بين حق الإمام وحقوق الأمة في الإسلام
بقلم : الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين رئيس اتحاد المحامين العرب
نشر بجريدة الشروق الخميس 10/2/2022
ـــــــــــ
هذا الموضوع ، يثير ولا يزال يثير جدلاً ـ لا سيما ما تثيره الجماعات الغالية المتطرفة ، واضعةَّ الإمام الذى تختاره لقيادة جماعتها ، فوق القانون ، ويشذ البعض ليعتبره ظل الله فى الأرض ، يحكم بلسانه ، ويعبر تعبيرًا مقدسًا عن الإرادة الالهية ، ومن ثم كان صورة لها نائبًا عنها لا يجوز مساءلته ولا مخالفته ولا مراجعته ولا مناقشته .
وليس هذا صحيحًا ، بل هو أبعد ما يكون عن الإسلام ، فالإمام فى الإسلام هو وكيل الأمة ، فى إقامة نظامها وحدود الله ، ولذلك فإن حق الإمام فى التبعية مرادف لحق الأمة ما دام قائمًا بهذا الواجب أى بهذه الأمانة .
وعلى ذلك فوجوب طاعته ، هى فيما يدعو إليه لمصلحة الأمة .
وليس له أن يعطل حدود الله ، أو أن يقيم حدًّا فى غير موضعه .
وعليه تقع تبعة الأمة فى تقدير مصالحها وضروراتها وما يترتب على ذلك من إجراء الأحكام والتوفيق بينها وبين أحوالها ..
وموضع الاجتهاد الذى يطلب إليه فى مسائل التشريع ، ما سبق تفصيله من أقوال الفقهاء فى أبواب القياس والاستحسان والاستصلاح وغيرها من أصول استنباط الأحكام من واقع أدلتها التفصيلية ، فيما يحيل فيه الأستاذ العقاد ـ إحالة فى موضعها ـ على ما أجمله العالم الفاضل الشيخ عبد الوهاب خلاف فى كتابه عن مصادر التشريع الإسلامى ، وأيضًا كتابه فى « أصول الفقه » وهو ما أسلفناه فى تناول كتاب « التفكير فريضة إسلامية » وما أحلت وأحيل عليه من كتابى : « الإسلام يا ناس » (2013) .
ويعنى الأستاذ العقاد عناية فى محلها ، بوجوب الاجتهاد ، وأوله جواز الاجتهاد بل وجوبه وأمثلته كثيرة فيما ثبت من أعمال النبى عليه الصلاة والسلام وأعمال الخلفاء الراشدين ، لا سيما الفاروق عمر ، فضلاً عن الإمام على الذى كان الفاروق يقول عما يفتيه فيه : لولا على لهلك عمر .
ومن اجتهادات عمر مدة خلافته : الإعفاء من العقوبة (استنادًا للضرورة فى عام المجاعة) ، وإسقاط سهم المؤلفة قلوبهم ، وفرض الخراج ، وإنشاؤه من المكافآت والعقوبات ما لم يكن معمولاً به قبل خلافته .
وليس صحيحًا ما يظنه البعض أن الفاروق خالف النص فى قضية سهم المؤلفة قلوبهم ، وإنما الصحيح أنه اجتهد فى فهم النص وتطبيقه كما ينبغى .
وأنفذ عمر فتوى على رضى الله عنهما حين أفتى بمعاقبة شارب الخمر بعقوبة القاذف ، أخذًا بأن المخمور لا يملك لسانه ، وأمضى أيضًا كثيرًا من المكافآت على هذا القياس .
ومن اجتهاد عثمان ـ الأمر بكتابة المصحف على حرف واحد منعًا لاختلاف الألسنة فى القراءة .
ويوشك « الإمام علىّ » ــ أن يكون له رأى فى كل معضلة عرضت للخلفاء من قبله ، فضلاً عن فتاواه فى خلافته ، وربما رأى الرأى ثم عدل عنه ثم عدل عن عدوله كما حدث فى فتواه ببيع أمهات البنين ، والذى استقر فيه على المنع أخذًا بما اتفق عليه مع عمر .
وقد ساهم أهل الذكر من العلماء فى دعم أسس التشريع واستنبطوا له الضوابط والآداب من كتاب الله وأحاديث الرسول ومأثور السلف الصالح ، وخلصت لهم من جهودهم نخبة قيمة من القواعد والشروط يحق أن نسميها « قوانين التقنين » .
ومن هذه القواعد ـ تمثيلاً لا حصرًا ـ أن اليسر مفضل على الحظر فى أوامر الشرع ونواهيه ، وأن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا ، وأن ما رآه المسلمون حسنًا فهو حسن ، وأنه « لا يجوز إقامة الحد مع احتمال عدم الفائدة » .. أو الضرر من باب أولى ، وأن الضرورات تبيح المحظورات ، وأنه لا ضرر ولا ضرر ، وأن اختيار أخف الضررين مصلحة ، وأن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ، وأن الصلح جائز بين المسلمين إلاَّ ما أحل حرامًا أو حرَّم حلالاً .
