بين مفهوم الأكثرية ومفهوم الأغلبية

بين مفهوم الأكثرية ومفهوم الأغلبية

نشر بجريدة الشروق الخميس 14 / 1 / 2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

ظني أن الهدف البعيد للأستاذ العقاد، من إثارة موضوع « الأكثرية » هي التفرقة الواجبة بين الأكثرية عددًا، وبين الأغلبية قيمة زيادة على مجرد الزيادة العددية . لهذا التمييز قيمة ارتأتها الشورى في « أهل الحل والعقد » وارتأتها النظم الديمقراطية الحديثة في الشروط التي توضع للممارسة أو الترشح، بالنظر إلى السن، إلى درجات التعليم بالنسبة للترشح، واللياقة الطبية فيما تزيدت فيه بعض التشريعات على نسق قد يختلف في التفاصيل .

وقد رأينا سلفًا ما خلص إليه الأستاذ العقاد من أنه إذا كانت طاعة « الأكثرية » تضل أو يمكن أن تضل عن سبيل الله، أو تضل عن الصواب، وأنه من ثم ليس من الرشد للأكثرية ذاتها أو لغيرهم أن يكون لهم الحكم الصالح .

وإنما تبعات الحكم ـ فيما أورد ـ على الأمة كلها بجميع عناصرها، وترجع الشورى إلى أهل الشورى، وهي لا تكون لغير ذي الرأي وذي الحجة، ويصبح المؤمنون كالإخوة في المعاملة « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ »، بيد أن العالمين منهم أحق بالطاعة .

ولكن من الذي يحدد أن هذا أو ذاك غير ذي رأي أو غير ذي حجة ليستبعد من الشورى ؟!!

لقد ساق الأستاذ العقاد معايير للمفاضلة بين قدرات الناس في شأن العلم أو القدرة أو الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو في التعاون على المصلحة العامة .

ففي القرآن الحكيم: « قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لاَّ يَعْلَمُونَ؟ » ولهذا كانت أمانة الحكم في الأمة مقرونة ـ فيما يقول العقاد ـ بأمانة مثلها لا تقل عنها شأنا، ولا يستقيم أمر الأمم بغيرها، وهي أمانة الدعوة والإرشاد .

وفي القرآن: « وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »

وشر ما تبلى به جماعة بشرية من سوء المصير إنما مرجعه ـ فيما يقول ـ إلى بطلان هذه الدعوة، والتغاضي عن المنكرات .

وكذلك كان مصير الضالين من بنى إسرائيل.. « كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ » .

وعلى أبناء الأمة جميعًا أن يتعاونوا على المصلحة العامة، وإقامة الفرائض والفضائل..

« وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ » .

فالحاكمون والمحكومون جميعًا متعاونون في أمانة الحكم وأمانة الإصلاح.. كل بما يستطيع، وكل بما يصلح له، وما يصلح عليه، ولا حَقَّ في الطغيان لفردٍ جبار، ولا لجماعةٍ كثيرة العدد.. بل الحق كله للجماعة كلها، بين التشاور والتعاون، والتنبيه والإرشاد والاسترشاد .

وما من جماعة بشرية تتم فيها أمانة الشورى، وأمانة الإصلاح، وأمانة التعاون، ثم يعروها انحلال أو يخشى عليها من فساد .

ومع وجاهة ما أبداه الأستاذ العقاد من حجج، إلاَّ أن النظرية يعوزها أنها تفتقد السلطة صاحبة الحق في الفرز والتجنيب في مباشرة الشورى أو مباشرة الحقوق السياسية بلغة العصر، ولعل هذا هو أقوى الحجج على محاذير اعتبار الخلافة من أصول الحكم في الإسلام، وأن الأنفع والأجدى والموافق أكثر لمفهوم القرآن، أنه قدم مبادئ عامة واجبة الرعاية في الحكم، ولكنه لم يلزم بحكومة خاصة، بل ودعا للشورى دعوة عامة دون أن يحدد لها أسلوبًا محددًّا، تاركًا التفاصيل والتحديد لما يوافق مصالح الناس في كل زمان ومكان، ولذلك كان المسلمون على الشورى في مبايعة أبى بكر، وعلى الشورى في قبول مبايعة عمر بعد تسمية أبى بكر له، وعلى الشورى في قبول مبايعة عثمان بعد أن قدمه عبد الرحمن بن عوف المتحدث باسم جماعة الشورى التي شكلها عمر قبل وفاته، وعلى الشورى في مبايعة على، رغم اختلاف الأسلوب في كل مبايعة من هذه المبايعات عن الأخرى، وحاصل ذلك أن القرآن الحكيم دعا يقينًا إلى الشورى دعوة عامة، ولكنه ترك الأسلوب والتفصيل للاجتهاد بما يوافق الظروف والمصلحة في كل عصر ومكان .

