بين لعب الدنيا ومعنى الحياة (5)
من تراب (1004)
بين لعب الدنيا ومعنى الحياة (5)
نشر بجريدة المال الأربعاء 23/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
والأصل في أسبقيات الآدمي المحافظة على الذات ومن يتبعها، ثم تتلوها رغبة التملك ويقظة الآدمي لدوام الزيادات فيها، ثم ظهور قدرته على الاتساع، ثم تعلقه بالنفوذ والتسيد والسلطة.. وهذه الإضافات ابتعادات مطردة يؤدى بعضها إلى بعض وتؤدى إلى الانتقال من مجرد المحافظة وتوقى الفاقة والحاجة ـــ إلى الجري وراء الاغتناء والتميز والعظمة ( الدنيوية ! ) بأشكالها وألوانها التي يتزايد معها الابتعاد عن الآدميين العاديين والمتقاربين في المستويات المألوفة في هذه أو تلك من الجماعات !
هذا الانتقال الجاري بغير انقطاع في الجماعات ماضيها وحاضرها، بالتصاعد في المستويات من العادي إلى الخاص غير العادي، هو من أسباب الخلل الهام في الجماعات البشرية كلها سابقها ولاحقها.. كبيرها وصغيرها.. ما تقدم منها وتطور، وما بقي منها جامدًا أو ساعيًا إلى التطوير حسب قدرة وظروف وطاقات أهله.. فهذا الانتقال قد شابه دائمًا ظهور الأنانية وتغلغلها في الناس وتراجع الإخلاص النقي التام الذي أوهنته الثروة وافتقد الشحنة الصادقة.
فهل يفقد البشر تلك الأنانية الكئيبة إن اتصلوا اتصالا كافيًا وافيًا بالكون العظيم ؟ إن تم ذلك كان فرجًا ولطفًا ورضاءً ونعمةً كبرى مَنّ بها المولى جل وعلا على أحيائنا وعلى أمواتنا الذين سعوا في إتمام نعمته هذه بطلبهم وكفاحهم من أجله مع ضآلته.
وكل منا دون أن يلاحظ ويقصد يعيش دنياه لدنياه هو ولمن في حضنه أو كنفه ـــ دون أن يحسب حساب وجود غيره ـــ إلاّ مصادفة وأحيانًا فقط !.. وهذه هي انفرادية « ذات » كل منا التي لا يشاركه فيها غيره، والتي هي تخصيص وتحديد حياته ماضيها وحاضرها ومستقبلها إلى آخره.. تدفع كـل حي دفعًا لا ينقطع إلى منتهاه هو ـــ آخر الأمر ـــ لأن يسعى أولاً لنفسه لأنها هي التي تشقى وتنتقى وتختار، وتقتنى وتحفظ، وتبدل وتغير، وتهدئ وتثير، وتسوق وتتراجع، وتشجع وتخيف، وتتعرض وتتفادى، وتهاجم وتهرب، وتخاصم وتنتقم، وتقاوم وتستسلم !
إن ذات كل منا لا تطابق غيرها قط حتى في التوائم.. وهي تتشابه وتتخالف في ذات الوقت مع غيرها بنسب ليس لها آخر من تلك المشابهات والاختلافات الدائمة.. وهو ما يفسح مجالات وفرص التقارب بمداها وأبعادها، ويتيح أيضًا أسباب الخلاف والنزاع بظهور الخصومات أو العداوات بين الأفراد.. وهذا التقارب والتباعد لا ينقطعان في أي زمان وأي مكان في جميع الجماعات كبيرها وصغيرها قديمها وحديثها.. متطورها ومتخلفها.. لأن تكوينها أو تجمعها مبناه دائمًا وفقط مواجهة الاحتمالات ونتائجها لدى الأفراد والأسر والطوائف والطبقات في اختلاف الأزمنة.. من اليسر والعسر والشباب والشيخوخة والنهوض والإقدام ـــ إلى الركود والتراجع والافتقار والأزمات !
وفينا باستمرار ـــ تمسك لا ينتهي بالماضي والماضين.. وإصرارنا على ضرورة هذا الاتصال بالماضي وأهله قد أبعد عنّا كثيرًا خوف الوحدة وكره الغربة والشعور الموحش بانعدام النصير القريب والأهل والأصل. فهو لنا من معالم الأنس والتشجيع والاطمئنان والأمان.. ويبدو أن حياة الآدمي حتى في المتاعب والمكاره والمشاق والأزمات والآلام والفواجع ـ لا تستغنى عن اللواذ بشيء من تلك المعالم المهدئة التي لا تحتاج عند كل منّا ـــ لأي إثبات خارجي غير الشعور القوى بذاته ووجودها وبقائها ما بقيت لديه.. وبهذا الاعتقاد ومثله من الثقة الداخلية أمكن أن يستمر الآدميون في البقاء والصمود والتكاثر إلى اليوم والغد.. برغم تعقد وتشعب وتفاقم مشاكل الحياة الآن في سائر الجماعات إلى ما لم يمكن وصفه وتحمله فيما مضى!.. هذا وبطول الأزمات التي لم تتوقف، بات معظم البشر لا يلتفتون إلاّ إلى الحاضر، ولا يبالون بالمستقبل.. شديدي السطحية وقلة الصبر والعمق والجد !.. نسوا أو كادوا ـ في الاشتغال بما هو دائمًا أمام أعينهم وما يتلقونه في أسماعهم وما يجدونه من التهليل ـــ نسوا ما لا يمكن أن تعرف حقائقه وأعماقه إلاَ العقول السليمة النزيهة.. هذه العقول القليلة التي أخفاها عادةً فينا إسهاب الكـلام بكـل وسيلـة وحيلة وقلة بل انعدام الأمانة في الأفعـال ثم تجمع الأطماع وتساندها وتنافسها وتضاربها وتعاديها.. هذه الشوائب التي لم ولا تترك أية فرصة للتأمل والالتفات واليقظة الداخلية، وإنما تغلبه وتستغرقه دنيانا اللاهية معنا وبنا !
إن كثرتنا الكاثرة في الجماعات كلها قديمًا وحديثًا وفي كل جيل دائمًا وقتية النظرة والتركيز والعزيمة والغاية والفرصة.. لا تأنف من تكرار التغيير في الرأي والموقف والعلاقة والسلوك والقرار والاتجاه والجانب.. وربما كان ذلك سببًا لإذعانها المألوف لكل ما يفرض عليها إن كان فارضه أصلب رأيًا أو أطول نَفَسًا أو عنادًا أو يدًا.. تحتمل ما يفرضه وينفذه وهي راضية أو مذعنة، إنْ كان ما قصده خيرًا فهو أو معظمه له، وإنْ كان شرًا فعليها وحدها أثقاله وأعباؤه.. تنشغل الكثرة الكاثرة بما استغرقت وأغرقت نفسها فيه من لهو ولعب وزينة وتفاخر، تنشغل بها عن قيمة الجد والالتزام والإخلاص وعن معنى الحياة التي أرادها الله تعالى سبيلاً إلى التي هي خير وأبقى.