ومن ضوابط التشريع فصل السلطات وفصل عمل الحكم عن عمل التنفيذ ، وحق النقض « فيما خالف نص آية أو سنة أو إجماع … » .
ومن البداهة أنه ليس للإمام أكثر مما كان للنبى عليه الصلاة والسلام .. فإليه وعنه تحدثت آيات القرآن الكريم فقالت …
« لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ » (آل عمران 128) .
« إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ » (الكهف110) .
« وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ » (ق45) .
وهو عليه الصلاة والسلام كان مأمورًا بمشاورة المسلمين .
« وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ » (آل عمران159) .
والمسلمون مأمورون بالمشاورة فيما بينهم ..
« وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ » (الشورى 38) .
وليس حق الإمام بالبداهة حقًا لشخصه ، وإنما بموجب البيعة والأمانة العامة ..
ومن تمام التكافل « والتضامن » فى المجتمع الإسلامى ـ أن أمانة « الإمامة » لا تعفى الأمة من واجب النصح له ، ولا تحله من واجب الاستماع وخفض الجناح الذى أُمِر به رسول الدعوة عليه الصلاة والسلام .. « وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ » (الحجر88) ، « وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » (الشعراء215) .
وختام القول ، أن باب التشريع مفتوح فى كل عصر وكل مجتمع ، وأنه يكفل للأمة الإسلامية ما يكفل حق السيادة وزيادة .. ما بقى التشريع مستمدًا من ضمير الإنسان وكلمة الله .
وقد أوقع الجهل ــ أوقع البعض ، فى الزعم بأن الإسلام ينطوى على نقائض ، وادعى هذه النقائض نقاد أجانب ، ومرد هذا الخطأ إما إلى الجهل بالإسلام ، أو الجهل باللغة العربية ، وهو جهل يؤدى ــ شاءوا أم أبدا ــ إلى خطأ قراءتهم ، وخطأ فهمهم لما أولوه تأويلا شاردًا مرده إلى الجهل باللغة المكتوب بها .
من ذلك فيما يقول الأستاذ العقاد فى كتابه الضافى عن حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ، كتاب وضعه أحد هؤلاء عن « الشيطان » ، جعل يلم فيه بصفة « إبليس » المذكورة فى الإسلام ، ويستغرب من الدين أن يقول عن الله إنه أمر الملائكة بالسجود لآدم ، مع أنه الدين الذى اشتهر بالتشدد فى إنكار وتكفير كل سجود لغير الله .
ومرجع خطأ الكاتب أنه فهم السجود بمعنى الصلاة دون غيرها من معانى الكلمة فى اللغة العربية ، وهى معان معروفة فى اللغة العربية قبل أن يعرف العرب صلاة الإسلام .. ولم يفهم العرب من الكلمة أنها تنصرف إلى العبادة دون غيرها ، من ذلك أنهم يقولون :« سجدت عينه » أى أغضت ، وأسجد عينه أى غض منها ، وسجد أى غض رأسه بالتحية .. ولا تناقض على معنى من هذه المعانى بين السجود لآدم وتوحيد الله . فالسجود هنا هو التعظيم المستفاد من القصة كلها ، وهو تعظيم الإنسان على غيره من المخلوقات .. والذى فيه قال القرآن الكريم « وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً » ( الإسراء 70).
وبعض هؤلاء النقاد يرى أن الإسلام مناقض بطبيعته للعمل والسعى ، لأنهم فهموا خطأً أن الإسلام تواكل وتسليم إلى الله بغير حاجة إلى الحول والقوة ، لأنه لا حول ولا قوة إلاّ بالله .
وجهل هؤلاء بالفهم أكبر من جهلهم باللغة .. فالإسلام أكثر دين دعا للعمل والسعى ، وهو يحرم على المسلم أن يسلم للظلم أو للتحكم ، وينهاه أن يستسلم للخيبة وللقسمة الجائرة ، أو أن يستسلم لقضاء لا يرضاه ويعلم أن الله لا يرضاه .
وبعضهم رأى أن الإسلام والسلم نقيضان ، لأنه فهم كلمة أسلم على أنها من قبيل التسليم فى الحرب أو تحاشيًا وخوفًا من القتال .. وفات هؤلاء أن كلمة « أسلم » فى الحرب مأخوذة من إعطاء اليد أو بسطها للمصافحة ، وأن مقصود الكلمة فى الدين أنها استقبال الله والاتجاه إليه ، وأن من أسلم وجهه لله فقد استقبل طريقه وأعطاه وجهه .
وقد ورد فى قصة إبراهيم عليه السلام فى سورة البقرة بالقرآن الكريم ، قوله عز وجل لنبيه أن أسلم قال أسلمت لرب العالمين …
« وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ » ( البقرة 130 ، 131 ) .