وبالقطع فإني لا أريد هنا أن أصادر على رأى الأستاذ العقاد، أو أن أبدي رأيي في شأن هل الخلافة أو الحكومة من أصول الإسلام أم ليست من أصوله، وإنما أردت أن أضع أمام القارئ الاعتبارات المتقابلة، وهو يطالع ما أبداه الأستاذ العقاد في شأن الحكومة في القرآن .

موافقة الحكومات العصرية

لا يفوت المتمعن، أن الأستاذ العقاد أفصح عن أن الحكومة التي وصفها القرآن، هي حكومة توافق الحكومات العصرية، وأن سمتها البارز هو الديمقراطية، وتدار على مبدأ الشورى والمساواة، ولمصلحة المحكومين، ورفض السيطرة الفردية أو الاستبداد .

وهو بذلك يؤصل أن هذه الحكومة ليست حكومة ثيوقراطية تحكم باسم الإله، أو تدعى أنها ظله في الأرض، وقد رأينا في مقالة « حكومة النبي وخلفائه »، إفصاحه عن أن حكومة النبي عليه السلام وخلفائه الراشدين لم تكن حكومة « ثيوقراطية »، أي حكومة يستأثر بها رجال الدين أو طائفة من الرهبان والأحبار، ولا تشارك فيها الأمة برأي، وإنما الحكم في الإسلام حق لجميع المسلمين، يتولاه الأكفأ الصالح له الذي تتفق الجمهرة على صلاحيته للحكم .

هذا وليس رفض « الثيوقراطية » والانحياز إلى حكومة مدنية خروجًا عن الإسلام، وإنما رفض للحكومة الدينية التي ترى أنها تحكم باسم الله، وأنها ظله في الأرض، تتحدث بمشيئته وتعمل بإرادته كما أبدى أبو جعفر المنصور صراحة في إحدى خطبه، أما الحكومة المدنية فإنها لا تنسلخ من الإسلام، وتطبق أحكامه ومبادئه المنظمة للحياة دون أن تتماحك بأنها تحكم باسم الله أو أنها ظل الله في الأرض، وعلى العكس من هذا النظر« الثيوقراطي » بدأ أبو بكر خلافته بخطبة قال مما قاله فيها: « قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن صَدفت ( أي حدت ) فقوموني » .

وقال عمر بن الخطاب في أول حديث له بعد مبايعته: « أيها الناس ! ما أنا إلاَّ رجل منكم، ولولا أنى كرهت أن أردَّ أمر خليفة رسول الله ـ ما تقلدت أمركم »، وعاد فقال في اليوم الثالث لولايته: « ولكم علىّ ألا أجتبى شيئًا من خراجكم ولا ما أفاء الله عليكم إلاّ من وجهه، ولكم علىّ إذا وقع في يدى ألا يخرج منى إلاّ بحقه.. فاتقوا الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عنى ! وأعينوني على نفسى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما وليت من أمركم » .

*      *      *

وألحق الأستاذ العقاد بقواعد الحكم ـ قواعد التوزيع الثروة، وهي في القرآن تمنع ـ فيما يرى ـ الإسراف وتمنع الحرمان..

فاختزان الأموال وكنزها محرم كل التحريم، فقد جعل المال للإنفاق في سبيل الله، وفي حركة الحياة ومصلحة الناس، وفي طيبات العيش، وما يعود بالنفع على مرافق الحياة..

وورد بالقرآن الكريم تحريمًا للكنز:

« وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ » ( التوبة 34 ) .

والعاجزون عن العمل، والمحرومون من أسباب الرزق، محسوب حسابهم، ومكفول لهم نصيب في الثروة العامة، فريضةً لازمة لا تبرعًا يختاره من يختار أو يرفضه من يشاء..

« خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا » ( التوبة 103 ) .

وإيتاء الزكاة أمر موجه إلى كل مسلم قادر عليها..

« وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ » ( التوبة 11 ) .

ويضيف الأستاذ العقاد أن الأمم لا تمتحن بالبلاء في نظامها وفي قواعد حكمها، إلاَّ بسبب هاتين الآفتين: أموال مخزونة أو مكنوزة لا تنفق في وجوهها، وفقراء محرومون لا يفتح لهم باب العمل، ويوصد في وجههم باب الرعاية..

وهاتان الآفتان ممنوعة مرفوضة متقاة في القرآن .

بقى أن أقول إن الإحاطة بنظرة الأستاذ العقاد في الحكم والديمقراطية في الإسلام، قد اكتملت اكتمالاً جديرًا بالتقدير، بكتابه « الديمقراطية في الإسلام » ( 1952 )، وسيأتي عنه حديث .

زر الذهاب إلى الأعلى