانى , كان لديه بيانو من نوع ممتاز . وكنت أذهب إليه بغير موعد فى معظم الاحيان . فأتركه فى اجتماعاته , وأجلس إلى البيانو أعزف , وأجرب خواطر لحنية , بالساعات لطوال , تحت رعاية كريمة من السيدة زوجته . ولم يكن لهما أبناء . فكان البيت المزدحم بالناس يمكن أن يكون شامل الهدوء .
« وكنت أمارس هذه الهواية التى ليست هواية بالنسبة لى ــ على بيانو مكرم عبيد ، بالذات حين تكون لديه قضية كبرى سيترافع فيها . كان يبذل فى المذاكرة والاستعداد لهذه القضايا الكبرى مجهودًا هائلًا . وينفق الليالى حتى ساعات الصباح المبكرة مغلقًا باب مكتبه على نفسه بين الكتب والمراجع , وكأنه فى كل مرة سيترافع لأول مرة . وأحيانًا يكون معه غيره من المحامين . وقد يكون معه عدد من المحامين ؛ ولكنه عند نقطة قانونية معينة يقول لهم : يجب أن نحضر فلانًا ! وقد سألته مرة كيف وهو أنبغ المحامين يقبل ذلك ؛ فكان يقول لى : هناك من هم أحسن منى . مرقص باشا ( مثلاً ) يقصد مرقص باشا حنا , أحسن واحد فى موضوع كذا !
« ومثل هذا كان يصدر عن رجل يشعر بديهيًا بتميزه الشديد عن الآخرين . وقد كان خصومه يتهمونه بأنه يحب أن يكون « أوحدًا » أو النجم الساطع الوحيد . وربما كان هذا جائزًا فى السياسة . وهو نجم الجماهير الأول , ولكنه كانت لديه حاسة إتقان هائلة , تجعله يستعين بأحسن الخبرات المتاحة له دون تردد …
« ولكنه فوق ذلك , وهذا أهم , لم يكن مجرد محب للموسيقى والغناء . ولكنه كان خلّاقًا ومجددًا . وقد شجعنى فى حالات كثيرة على التجديد .
« وأذكر أنه كان يلح علىَّ فى ضرورة إدخال الغناء والموسيقى « الكورالية » غير الموجودة فى ذلك الوقت . وموسيقى الهارمونى . وهى التى تتعارض وتتداخل الأصوات فيها , فى انسجام شامل . مما كان غريبًا على الأذن الشرقية . وأذكر بالتحديد أن أغنية « القمح الليلة .. الليلة .. ليلة عيده » كانت النموذج الذى قدمته له وأسمعته إياه من هذا النوع الذى كان غير مسبوق فى ذلك الوقت .
« كذلك تلحين الجمل الكاملة بعد أن كان السائد هو تلحين الحرف والكلمة ، كأغنية الجندول ., كان مشجعًا ومستمعًا لها منذ مولدها , متابعًا للتجربة .
« وكان النحاس باشا يحب الموسيقى والغناء . وكان يكلمنى كثيرًا مبديًا إعجابه أو حماسته حسب الظروف . ولكن أغنية الجندول بدت له غير مألوفة . وقابلنى وجهًا لوجه فى فندق سان استيفانو فيما أذكر فصاح فى وجهى بما معناه : إيه الأغنية اللى عملها دى ؟ وأبدى امتعاضه الشديد منها . وبعد أسابيع أو شهور اتصلت بى السيدة زينب الوكيل وقالت إن الباشا يريد أن يكلمك . وكلمنى ليقول إنه سمعها مرارًا وأنه غير رأيه فيها بعد أن كان اختلف مع مكرم باشا اختلافًا شديدًا حولها .
« كان مكرم عبيد سياسيًّا فريدًا من نوعه . يسلب قلب الجماهير , ويتألق بين خاصة الخاصة , بحكم شخصيته المتميزة وثقافته الواسعة » .
كان هذا ما ختم به عبد الوهاب عن صديقه مكرم .
وأختم أنا عن عبد الوهاب , أنه الهرم الأكبر للموسيقى والغناء , وأنه لا يوفيه حقه مجرد لقب « موسيقار الأجيال » ـــ فالكل يعرف أن من عباءته نشأت وترعرعت أجيال , وأن أجمل ما يذكر لهذا الهرم الشامخ , أنه إلتفت إلى موهبته , وأعطاها حقها من العناية , ومن الدراسة , ومن الحفاظ على حياته وصحته , كيما يواصل العطاء , الذى كان قد بدأه المرحوم الشيخ سيد درويش , وكان جديرًا هو الآخر ــ وعبد الوهاب يعطيه حقه ـــ بأن يحقق الكثير والكثير للموسيقى العربية , لولا أنه لم يكن يراعى صحته , واختطفه الموت وهو فى مطلع الشباب , فى أول الثلاثينات من عمره , بيد أن محمد عبد الوهاب قد حمل الراية , وحرص على كفالة حملها , بما فى ذلك النظام الصارم الذى عاش عليه , وبنى أهرامات فى عالم الموسيقى والغناء , ومن عباءته خرجت أجيال , وعشقته الملايين , وصار أيقونة عصر بأكمله !