بين لعب الدنيا ومعنى الحياة (1)
من تراب الطريق (1000)
بين لعب الدنيا ومعنى الحياة (1)
نشر بجريدة المال الخميس 17/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يظن الآدمي من قديم القديم حتى يومنا هذا، أن لهوه جزء فقط من حياته، وأن حياته الجادة أهم وأكبر بكثير مما نسميه اللهو، لأن عليه أن يسعى ويجد ليحفظ أو يضمن موارد حياته بقدر طاقته خلال عمره.. قيامًا منه بواجباتها وأشغالها وأعمالها وهمومها إلى أن يبلغ شيخوخته أو ينتهي أجله.. يتشكل هذا في ظن الآدمي بحسب غرائزه وطباعه وعاداته وكفاياته وسنه وعصره مع ما تقتضيه ذكورته أو أنوثته.
والواقع لدى التأمل العميق وإطالة النظر وتقليب الأحداث من البدايات إلى النهايات أنه برغم أهمية هذا الاعتقاد لسعى الآدمي وجده واجتهاده في دنياه، إلاّ أنه يفوت معظمنا أن دنيا البشر كلها بقضها وقضيضها ـــ لهو ولعب وتفاخر بالأموال والأولاد !.. تردد هذا المعنى كثيرًا في القرآن الحكيم.. فقال جل وعلا: « وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ » ( الأنعام 32 ).. وزادت الآيات الكريمات هذا المعنى وكادة، في قوله سبحانه وتعالى : « وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ » ( العنكبوت 64 ).. ويقول ـــ عز من قائل ـــ في سورة محمد : « إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُـمْ أَمْوَالَكُمْ » ( محمد 36 ).. وبيانا لفساد وقلة جدوى ما يقع فيه الناس من لغو الدنيا ولهوها والتفاخر فيها بالأنساب والأموال وبغيرها، يقول القرآن المجيد « اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ في الأَمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ » ( الحديد 20 ).. هذه المعاني هي هي ما أعلنه وردده فهم الأنبياء ـ وأنكره أو تحاشاه أو لم يفطن إليه عناد الناس.. هذا العناد والإنكار والواقع المر لأغلبية البشر ـــ أدركته القلة القليلة دائمًا من النادرين اليائسين من تغيير مشارب أغلبية الخلق الغالبة طوال توالى أحقاب الآدميين وأطوارهم.. فهذه الكثرة الساحقة استحال عليهم إلى يومنا هذا أن يغيروا تقسيم حياتهم إلى جد وهزل، أو عمل ولهو.. ناسين أن جدهم أكثره هزل، وأن عملهم أغلبه أنانية ومحاولة للكسب الذاتي الوقتي الذي لم يخرج ولا يمكن أن يخرج عن دائرة اللهو الفاني السطحي !
لكن قد نتصور إمكان تغير هذه الحال المزمنة المتردية في غلبة وزيادة وشيوع اللهو الآدمي ـــ إذا خرج البشر أو أغلبهم من شرنقة الاعتياد إلى الاتصال الدائم المجزي المجدي بالكون العظيم.. فبذلك يصبح بمقدورهم ـــ دون خفة أو نزق أو طيش ـــ الانتفاع الفاهم المتزايد بالكون العظيم مع التخلص من خداع اللهو الذي يشمل خاصتهم قبل عامتهم خلال
ما مضى من السنين حتى الآن !
أصاب الأنبياء ــــ عليهم السلام ـــ في تسمية عالمنا بالدنيا ـــ لحقارة تعلقنا جميعًا بهذا العالم الدنيوي وشدة غرقنا وتفانينا فيه وكثافة التصاقنا به!.. فهو عالم ربطناه بأنفسنا وقيدناه بأرضنا حتى اليوم.. بيد أن انفتاحنا الجاد على الكون العظيم إن استمر واشتد، سوف يوقظنا من قبضة الخضوع والخنوع لدنيانا التي سادت ذلك الدهر الأطول.. يحدث ذلك إذا بدأنا نفهم الكون ونتيقظ ونحلل ونجرب ونزيد من إقبالنا عليه وإصرارنا على تتبع أسراره.. هذا الطريق الهائل الغنى إن صح التفاتنا واطردت واتسعت معارفنا وغنى فهمنا وامتدت علومنا بالتعلق به وبتتبعه في أبعاده المذهلة ـــ هذا الطريق هو الذي ينقلنا من عالمنا الحاضر الكئيب الذي عاش ويعيش على الظنون والأوهام وتنهشه المخازي والمخاوف والأزمات والنكبات ـ إلى عالم عظيم يسوده دائمًا الفهم والمعرفة والعقل والحساب.. ننسى فيه تمامًا غوغاء الحاضر وماضيه
وتخبطه.. عندئذٍ ينسى معظم الناس بالفهم والمعرفة وبالعقل وبالحساب ـــ كل قيمة للمال وللسمعة وللمنزلة وللأصل وللزي وملابسه وللأناقة والرشاقة وللتملك.. وينسون الحسد والنقد الذي لا ينقطع والمنافسة الحمقاء والغل والأنانية البغيضة التي تقدم نفسها دائمًا على ما عداها.. هذا النسيان ـــ إن حدث ــــ يذهب غالبًا بألوف ألوف أسماء المعروفين أو المشهورين في الأحاديث والمقولات والروايات والحكايات في النوادي والمجالس والأسر، وفي الإذاعات وفي الصحف والمجلات، وفي الكتب والمكتبات، وفي الجماعات والجمعيات، وفي الجامعات والمعاهد والمدارس ــــ حاضرين أو ماضين ــــ فما معنا اليوم من ذلك كله مقولاً أو مطبوعًا أو مسجلاً أو متداولاً معظمه وقتي أو عارض زائل بزوال ماضيه !
ومن الحماقات الكبرى ظننا أن أحياء الأرض هم وحدهم أحياء الكون العظيم، وأن الخالق جل وعلا لم يخلق سواهم.. فهذه صغائر وبوادر بتنا الآن نتجاوزها بعد أن بدأنا نلتفت جادين إلى الكون العظيم وسعته وأهميته لنا ولغيرنا على أرضنا الصغيرة جدًّا بالقياس إليه.