بين لعب الدنيا ومعنى الحياة (3)
من تراب الطريق (1002)
بين لعب الدنيا ومعنى الحياة (3)
نشر بجريدة المال لاثنين 21/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
لم يعد الريفي يبقى أولاده أو أحفاده إلى جانبه إلاّ نادرًا.. فقد انصرف مهتما شديد الاهتمام إلى تعليمهم التعليم الوافي لكي يعيشوا في المدينة أصحاب مهن معترف بها.. هكذا فكك الريف تكوينه القديم في أقل من خمسين سنة لأغراض فردية شخصية صرف.. لم يحاول الريفي قط تقليب الرأي فيها ـــ فزج بمن معه في تيه عميق لا أول له ولا آخر لا يعرف كيف يمكن أن يبقى فيه أو يخرج منه إلى ما هو آمن إن وجده، فغطت الوقتية السطحية الضيقة جدًّا نبت سنتها أو فصلها أو موسمها حياة البشر.. ثم اختفت غير مأسوف عليها إلي
ما نسميه الجديد أو الحديث أو المبتكر الذي لا يقف تواليه إلاّ إذا عم الكساد والبطالة وأحس الكل بالضيق أو الاختناق في الأزمات العامة وأحيانًا مع المصائب والنكبات والنهايات !.. فنحن قد فقدنا نهائيًا من سنين ليست قليلة ـــ معاني الثبات والإيمان والاعتقاد ومعها الاتزان والاستقرار والثقة في المستقبل الذي ننتظره.. ربما يشعر بعض طوال الأعمار الآن بغرابة من هم في الدار أو في الطريق أو في السيارة أو السفينة أو الطائرة.. إذ لم يعد في إمكانهم هضم وتمثل نوع الحياة الحاضرة ومبلغ سطحيتها ووقتيتها، برغم ما فيها مما لم يسبق له مثيل في ماضي البشر من الكثرة الكاثرة من القارئين والكاتبين والمعلقين والمتحدثين والناقدين والمؤلفين والشارحين والمفسرين والملخصين والمترجمين والصحفيين والإذاعيين وأكابر الفلسفة والعلم الوضعي أو الديني وأصحـاب الشهرة في الفنون والآداب بألوانها وأنواعها حديثها وقديمها..
إذ غزارة هذه الفئات وفيوض نواتجها التي لا تنقطع ـــ لم تنجح قط في ضمان المحافظة على ذلك التماسك أو الترابط النسبي الذي كان يجمع من قبل جماعات البشر كل منها في نطاق حدودها ورعيتها، ويحدد لكل منها الأصدقاء وغير الأصدقاء من أمثالها ومن حيث الزمان والمكان والقدرة المتاحة والاستعداد الذي لا غنى عنه.. فإذا كان ما معنا اليوم من مظاهر الحضارة ومعالمها جسيمًا جدًّا ليس له من قبل نظير، فقد باتت الآن أعماق هذه الحضارة وأركانها وقواعدها هشّة واهية الأسس عرضة للانهيار في أي وقت!.. هذا الانهيار يتناساه الناس في هذه الأيام وأمثالها عامدين إلي المغالاة في الإكثار من التحرك والتنقل مع الإسراف في لغو الحديث واختلاقه كلما سنح الاختلاق مع الإمعان في الأخذ والإقلال في العطاء، وفي التباهي بسهر الليل في اللهو علي بدار النوم في العشاء لانتظار الفجر والكد والجد كما كان يفعل الفلاح في الزمن الفائت، وبالازدحام الهائل غير المسبوق من جميع الطبقات علي ملاعب الرياضة ومسارح الكوميديا والأسواق والشواطئ، مع سهر الأسر بأسرها إلي آخر الليل في مشاهدة ما استجد من أنواع وعجائب التليفزيون والإذاعات.. بلا مبالاة بمطالب النهار وضروراته وواجباته وأعبائه ولوازمه وأعماله، أو اكتراث بما يفرضه هذا اللهو من النفقات التي لم تعد تقف عند حـد في جميع المستويات.. إننا بعامة لم نعد نعرف معنى المبالاة !.. وهذا بلاء أي بلاء سندفع جميعا ثمنه حتمًا إن عاجلاً أو آجلاً.. ما لم يطرأ علينا ما يحملنا حملاً علي الإفاقة واليقظة !
جميع الآليات التي ظهرت في زماننا هذا بكثرتها الهائلة وغرائبها وتهافتنا بغير دراية على استعمالها أو امتلاكها ومسارعتنا إلي استبدالها بالجديد، فضلاً عن المكتشفات العميقة التي توالت هنا وهناك يزاحم بعضها بعضًا في رؤانا وانبهارنا بها.. كلها تخاطب في الواقع خيالنا في أغلب الأحيان قبل عقولنا وفهمنا.. يستغلها أصحاب الأموال والأعمال والمعامل والمصانع جريًا منهم وراء المكاسب العاجلة المتدفقة مع انسياب الآمال والأحلام لدى الجمهور المتعطش لما لم يعرفه، المستسلم لبيانات وأوصاف وإرشادات وفوائد ومنافع لأشياء ونتائج وآثار لم يجربها قبل أن يتقبلها ويستعملها استسلامًا أو امتثالاً أو تقليدًا وخوفًا من أن يسبقه فيها آخرون يعرفهم أو لا يعرفهم.. إذ البشر بعامة لم تعرف قط إلي اليوم شيئًا كائنا ما كان أو يكون ـــ بدقة تامة لا تنقص ولا تزيد، كمـا لـم تعـرف قـط حتى الآن شيئًا كائنًا ما كان حتى « الذات » التي لم تعرفها بيقين أو صدق لا يشوبهما أي خيال أو وهم أو غموض !.. معظم البشر يحمل بشائر ووعودًا أو آمالاً أو يحمل شكوكًا أو مخاوف أو نذرًا بكوارث.. فهذه وتلك يداولها أي آدمي قلـة أو كثـرة أو توازنًا ما عاش.. ويندر أن يعيش عمره كله على الأمل وحده أو على اليأس فقط.. وهذا التأرجح الملازم في تصورات كل آدمي لِخُطَى حياته ومساراتها، له آثاره الحتمية في تركيب كيانه البدني والمعنوي، وفي تركيب علاقاته البشرية كلها.. من الأسرة الصغيرة إلى الجماعة والأمة.. وهذه معرضة هي الأخرى لآثار قريبة الشبه أوسع نطاقاً وأبعد مدًى وأسرع تنقلاً وانتشارًا وامتدادًا وتعرضًا لكثرة الإضافة أو التغيير الذي لا يُعرف منشؤه.. وقد أدى ماضينا الطويل جدًّا في نظرنا جميعًا إلى استقرار أصول تلقيناها ممن سبقونا كما تلقوها هم أيضًا من أسلافهم بالقبول والاتباع والالتزام.. لا يتصورون وجود غيرها أو القدرة علي تعديلها أو تغييرها. ولم يكن من ذلك بد لأن الكل مخلوقون فانون في كوكب صغير توالي فيه بغير انقطاع الوجود والعدم في البشر كما في سائر الأحياء.